المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز - شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني - جـ ٢

[عضد الدين الإيجي]

فهرس الكتاب

- ‌ ابتداء الوضع

- ‌(مسألة: الواجب على الكفاية

- ‌(مسألة: الأمر بواحد من أشياء

- ‌(مسألة: من أخر مع ظن الموت قبل الفعل

- ‌(مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به

- ‌(مسائل الحرام)

- ‌(مسائل المندوب)

- ‌(مسائل المكروه)

- ‌(مسائل المباح)

- ‌(خطاب الوضع)

- ‌(المحكوم فيه)

- ‌(مسألة: لا تكليف إلا بفعل

- ‌(المحكوم عليه)

- ‌(مسألة: يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه

- ‌(مباحث الأدلة الشرعية)

- ‌(مباحث الكتاب)

- ‌(مسألة: العمل بالشاذ غير جائز

- ‌(مباحث السنة)

- ‌(مسألة: إذا علم بفعل ولم ينكره

- ‌(مباحث الإجماع)

- ‌(مسألة: لا يختص الإجماع بالصحابة

- ‌(مسألة: التابعى المجتهد معتبر

- ‌(مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة

- ‌(مسألة: الإجماع لا يكون إلا عن مستند

- ‌(مسألة: المختار امتناع ارتداد كل الأمة

- ‌(مسألة: يجب العمل بالإجماع المنقول بخبر الآحاد

- ‌(مباحث الخبر)

- ‌(مباحث خبر الواحد)

- ‌(مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز

- ‌(مسألة: مجهول الحال لا يقبل

- ‌(مسألة: الصحابى من رأى النبى عليه الصلاة والسلام

- ‌(مسألة: الأكثر على جواز نقل الحديث بالمعنى

- ‌(مسألة: إذا كذب الأصل الفرع

- ‌(مسألة: حذف بعض الخبر جائز

- ‌(مباحث الأمر)

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بمجردها لا تدل على تكرار

- ‌(مسألة اختيار الإمام والغزالى رحمهما اللَّه أن الأمر بشئ معين

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة

- ‌(مسألة: إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب الفعل

- ‌(مباحث النهى)

- ‌(مسألة: النهى عن الشئ لعينه يدل على الفساد شرعًا

- ‌(مباحث العام والخاص)

- ‌(مسألة: العموم من عوارض الألفاظ

- ‌(مسألة: الجمع المنكر ليس بعام

- ‌(مسألة: المشترك يصح إطلاقه على معنييه مجازًا

- ‌(مسألة: خطابه لواحد لا يعم

- ‌(مسألة: جمع المذكر السالم

الفصل: ‌(مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز

قال: ‌

‌(مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز

عقلًا خلافًا للجبائى، لنا القطع بذلك قالوا يؤدى إلى تحليل الحرام وعكسه، قلنا إن كان المصيب واحدًا فالمخالف ساقط كالتعبد بالمفتى والشهادة وإلا فلا يرد وإن تساويا فالوقف والتخيير يدفعه، قالوا لو جاز لجاز التعبد فى الإخبار عن البارى قلنا للعلم بالعادة أنه كاذب).

أقول: التعبد بخبر الواحد العدل وهو أن يوجب الشارع العمل بمقتضاه على المكلفين جائز عقلًا خلافًا لأبى على الجبائى، لنا القطع بذلك فإنا لو فرضنا أن الشارع يقول للمكلف: إذا أخبرك عدل بشئ فاعمل بموجبه، وعرضناه على عقولنا فإنا نعلم قطعًا أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته.

قالوا: أولًا: أنه وإن لم يكن ممتنعًا لذاته فهو ممتنع لغيره لأنه يؤدى إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال، بتقدير كذبه فإنه ممكن قطعًا وذلك باطل وما يؤدى إلى الباطل لا يجوز عقلًا.

الجواب: إن قلنا: كل مجتهد مصيب فسقوطه ظاهر إذ لا حلال ولا حرام فى نفس الأمر إنما هما تابعان لظن المجتهد ويختلف بالنسبة فيكون حلالًا لواحد حرامًا لآخر، وإن قلنا: المصيب واحد فقط فلا يرد أيضًا لأن الحكم المخالف للظن ساقط عنه إجماعًا، وما هو إلا كالتعبد بقول المفتى والشاهدين إذا خالفا ما فى الواقع، وهذا يصلح مستندًا ونقضًا بالاستقلال، لا يقال هذا بالنسبة إلى مجتهدين لكن يؤدى إلى التناقض عند تساوى الخبرين بالنسبة إلى مجتهد واحد لتعارضهما من غير ترجيح لأنا نقول: التوقف وهو عدم العمل بهما، كأن لا دليل إذ شرط العمل عدم المعارض أو التخيير وهو تجويز العمل بأيهما شاء يدفع وروده.

قالوا: ثانيًا: لو جاز التعبد به لجاز التعبد فى الإخبار عن البارى وهو باطل، بغير معجزة إجماعًا.

فالجواب: لا نسلم الملازمة لأن العادة ثمة قد أفادت أن من ادعى النبوة بدون معجزة فهو كاذب وأيضًا فالفرق بأنه يفضى ذلك إلى كثرة الكذب فيه عادة بخلاف الإخبار.

قوله: (وهذا) أى التعبد بقول المفتى والشاهدين يصلح مستندًا لمنع وروده على تقدير كون المصيب واحدًا، ونقضًا للدليل بأنه لو صح بجميع مقدماته لما جاز

ص: 424

التعبد بقول المفتى والشاهدين لجريانه فيهما واعلم أن كلام الشارح العلامة فى هذا المقام من التطويل والاضطراب بحيث لا يحظى الناظر فيه بطائل.

قوله: (لا يقال) إشارة إلى أن قوله: وإن تساويا فالوقف والتخيير يدفعه جواب سؤال تقريره: أن ما ذكرتم من تعدد الحكم فى الواقعة الواحدة على تقدير تصويب المجتهدين وتعين الحكم الموافق للظن وسقوط ما يخالفه على تقدير تصويب الواحد إنما يتم بالنسبة إلى المجتهدين أو ترجح أحد الخبرين وأما على تقدير تساوى الخبرين بالنسبة إلى مجتهد واحد فتنافى الحكمين ووجوب العمل بالنقيضين لازم قطعًا، وتقرير الجواب: أنه يندفع بتوقفه عن العمل بهما أو تخييره فى العمل بأيهما شاء.

قوله: (لو جاز التعبد به) أى بخبر الواحد العدل فى الإخبار عن الرسول عليه الصلاة والسلام لجاز التعبد به فى الإخبار عن البارئ لاشتراكهما فى عدالة المخبر وحصول ظن الصدق، والجواب: أولًا: منع الجامع لانتفاء ظن الصدق فى الفرع، وثانيًا: وجود الفارق وهو قضاء العادة بأن التعبد به فى الإخبار عن البارئ يفضى إلى كثرة الكذب بخلاف الإخبار عن الرسول.

المصنف: (يؤدى إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال) أى إن كان هناك خبران وعمل بأحدهما لرجحانه لجواز كونه خطأً أو كذبًا.

الشارح: (وما يؤدى إلى الباطل لا يجوز عقلًا) فيه أنه إنما أدى إلى الباطل شرعًا وما يؤدى إلى الباطل شرعًا باطل شرعًا لا عقلًا فلا يظهر أنه ممتنع عقلًا لغيره.

ص: 425

قال: (يجب العلم بخبر الواحد العدل خلافًا للقاسانى وابن داود والروافضة والجمهور بالسمع، وقال أحمد والقفال وابن سريج والبصرى بالعقل، لنا تكرر العمل به كثيرًا من الصحابة والتابعين شائعًا ذائعًا من غير نكير، وذلك يقضى بالاتفاق عادة كالقول قطعًا قولهم لعل العمل بغيرها قلنا علم قطعًا من سياقها أن العمل بها قولهم فقد أنكر أبو بكر رضى اللَّه عنه خبر المغيرة فى ميراث الجدة حتى رواه محمد بن سلمة وأنكر عمر رضى اللَّه عنه خبر أبى موسى فى الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخدرى وأنكر خبر فاطمة بنت قيس، وأنكرت عائشة رضى اللَّه عنها خبر ابن عمر، وأجيب بإنما أنكروا عند الارتياب قالوا لعلها أخبار مخصوصة قلنا نقطع بأنهم عملوا لظهورها لا لخصوصها وأيضًا التواتر أنه عليه الصلاة والسلام كان ينفذ الآحاد إلى النواحى لتبليغ الأحكام).

أقول: قد ثبت جواز التعبد بخبر الواحد وهو واقع بمعنى أنه يجب العمل بخبر الواحد وقد أنكره القاسانى والرافضة وابن داود.

والقائلون بالوقوع قد اختلفوا فى طريق إثباته والجمهور على أنه يجب بدليل السمع، وقال أحمد والقفال وابن سريج وأبو الحسين البصرى بدليل العقل لنا إجماع الصحابة والتابعين بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد وعملهم بها فى الوقائع المختلفة التى لا تكاد تحصى وقد تكرر ذلك مرة بعد أخرى وشاع وذاع بينهم ولم ينكر عليهم أحد وإلا نقل وذلك يوجب العلم العادى باتفاقهم كالقول الصريح وإن كان احتمال غيره قائمًا فى كل واحد واحد، فمن ذلك أنه عمل أبو بكر بخبر المغيرة فى ميراث الجدة وعمل عمر رضى اللَّه عنه بخبر عبد الرحمن فى جزية المجوس وبخبر حمل بن مالك فى وجوب الغرة بالجنين وبخبر الضحاك فى إيراث الزوجة من دية الزوج وبخبر عمرو بن حزم فى دية الأصابع وعمل عثمان وعلى بخبر فريعة فى أن عدة الوفاة فى منزل الزوج وعمل ابن عباس بخبر أبى سعيد بالربا فى النقد وعمل الصحابة بخبر أبى بكر:"الأئمة من قريش"، و"الأنبياء يدفنون حيث يموتون"، و"نحن معاشر الأنبياء لا نورث. . " إلى غير ذلك مما لا يجدى استيعاب النظر فيه إلا التطويل وموضعه كتب السير.

وقد اعترض عليه بوجوه:

الأول: قولهم: لا نسلم أن العمل فى هذه الوقائع كان بهذه الأخبار إذ لعله

ص: 426

بغيرها، ولا يلزم من موافقة العمل الخبر أن يكون به على أنه السبب للعمل.

والجواب: أنه قد علم من سياقها أن العمل بها والعادة تحيل كون العمل بغيرها.

الثانى: قولهم: هذا معارض بأنه أنكر أبو بكر خبر المغيرة حتى رواه محمد بن سلمة، وأنكر عمر خبر أبى موسى فى الاستئذان حتى رواه أبو سعيد، وأنكر خبر فاطمة بنت قيس، وقال: كيف نترك كتاب اللَّه بقول امرأة لا نعلم أصدقت أم كذبت، وكان يحلف على غير أبى بكر، وأنكرت عائشة خبر ابن عمر فى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه.

والجواب: أنهم إنما أنكروه مع الارتياب، وقصوره عن إفادة الظن، وذلك مما لا نزاع فيه وأيضًا فلا يخرج بانضمام ما ذكرتم عن كونه خبر واحد، وقد قبل مع ذلك فهو دليل عليكم لا لكم.

الثالث: أنهم قالوا: لعلها أخبار مخصوصة تلقوها بالقبول ولا يلزم فى كل خبر.

الجواب: أنا نعلم أنهم عملوا بها لظهورها وإفادتها الظن لا لخصوصياتها كظاهر الكتاب والمتواتر وهو اتفاق على وجوب العمل بما أفاد الظن، ولنا أيضًا تواتر أنه كان ينفذ الآحاد إلى النواحى لتبليغ الأحكام مع العلم بأن المبعوث إليهم كانوا مكلفين بالعمل بمقتضاه.

قوله: (للقاسانى) قاسان بالقاف والسين المهملة من بلاد الترك.

قوله: (وأبو الحسين البصرى) صرح بالاسم لئلا يتوهم أن البكرى هو أبو عبد اللَّه على ما هو دأبه فى هذا الكتاب، فإن مذهبه ليس وجوب العلم عقلًا مطلقًا بل فيما لا يسقط بالشبهة خاصة ثم لا يخفى أن القائلين بالوجوب عقلًا قائلون بالوجوب سمعًا.

قوله: (وذلك) أى ما نقل عنهم من الاستدلال شائعًا ذائعًا من غير نكير يوجب الحكم العادى قطعًا باتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد، كما أن القول الصريح منهم يوجب العلم باتفاقهم، والحاصل أنه قد تواتر معنى أنهم كانوا يستدلون بأخبار الآحاد وإن كانت تفاصيل ذلك آحادًا وهذا إجماع منهم على

ص: 427

ذلك، وبهذا يندفع ما يقال: إن ما ذكر من الإخبار فى الاحتجاج بخبر الواحد أخبار آحاد وذلك يتوقف على كونه حجة فيدور، فإن قيل غاية ما ذكر جواز الاستدلال والعمل به وإنما النزاع فى الوجوب قلنا: إيجابهم الأحكام بأخبار الآحاد يدل على وجوب العمل بها على أن القول بالجواز دون الوجوب سمعًا مما لا قائل به وإنما الخلاف فى الوجوب عقلًا كما سبق.

قوله: (عمل أبو بكر) هو كان يرى حرمان الجدة حتى روى المغيرة بن شعبة ومحمد بن سلمة أن النبى عليه الصلاة والسلام أعطاها السدس وعمل عمر رضى اللَّه عنه فى جزية المجوس بما روى عبد الرحمن بن عوف رضى اللَّه عنه قوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، وعمل فى غرة الجنين بما روى حملُ بن مالك بالحاء المهملة أنه كان عنده امرأتان إحداهما تسمى مليكة والأخرى أم عفيف رمت إحداهما الأخرى بحجر أو مسطح أو عمود فسطاط فأصاب بطنها فألقت جنينها "فقضى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة". والمسطح بكسر الميم نوع من الملاعق وقيل عود يرقق به الخبز، وعمل بخبر الضحاك وهو الأحنف بن قيس التميمى أسلم على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يره دعا له رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام حين قدم عليه وقد بنى تميم فذكروه له روى أنه عليه الصلاة والسلام كتب إليه "أن يورث امرأة أشيم الضبابى من دية زوجها". وعمل بخبر عمرو بن حزم: أن فى كل أصبع عشرة من الإبل، وكان عمر يرى أن فى الخنصر ستة وفى البنصر تسعة وفى الإبهام خمسة عشر، وفى كل من الآخرتين عشرة، وعمل عثمان وعلى رضى اللَّه عنهما بقول فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه حيث قالت: جئت إلى رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام استأذنه بعد وفاة زوجي فى موضع العدة فقال: "امكثى حتى تنقضى عدتك".

قوله: (وأيضًا فلا يخرج) وذلك للقطع بأنه بانضمام أمر إليه لم يصر هو متواترًا مفيدًا للقطع بل إنما تأكد الظن وزالت الشبهة.

قوله: (كان ينفذ الآحاد) اعترض عليه الآمدى وغيره بأن النزاع إنما هو فى وجوب عمل المجتهد وليس فى هذا ما يدل عليه.

ص: 428

المصنف: (تكرر العمل به. . . إلخ) يشير إلى إجماع سكوتى تواتر معنى وأنه إجماع قطعى.

الشارح: (وبخبر حمل بن مالك) بفتح الحاء والميم كما فى بعض الشروح.

الشارح: (وكان يحلف على غير أبى بكر) أى أن عليًا كرم اللَّه وجهه كان لا يكتفى بخبر الواحد إذا كان غير أبى بكر حتى يحلفه على ما روى.

ص: 429

قال: (واستدل بظواهر مثل: {فَلَوْلَا نَفَرَ}، لقوله: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، {إِنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة: 174]، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6]، وفيه بعد).

أقول: وقد استدل من قبلنا بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفى فى المسائل العلمية، منها قوله تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَة لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وجه الاحتجاج أن "لعل" هنا للوجوب لامتناع الترجى عليه تعالى، والطائفة من كل فرقة لا تكون أهل التواتر فقد أوجب الحذر بقول الآحاد وهو بعيد لأن المراد الفتوى فى الفروع سلمنا لكنه ظاهر فلا يجدى فى الأصول ومنها:{إِنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 174] الآية، أوعد بالكتمان لقصد الإظهار، ولولا وجوب العمل به لما كان للإظهار فائدة فلم يصلح مقصودًا للشارع وهو أيضًا بعيد لأن المراد بما أنزل اللَّه القرآن سلمنا لكن أين وجوب العمل، ومنها قوله:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، أمر بالتثبت فى الفاسق فدل على أن العدل بخلافه وهو أيضًا بعيد، لأنه مفهوم المخالفة وهو ضعيفا، وإن سلم فاستدلال بظاهر فى أصل فلا يجدى.

قوله: (ولا يكفى فى المسائل العلمية) إشارة إلى وجه البعد فى الجميع لا يقال: المسألة العلمية وسيلة العمل فيكفى فيها الظن، لأنا نقول: جميع مسائل الأصول كذلك وقد منعوا فيها الاكتفاء بالظن وإنما ذلك فيما يتعلق بكيفية العمل بالذات كمسائل الفقه.

قوله: (لامتناع الترجى) يعنى لما تعذر حمل لعل على حقيقته، التى هى الترجى حملت على أقرب المجازات وهو الطلب فيفيد الإيجاب كالأمر لما مر، وإنما قلنا: إنه أقرب المجازات لأن الترجى وإن لم يكن طلبًا بل توقعًا لكن لا يفهم منه فى حق اللَّه تعالى إلا الطلب.

قوله: (والطائفة) يعنى أن الفرقة اسم للثلاثة فصاعدًا فالطائفة منها تكون واحدًا أو اثنين وبالجملة لا يلزم أن يبلغ حد التواتر وهو المراد بالآحاد.

قوله: (المراد الفتوى فى الفروع) بقرينة التفقه والإنذار فيختص القوم بالمقلدين دون المجتهدين ولو سلم أنه ليس بمراد فلا أقل من احتماله احتمالًا قريبًا ولا يبقى قطعيًا فلا تثبت به الأصول.

ص: 430

قال: (قالوا {وَلَا تَقْفُ} [الإسراء: 36]، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 28]، وقد تقدَّم ويلزمهم أن لا يمنعوه إلا بقاطع، قالوا توقف عليه الصلاة والسلام فى خبر ذى اليدين حتى أخبره أبو بكر وعمر قلنا غير ما نحن فيه وإن سلم فإنما توقف للريبة بالانفراد فإنه ظاهر فى الغلط ويجب التوقف فى مثله).

أقول: المانعون لوجوب العمل بخبر الواحد:

قالوا: أوّلًا: قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، فنهى عن اتباع الظن، وقال:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 28]، فذم باتباع الظن والنهى والذم دليل الحرمة فإنه ينافى الوجوب ولا شك أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن.

الجواب: بعدما تقدَّم من أن المتبع هو الإجماع وأنه ظاهر فى أصل يلزمهم أن لا يمنعوا التعبدية إلا بدليل قاطع ولا قاطع لهم وما ذكروه لا عموم له فى الأشخاص ولا فى الأزمان وقابل التخصيص ولغيره.

قالوا: ثانيًا: توقف النبى صلى الله عليه وسلم فى خبر ذى اليدين حين صلى الظهر ركعتين فقال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "شئ من ذلك لم يكن"، حتى أخبره أبو بكر وعمر فدل أن خبر الواحد لا يعمل به.

الجواب: أنه ليس من صور محل النزاع لأن الكلام فى تعبد الأمة بخبر الواحد منقولًا عن الرسول وإن سلم فإنما توقف لأنه لا انفرد بالإخبار عنه بين جمع كثير فى أمر الغالب عدم مثله، وعدم الغفلة عنه إن كان كان ظاهرًا فى الغلط فظن كذبه فضلًا عن أن يكون مفيدًا للظن بصدقه والتوقف فى مثله وعدم العمل به واجب اتفاقًا.

قوله: (إلى وجوب العمل) يعنى لا نسلم انحصار فائدة الإظهار فى وجوب العمل لجواز أن يكون جواز العمل أو الانضمام إلى آخر وآخر حتى يصير متواترًا موجبًا للعمل.

قوله: (وأنه ظاهر) أى كل من الدليلين ليس بقطعى بل ظاهر استدل به فيما يكون من الأصول التى لا بد فى إثباتها عن قاطع.

قوله: (وقابل للتخصيص) فيما له عموم وهو القضايا والأحكام فيخص بما لا يطلب فيه العمل من الأصول.

ص: 431

قوله: (ولغيره) كتأويل العلم بما يعم الظن والقطع وتأويل الظنى بالشك والوهم.

قوله: (شئ من ذلك لم يكن) نقل بالمعنى وإلا فالمنقول: كل ذلك لم يكن والمقصود عموم السلب لا سلب العموم بدليل ما روى أنه قال: بعض ذلك قد كان ولأن "أم" سؤال عن أحد الأمرين فجوابه تعيين أحدهما أو نفيهما بالكلية.

الشارح: (ويلزمهم أن لا يمنعوه. . . إلخ) أى حيث منعوا العمل بخبر الواحد؛ لأنه يفيد الظن فلا يصح لهم أن يتمسكوا فى منعه بما يفيد الظن بل كان حقهم أن يتمسكوا بدليل قطعى مع أنهم تمسكوا بالظاهر.

ص: 432

قال أبو الحسين: (العمل بالظن فى تفاصيل معلوم الأصل واجب عقلًا كالعدل فى مضرة شئ وضعف حائط وخبر الواحد كذلك لأن الرسول بعث للمصالح فخبر الواحد تفصيل لها وهو مبنى على التحسين سلمنا لكنه لم يجب فى العقليات بل أولى سلمنا فلا نسلمه فى الشرعيات، سلمنا وغايته قياس ظنى فى الأصول، قالوا صدقه ممكن فيجب احتياطا، قلنا إن كان أصله المتواتر فضعيف، وإن كان المفتى، فالمفتى خاص، وهذا عام، سلمنا لكنه قياس شرعى، قالوا لو لم يجب لخلت وقائع ورد بمنع الثانية، سلمنا لكن الحكم النفى وهو مدرك شرعى بعد الشرع).

أقول: القائل بأنه يفيد بدليل العقل أما أبو الحسين فقال: الظن فى تفاصيل الجمل المعلوم وجوبها عقلًا فالعمل به واجب عقلًا، بدليل أنه لما كان اجتناب المضار إجمالًا واجبًا قطعًا وجب تفاصيله عقلًا مثل قبول خبر العدل فى مضرة أكل شئ معين فيحكم العقل بأن لا يؤكل وفى انكسار جدار يريد أن ينقض فيحكم العقل بأن لا يقام تحته وما نحن فيه كذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لتحصيل المصالح ودفع المضار قطعًا ومضمون خبر الواحد تفصيل له والخبر يفيد الظن به فوجب العمل به قطعًا.

والجواب: أنه مبنى على التحسين والتقبيح بالعقل وقد أبطلناه، سلمناه ولا نسلم أن العمل بالظن فى تفاصيل مقطوع الأصل واجب بل هو أولى للاحتياط ولم ينته إلى حد الوجوب، سلمنا ذلك فى العقليات فلم يجب مثله فى الشرعيات ولا يجوز قياسها عليها لعدم التماثل وهو شرط القياس، سلمناه لكنه قياس فلا يفيد إلا الظن، لجواز كون خصوصية الأصل شرطًا أو خصوصية الفرع مانعًا والمسألة أصولية فلا يجدى فيها الظن.

وأما الباقون فقالوا: أولًا: صدقه ممكن فيجب اتباعه احتياطًا.

والجواب: أنه قياس بغير أصل فإن كان أصله الخبر المتواتر فضعيف لأن المتواتر وجب اتباعه لإفادته العلم لا للاحتياط فالجامع منفى وإن كان أصله فتوى المفتى فضعيف أيضًا لأن الفرق ظاهر وهو أن حكم المفتى خاص بمقلده فيها وحكم خبر الواحد عام فى الأشخاص والأزمان سلمناه لكنه قياس فلا يفيد إلا الظن وهو شرعى لا دليل عقلى وهو خلاف مطلوبكم.

قالوا: ثانيًا: لو لم يجب العمل بخبر الواحد لخلت وقائع كثيرة عن الحكم وهو ممتنع أما الأولى فلأن القرآن والمتواتر لا يفيان بالأحكام بالاستقراء التام المفيد

ص: 433

للقطع، وأما الثانية فظاهره الجواب بمنع الثانية وهو امتناع خلو وقائع كثيرة عن الحكم عقلًا سلمناه لكن نمنع الملازمة لأن الحكم فيما لا دليل فيه نفى الحكم ونفى الدليل دليل على نفى الحكم لما ورد الشرع بأن ما لا دليل فيه لا حكم فيه فكان عدم الدليل لعدم الحكم مدركًا شرعيًا ولم يلزم إثبات حاكم غير الشرع.

قوله: (فلم يجب مثله) بكسر اللام على لفظ الاستفهام ولم يقل ولا نسلمه فى الشرعيات كما فى المتن تنبيهًا على أن هذا المنع مجرد مطالبة بالدليل من غير أن يسند إلى سند يعتدّ به لما لا يخفى من سند الشارحين وهو منع كون العلة فى العقليات هى الظن المذكور لجواز أن يكون أمرًا لازمًا له فى العقليات خاصة أو منع كونه علة فى الشرعيات لجواز أن تكون خصوصيتها مانعة ثم أشار إلى دفع ما يتوهم دليلًا وهو قياس الشرعيات على العقليات.

قوله: (سلمناه) أى عدم الفرق المؤثر وصحة القياس على الفتوى لكن دعواكم ثبوت ذلك بدليل عقلى والقياس لا أفاد الظن دون العلم لم يكن دليلًا ولما كان أصله حكمًا شرعيًا لم يكن عقليًا بل شرعيًا بخلاف ما مر لأبى الحسين من قياس الشرعيات على العقليات فإنه لو ثبت كان عقليًا ولذلك اقتصر فى رده على أنه لا يفيد إلا الظن.

قوله: (بالاستقراء التام) أما فى القرآن فواضح وأما فى الحديث فلأن المتواتر أيضًا أحاديث قليلة مضبوطة عند أئمة الحديث ومعنى عدم وفائهما بالأحكام أن من الأحكام ما لم يمكن إسنادها إليهما إلا بطريق القياس على ما فيهما من الأحكام ثم لا يخفى أن الأنسب تقديم منع الملازمة إلا أنه قدم منع انتفاء اللازم ترقيًا من الأدنى الأضعف إلى الأعلى الأقوى لظهور أن منع الملازمة ههنا أقوى من منع انتفاء اللازم وحاصل الكلام أن عدم الدليل مدرك شرعى لعدم الحكم للإجماع على أن ما لا دليل فيه فهو منفى فضمير هو لعدم الدليل لا لعدم الحكم على ما ذهب إليه بعض الشارحين إذ المدارك إنما تقال للأدلة دون الأحكام ولهذا ذهب العلامة إلى أنه لا يصح جعل الضمير لنفى الحكم إلا إذا روى مدرك بضم الميم بمعنى أنه معلوم شرعى وهو بعيد وإنما قال: بعد الشرع لظهور أنه قبل ورود الشرع ليس من المدارك الشرعية.

ص: 434

(قال: أما الشرائط فمنها البلوغ لاحتمال كذبه لعلمه بعدم التكليف، وإجماع المدينة على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض فى الدماء قبل تفرقهم مستثنى لكثرة الجناية بينهم منفردين والرواية بعده والسماع قبله مقبولة كالشهادة ولقبول ابن عباس وابن الزبير وغيرهم فى مثله ولا سماع للصبيان).

أقول: أما حكم خبر الواحد فما ذكرنا وأما شرائطه المعتبرة فى وجوب العمل به فأمور كلها فى الراوى الشرط الأول: البلوغ لأن الصبى وإن قارب البلوغ وأمكنه الضبط يحتمل أن يكذب لعلمه بأنه غير مكلف فلا يحرم عليه الكذب فلا إثم له فيه فلا مانع له من إقدامه عليه فلا يحصل ظن عدم الإقدام على الكذب فلا يحصل ظن صدقه وهو الموجب للعمل كالفاسق لا يقال: أجمع أهل المدينة على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض فى الدماء قبل تفرقهم مع أنه احتيط فى الشهادة ما لم يحتط فى الرواية، لأنا نقول إنه مستثنى لمسيس الحاجة إليه لكثرة الجناية فيما بينهم إذا كانوا منفردين لا يحضرهم عدل فلو لم تعتبر شهادتهم لضاعت الحقوق التى توجبها تلك الجنايات والمشروع استثناء لا يرد نقضًا كالعرايا وشهادة خزيمة هذا إذا سمع وروى قبل البلوغ، أما الرواية بعد البلوغ لخبر والحال أنه قد سمعه قبل البلوغ فإنها مقبولة، أما أولًا فقياسًا على الشهادة، وأنها متفق عليها، فالرواية أولى بالقبول، وأما ثانيًا فبإجماع الصحابة على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير وغيرهما فى مثله مما حملوه قبل البلوغ ورووه بعده، يدل عليه كتب الحديث، وأنهم لم يسألوا قط عن تحملهم أقبل البلوغ كان أم بعده؟ ولم يفرقوا بينهما قابلين روايتهم وإن احتمل الأمرين احتمالًا ظاهرًا، وأما ثالثًا فبإجماعهم على إحضار الصبيان مجالس الرواية وإسماعهم الحديث ولو لم يعتبر نقله لما أفاد ذلك، وقد يقال: إن ذلك للتبرك ولذلك يحضرون من لا يضبط.

قوله: (فى مثله) أى مثل ما نحن فيه من الأخبار التى حملوها وسمعوها قبل البلوغ ورووها بعده.

ص: 435

قال: (ومنها الإسلام للإجماع وأبو حنيفة وإن قبل شهادة بعضهم على بعض لم يقبل روايتهم ولقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6]، وهو فاسق بالعرف المتقدم واستدل بأنه لا يوثق به كالفاسق وضعف بأنه قد يوثق ببعضهم لتدينه فى ذلك).

أقول: الشرط الثانى لقبول خبر الواحد: الإسلام، أما أولًا فبدليل الإجماع، فإن قيل أليس أبو حنيفة يقبل شهادة بعض الكفار على بعض، فيلزم فى الرواية، قلنا: نعم لكنه لا يقبل فى الرواية، قد صرح به وذلك أن شهادتهم قبلت للضرورة، صيانة للحقوق، إذ أكثر معاملاتهم مما لا يحضره مسلمان، وأما ثانيًا فلقوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، والكافر فاسق بالعرف المتقدم علم ذلك بالاستقراء، وإن كان لا يسمى فى العرف المتأخر فاسقًا ويجعل قسيمًا له، ويعرف بأنه مسلم ذو كبيرة أو صغيرة أصر عليها، وقد استدل بأن الكافر لا يوثق به فلا يقبل قوله قياسًا على الفاسق، وقيل بأنه ضعيف لأنه قد يوثق بقول بعضهم لظهور تدينه فى ذلك الدين مع تحريم الكذب فيه أو فى تحريم الكذب.

قوله: (أو فى تحريم الكذب) يعنى أن ذلك إشارة إلى الدين أو إلى تحريم الكذب.

ص: 436

قال: (والمبتدع بما يتضمن التكفير كالكافر عند المكفر، وأما عند غير المكفر فكالبدع الواضحة وما لا يتضمن التكفير إن كان واضحًا كفسق الخوارج ونحوه فرده قوم وقبله قوم، والرادّ {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6]، هو فاسق القابل نحن نحكم بالظاهر والآية أولى لتواترها وخصوصها بالفاسق وعدم تخصيصها وهذا مختص بالكافر والفاسق المظنون صدقهما باتفاق، قالوا: أجمعوا على قبول قتلة عثمان وردّ بالمنع أو بأنه مذهب بعض وأما نحو خلاف البسملة وبعض الأصول، وإن ادعى القطع فليس من ذلك لقوة الشبهة من الجانبين، وأما من يشرب النبيذ ويلعب بالشطرنج ونحوه من مجتهد ومقلد فالقطع أنه ليس بفاسق وإن قلنا المصيب واحد لأنه يؤدى إلى تفسيق وإيجاب الشافعى الحد لظهور أمر التحريم عنده).

أقول: ما ذكرناه حكم الكافر وأما المبتدع فقد يكون مبتدعًا ببدعة تتضمن التكفير وقد يكون ببدعة لا تتضمنه فإن كان يتضمن التكفير فيكفر به قوم ولا يكفر به قوم فمن كفره به فهو عنده كالكافر وقد علمت حكمه ومن لم يكفره به فهو عنده كالبدع الواضحة وسنذكر حكمها، وإن كان لا يتضمن التكفير فإن لم تكن واضحة قبل اتفاقًا وإن كانت واضحة كفسق الخوارج: استباحوا الدماء وشنوا الإغارة وأحرقوا وسبوا فرده قوم وقبله قوم قال الرادّ له: قد قال تعالى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وهذا فاسق كما مر، وقال القابل: قال عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر" وهذا ظاهر إذا ظن صدقه، والمختار الردّ لأن الآية أولى بالعمل بها من الحديث.

فأوّلًا: لكونها متواترة والحديث آحادًا.

وثانيًا: لخصوصها بالفاسق وعموم الحديث للفاسق والعدل، ودلالة الخاص على ما يتناوله أظهر إذ العام يحتمل عدم تناوله لذلك الخاص لتخصيصه دون الخاص.

وثالثًا: لأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود والحديث مخصص لإيجاب العمل بكل ظاهر وخبر الكافر والفاسق ظاهر إذا ظن صدقهما ولا يعمل بهما اتفاقًا.

قالوا: قتل عثمان وهو إمام الحق بدعة واضحة، ومع هذا فالصحابة كانوا

ص: 437

يقبلون قتلة عثمان شهادة ورواية وهو إجماع على قبول رواية المبتدع بالبدعة الواضحة.

الجواب: لا نسلم القبول إجماعًا وإن سلمنا فلا نسلم الإجماع على كون ذلك بدعة واضحة حتى يلزم الإجماع على قبول ذى البدعة الواضحة بل كان ذلك مذهبًا لبعضهم فإن القتلة لا يرون ذلك وكذلك كثير من الآخرين ويجعلونه اجتهاديًا، وأما نحو خلاف البسملة وجعلها من القرآن وبعض مسائل الأصول كزيادة الصفات فإنها وإن ادعى الخصم فيها القطع فليس من ذلك أى من البدع الواضحة فيقبل اتفاقًا وإنما لم تكن واضحة لقوة الشبهة من الجانبين كما تبين فى موضعه فهذه حال العقائد، وأما ما يتوهم أنه فسق لكونه خللًا فى العمل نحو: من شرب النبيذ أو لعب بالشطرنح من مجتهد يراهما حلالًا أو مقلد له فيه فالقطع أنه ليس بفاسق، أما إذا قلنا: كل مجتهد مصيب فظاهر وإن قلنا: المصيب واحد فكذلك لأنه يجب على المجتهد العمل بظنه وللمقلد بفتواه فلو فسقنا به لفسقنا بواجب وأنه باطل بالضرورة، فإن قيل: أليس الشافعى يحدّ بشرب النبيذ مع ما ذكرتم من الوجوب؟ قلنا: الصحيح عدم الحد عليه والشافعى يحده لظهور أمر التحريم عنده لا لأنه فاسق ولذلك قال: أحد شارب النبيذ وأقبل شهادته.

قوله: (ومن لم يكفره) أى المبتدع (به) أى بالبدعة التى تتضمن التكفير وتذكير الضمير بتأويل الابتداع وكذا جميع الضمائر العائدة إلى البدعة فى غير هذا المقام.

قوله: (فهو) أى ذلك المبتدع (عنده) أى عند من لم يكفره (كالبدع) أى كأهل البدع الواضحة، يشير إلى أن قوله: أما غير المكفر مبتدأ خبره قوله: فكالبدع بحذف صدر الجملة.

قوله: (وأما نحو خلاف البسملة) يعنى أن رأى كل من المتخاصمين فى مثل هذه المسائل وإن كان بدعة عند الآخر وقطعيًا بزعم صاحبه لكنه ليس من البدع الواضحة التى تقدح فى قبول الرواية، ثم البدعة عند المصنِّف فى البسملة هو جعلها من القرآن وفى الصفات هو جعلها غير زائدة على الذات بل عينها كما هو رأى المعتزلة، وإن أريد بالزيادة الغيرية فالبدعة من الزيادة لأن الحق أنها ليست عين الذات ولا غيرها وفى شرح العلامة أن قوله: فإن ادعى القطع معناه القطع بحقيقة

ص: 438

أو بأنه من الفسق الواضح أو مما يكفر به فليس من ذلك، أى من القطعى أو من الفسق الواضح أو مما يكفر به ولفظ المنتهى مشعر بأن المراد أنه ليس من القطعى.

قوله: (لفسقنا بواجب) أى بارتكاب عمل متفرع على رأى يجب عليه الحكم بموجبه فإن على المجتهد يجب اتباع ظنه وعلى المقلد اتباع مجتهد وإلا فالتفسيق إنما هو بالشرب وهو ليس بواجب بل مباح عنده والواجب عليه هو الحكم بإباحته.

الشارح: (والشافعى يحده لظهور أمر التحريم لا لأنه فاسق) عبارة المستصفى وقد قال الشافعى: أقبل شهادة الحنفى وأحده إذا شرب النبيذ لأن هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج. . . إلخ.

ص: 439

قال: (ومنها رجحان ضبطه على سهوه لعدم حصول الظن).

أقول: الشرط الثالث: رجحان ضبط الراوى على سهوه إذ مع المرجوحية والمساواة لا يترجح طرف الإصابة فلا يحصل الظن.

قال: (ومنها العدالة: وهى محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة وتتحقق باجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر وبعض الصغائر وبعض المباح، وقد اضطرب فى الكبائر فروى ابن عمر: "الشرك باللَّه وقتل النفس وقذف المحصنة والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، والإلحاد فى الحرم" وزاد أبو هريرة: "أكل الربا"، وزاد على رضى اللَّه عنه: "السرقة وشرب الخمر" وقيل: ما توعد الشارع عليه بخصوصه وأما بعض الصغائر فما يدل على الخسة: كسرقة لقمة والتطفيف بحبة، وبعض المباح كاللعب بالحمام والاجتماع مع الأرذال والحرف الدنية مما لا يليق به ولا ضرورة).

أقول: الشرط الرابع: عدالة الراوى وهى محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة وليس معها بدعة فقولنا: دينية ليخرج الكافر وقولنا: تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليخرج الفاسق وقولنا: ليس معها بدعة ليخرج المبتدع إذ هؤلاء لا تقبل روايتهم وهذه لما كانت هيئة نفسية خفية فلا بد لها من علامات تتحقق بها، وإنما تتحقق باجتناب أمور أربعة: الكبائر، والإصرار على الصغائر، وبعض الصغائر، وبعض المباح، أما الكبائر فقد اضطرب فيها الرواة، فروى ابن عمر رضى اللَّه عنهما تسعة:"الشرك باللَّه وقتل النفس بغير حق، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف والسحر، وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين، والإلحاد فى الحرم"، وزاد أبو هريرة:"أكل الربا"، وزاد على رضى اللَّه عنه:"السرقة وشرب الخمر"، وربما قيل الكبيرة: كل ما توعد عليه الشارع بخصوصه، وقال بعض: كل ما كان مفسدته مثل مفسدة أقلها مفسدة أو أكثر منه، فإن مفسدة دلالة الكفار إلى المسلمين ليستأصلوهم أكثر من مفسدة الفرار من الزحف، ومفسدة إمساك المحصنة ليزنى بها أكثر من مفسدة القذف، ويمكن أن يقال: هو ما يدل على قلة المبالاة بالدين، دلالة أدنى ما ذكر من الأمور.

وأما الإصرار على الصغائر فمرجعه العرف وبلوغه مبلغًا ينفى الثقة، وأما ترك بعض الصغائر فالمراد منها ما يدل على خسة النفس ودناءة الهمة: كسرقة لقمة

ص: 440

والتطفيف فى الوزن بحبة، وأما ترك بعض المباح، فالمراد ما يدل على مثل ذلك: كاللعب بالحمام والاجتماع مع الأرذال، والحرف الدنيئة: كالدباغة والحجامة والحياكة، ممن لا يليق به ذلك من غير ضرورة تحمله على ذلك لأن مرتكبها لا يجتنب الكذب غالبًا.

قوله: (رجحان ضبطه على سهوه) فى كلام الآمدى رجحان ضبطه على عدم ضبطه وذكره على سهوه، فلم يجعل السهو مقابلًا للضبط.

قوله: (التقوى) وهو الاحتراز عما يذم به شرعًا والمروءة عرفًا وفى كلامه إشعار بأن تارك المروءة فاسق وليس كذلك ولم يقتصر على ذكر التقوى لأنها تتعلق بالعمليات خاصة فلا بد من تحقق نفى البدعة المتعلقة بالاعتقاديات إلا أن فى كون البدعة مخلًا بالعدالة نظرًا ولهذا لم يتعرض له الإمام الغزالى حيث قال: هى هيئة راسخة فى النفس من الدين تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا ثم لا يخفى أن اشتراط العدالة مغن عن اشتراط الإسلام.

قوله: (إذ هؤلاء) أى الكافر والفاسق والمبتدع لا تقبل روايتهم على ما مر من التفصيل فى المبتدع والأنسب بالاحتراز أن يقال: إذ هؤلاء ليسوا عدولًا.

قوله: (والإلحاد فى الحرم) أى الظلم فى حرم مكة وهو فى الأصل الميل، قال تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، أى من يرد فيه مرادًا حال كونه مائلًا عن القصلى ظالمًا وحقيقته متلبسًا بإلحاد متلبسًا بظلم على أنهما حالان مترادفان.

قوله: (وقال بعض) إشارة إلى ما ذكره بعضهم من أنك إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسدها فهى من الصغائر وإلا فمن الكبائر ثم قال: الأولى أن تضبط بما يشعر بتهاون مرتكبها فى دينه إشعار ما هو للأصغر من الكبائر المنصوص عليها.

المصنف: (وهى محافظة دينية) يريد ملكة نفسانية يلزمها المحافظ على الدين.

المصنف: (وتتحقق باجتناب الكبائر. . . إلخ) أى تتحقق العدالة باعتبار أدناها إذ

ص: 441

العدالة لها مراتب.

المصنف: (كاللعب بالحمام) أى من غير قمار.

الشارح: (إذ هؤلاء لا تقبل روايتهم تعليل لخروجهم) أى إنما خرج هؤلاء بهذا القيد لأنه لا تقبل روايتهم.

الشارح: (ويمكن أن يقال هو ما يدل على قلة المبالاة. . . إلخ) هو راجع إلى قول البعض المذكور قبله لأنهما متلازمان كذا فى التحرير.

قوله: (هو الاحتراز عما يذم به شرعًا) ذكر الضمير العائد على التقوى مراعاة للخبر قيل الأولى أن يقال: هى الاحتراز عن الكبائر لأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر، وأما كونها الاحتراز عما يذم شرعًا فيقتضى أنه لا فرق بين المعصوم والمتقى وليس كذلك.

قوله: (مغن عن اشتراط الإسلام) قد يقال: لما اختص بذلك خص بالذكر.

قوله: (والمروءة عرفًا) لعل هنا سقطًا والأصل: والمروءة هى الاحتراز عما يذم به عرفًا.

قوله: (وفى كلامه إشعار. . . إلخ) كلام المصنف لا إشعار فيه لأنه عطف المروءة على التقوى وقد ذكر أن العدالة تتحقق بترك بعض المباح نعم فى كلام الشارح حيث قال: وقولنا تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليخرج الفاسق.

قوله: (وحقيقته متلبسًا بإلحاد متلبسًا بظلم) أى معناه الوضعى الذى يقتضيه التركيب بحسب أصل الوضع، وأما ما ذكر قبل من قوله: حال كونه مائلًا عن القصد ظالمًا فبيان أصل المعنى ومآله.

ص: 442

قال: (وأما الحرية والذكورة وعدم القرابة والعداوة فمختص بالشهادة).

أقول: هذه شروط فى الرواية والشهادة وتعتبر فى الشهادة شروط لا تعتبر فى الرواية: كالحرية والذكورة والعدد وعدم القرابة للمشهود له، وعدم العداوة للمشهود عليه، لأن أمر الشهادة أخلق بالاحتياط لقوة البواعث عليه من الطمع والاهتمام بأمر الخصومات، ولأنه خاص، فالمحبة والعداوة تؤثران فيه والخبر عام وأيضًا فالمساهلة فيها بخصوصها أكثر ولذلك نرى من كثرة شهود الزور ما لا نراه من كثرة رواة المفترى.

قوله: (والعدد) زيادة من الشارح لا توجد فى نسخ المتن.

قوله: (ولأنه خاص) عطف على لقوة البواعث عليه والضمير لأمر الشهادة وقوله: وأيضًا دليل آخر لاشتراط الأمور المذكورة فى الشهادة دون الخبر.

الشارح: (ولأنه خاص فالمحبة والعداوة تؤثران فيه والخبر عام) حاصله الفرق بين الرواية والشهادة بأن الرواية: الخبر فيها عام لا يختص بمعين، وأما الشهادة: فالخبر فيها غير عام بل مختص بمعين وأورد على هذا الفرق أن الشهادة قد تكون فى الأمر العام كالشهادة بالوقف على الفقراء والمساكين إلى يوم القيامة والرواية قد تكون فى الأمور الجزئية كالإخبار عن النجاسة وأوقات الصلوات وأجيب بأن العموم فى الشهادة بالوقف على الفقراء والمساكين إلى يوم القيامة إنما جاء بطريق العرض والتبع والمقصود الأول منها الواقف وإثباته عليه وهو شخص معين، والمقصود فى الإخبار بالنجاسة ونحوها نقل الحكم العام الذى لا يختص بواحد معين.

ص: 443