المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة - شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني - جـ ٢

[عضد الدين الإيجي]

فهرس الكتاب

- ‌ ابتداء الوضع

- ‌(مسألة: الواجب على الكفاية

- ‌(مسألة: الأمر بواحد من أشياء

- ‌(مسألة: من أخر مع ظن الموت قبل الفعل

- ‌(مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به

- ‌(مسائل الحرام)

- ‌(مسائل المندوب)

- ‌(مسائل المكروه)

- ‌(مسائل المباح)

- ‌(خطاب الوضع)

- ‌(المحكوم فيه)

- ‌(مسألة: لا تكليف إلا بفعل

- ‌(المحكوم عليه)

- ‌(مسألة: يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه

- ‌(مباحث الأدلة الشرعية)

- ‌(مباحث الكتاب)

- ‌(مسألة: العمل بالشاذ غير جائز

- ‌(مباحث السنة)

- ‌(مسألة: إذا علم بفعل ولم ينكره

- ‌(مباحث الإجماع)

- ‌(مسألة: لا يختص الإجماع بالصحابة

- ‌(مسألة: التابعى المجتهد معتبر

- ‌(مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة

- ‌(مسألة: الإجماع لا يكون إلا عن مستند

- ‌(مسألة: المختار امتناع ارتداد كل الأمة

- ‌(مسألة: يجب العمل بالإجماع المنقول بخبر الآحاد

- ‌(مباحث الخبر)

- ‌(مباحث خبر الواحد)

- ‌(مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز

- ‌(مسألة: مجهول الحال لا يقبل

- ‌(مسألة: الصحابى من رأى النبى عليه الصلاة والسلام

- ‌(مسألة: الأكثر على جواز نقل الحديث بالمعنى

- ‌(مسألة: إذا كذب الأصل الفرع

- ‌(مسألة: حذف بعض الخبر جائز

- ‌(مباحث الأمر)

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بمجردها لا تدل على تكرار

- ‌(مسألة اختيار الإمام والغزالى رحمهما اللَّه أن الأمر بشئ معين

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة

- ‌(مسألة: إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب الفعل

- ‌(مباحث النهى)

- ‌(مسألة: النهى عن الشئ لعينه يدل على الفساد شرعًا

- ‌(مباحث العام والخاص)

- ‌(مسألة: العموم من عوارض الألفاظ

- ‌(مسألة: الجمع المنكر ليس بعام

- ‌(مسألة: المشترك يصح إطلاقه على معنييه مجازًا

- ‌(مسألة: خطابه لواحد لا يعم

- ‌(مسألة: جمع المذكر السالم

الفصل: ‌(مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة

قال: ‌

‌(مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة

عند مالك وقيل محمول على أن روايتهم متقدمة وقيل على المنقولات المستمرة، كالأذان والإقامة والصحيح التعميم. لنا أن العادة تقضى بأن مثل هذا الجمع المنحصر من العلماء الأحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلا عن راجح، فإن قيل يجوز أن يكون متمسك غيرهم أرجح، ولم يطلع عليه بعضهم، قلنا العادة تقضى باطلاع الأكثر، والأكثر كاف فيما تقدم، واستدل بنحو: إن المدينة طيبة تنفى خبثها كما ينفى الكير خبث الحديد، وهو بعيد وبتشبيه علمهم بروايتهم ورد بأنه تمثيل لا دليل مع أن الرواية ترجح بالكثرة بخلاف الاجتهاد).

أقول: قد اشتهر أن إجماع أهل المدينة وحدها من الصحابة والتابعين حجة عند مالك رحمه الله فقيل قوله ذلك محمول على أن روايتهم متقدمة على رواية غيرهم، وقيل محمول على حجية إجماعهم فى المنقولات المستمرة كالأذان والإقامة والصاع والمد دون غيرها، والصحيح عند المصنِّف هو التعميم أى القول بكونه حجة مطلقًا والأكثر على أنه ليس بحجة لنا أن العادة قاضية بعدم إجماع هذا الجمع الكثير من العلماء المحصورين الأحقين بالاجتهاد إلا عن راجح فقوله: مثل هذا الجمع تنبيه على أنه لا خصوصية للمدينة فيستبعد كون المكان له مدخل وإنما اتفق فيها ذلك، ولو اتفق مثله فى غيرها لكان كذلك قوله: المنحصر أراد به انحصارهم فى المدينة واجتماعهم فيها وقلة غيبتهم عنها حتى لو اتفق عدتهم أو أكثر متفرقين فى البلاد أو مختلطين بمن خالفهم أو غائبين عن بلدتهم لم يعتبر ولم تقض العادة باطلاعهم على الراجح فلعل دليل المخالف راجح وهؤلاء مجمعون يتشاورون ويتناظرون ويتفقون فيبعد أن لا يطلع أحد منهم على دليل المخالف مع رجحانه.

قوله: الأحقين بالاجتهاد احتراز عن منحصرين فى موضع آخر لا يكون مهبطًا للوحى، وأهله غير واقفين على وجوه الأدلة من قول الرسول وفعله وفعل أصحابه فى زمانه ووجوه الترجيح فإنه لا يشك فى أن أهل المدينة كانوا أعرف بذلك، فإن قيل: لا نسلم أن العادة قاضية فى اتفاق مثلهم عن راجح لأنهم بعض الأمة فيجوز أن يكون متمسك غيرهم أرجح فرب راجح لم يطلع عليه البعض.

قلنا: لا نقول العادة قاضية باطلاع الكل فيرد ذلك بل باطلاع الأكثر، والأكثر

ص: 339

كاف فى تتميم دليلنا بأن يقال: إذا وجب اطلاع الأكثر امتنع أن لا يطلع عليه من أهل المدينة أحد ويكون ذلك الأكثر غيرهم وما فيه أحد منهم والاحتمالات البعيدة لا تنفى الظهور، وقد استدل بنحو:"المدينة طيبة تنفى خبثها كما ينفى الكير خبث الحديد" والباطل خبث، فينتفى عنها، وهو بعيد لأنه إنما يدل على فضلها لما علم من وجود الباطل كالفسوق والمعاصى فيها ولا دلالة على انتفاء الخطأ عما اتفق عليه أهلها بخصوصه واستدل بتشبيه علمهم بروايتهم فإنها تقدَّم على رواية غيرهم اتفاقًا، فكذا عملهم وعقيدتهم ورأيهم يقدم على ما لغيرهم.

الجواب: أنه تمثيل خال عن الجامع فلا يصلح دليلًا وإن سلم فالفرق ظاهر وهو أن الرواية تترجح بكثرة الرواة اتفاقًا، والاجتهاد لا يترجح بكثرة المجتهدين.

قوله: (تنبيه على أنه لا خصوصية) إشارة إلى دفع اعتراض الشارحين بأنه لا مدخل للبقعة فى النظر والاستدلال يعنى ليس ذلك لخصوصية المكان بل لأنه قد اتفق فيه إجماع المحصورين الأحقين، وقوله: أراد به انحصارهم، دفع لما ذكره العلامة من أنه إنما قال ذلك لئلا يرد عليه ما ورد على إجماع مجتهدى الأمة من أنهم منتشرون شرقًا وغربًا فلا يتصور إجماعهم ثم قال: والظاهر أنه لا حاجة إلى ذلك لأن الكلام مع مثبتى الإجماع دون منكريه وكأنه إنما تعرض له لينتهض دليلًا على كل مسلم.

قوله: (والأكثر كاف) تقرير الجواب على ما فى الشروح أن العادة تقضى باطلاع الأكثر عددًا وصحبة على المتمسك الراجح والأكثر كاف فى كون قولهم حجة وإن لم يكن إجماعًا قطعيًا على ما مر فى مسألة ندرة المخالف واعترض بأن كونهم أكثر عددًا ممنوع، وأكثر صحبة لم يتقدم ذكره فأجيب بأن المراد كونهما أكثر صحبة كاف كما أن كون أهل الإجماع أكثر عددًا كاف أو المراد أن الأكثر كاف فيما تقدَّم أى فى الاطلاع على الراجح، ولما كان هذا فى غاية الضعف مع شئ آخر وهو أن مقابل الأكثر هو الأقل وذلك لا يستلزم الندرة تكلف الشارح المحقق غاية التكلف وجعل قوله فيما بعد إشارة إلى تتميم الدليل، ولما ورد عليه منع لما ذكره بناء على احتمال أن يكون الأكثر المطلع على الراجح غيرهم ليس فيهم منهم أحد دفعه بأن الاحتمالات البعيدة لا تنفى الظهور.

ص: 340

قوله: (بتشبيه عملهم) كذا فى جميع النسخ أى اجتهادهم واتفاقهم وكأنه وقع فى نسخة الشارح عملهم ففسره برأيهم وعقيدتهم وبالجملة لما كان ظاهر قوله: تمثيل لا دليل غير مستقيم لأن التمثيل هو القياس قيدوه بالخلو عن الجامع، ولما كان الجامع ظاهرًا وهو اختصاصهم بالصفات الموجبة للتقديم والترجيح بينوا الفرق بأن الرواية ترجح بالكثرة بخلاف الاجتهاد ووجهه أنه لما ترجحت الكثرة جاز أن يترجح بمثل هذه الصفات المناسبة للكثرة فى إفادة زيادة الظن.

المصنف: (وقيل على المنقولات المستمرة) أى المتكررة الوقوع وقوله: كالأذان والإقامة فلو أجمعوا على أن الإقامة فرادى كان حجة.

الشارح: (والصاع والمد) أى مقدارهما.

الشارح: (لا خصوصية للمدينة) أى من حيث هى وإن كانت لها خصوصية باعتبار كونها مهبط الوحى وأهلها أدرى بالسنة.

الشارح: (وأهله غير واقفين) عطف على قوله: لا يكون مهبطًا للوحى فهو صفة لموضع آخر.

قوله: (دليلًا على كل مسلم) أى سواء منكر الإجماع ومثبته لأن الإجماع المنكر هو إجماع مجتهدى الأمة وهم متشردون فى البلاد شرقًا وغربًا فلا يتصور إجماعهم بخلاف إجماع أهل المدينة.

قوله: (فأجيب بأن المراد. . . إلخ) يعنى ليس المراد بذكر الأكثر عددًا إلا تشبيه المقصود به وهو الأكثر صحبة وليس المراد بالأكثر عددًا أهل المدينة بل المراد أن أهل الإجماع أكثر عددًا من غيرهم.

قوله: (أو المراد أن الأكثر كاف فيما تقدم) أى فى الاطلاع على الراجح هذا وجه آخر فى تقرير الجواب باعتبار بيان المراد مما تقدم، فإنه فى الوجه الأول المراد به فى كون قولهم حجة وفى هذا فى الاطلاع على الراجح، وليس هذا جوابًا ثانيًا عن الاعتراض على تقرير الجواب على ما فى الشروح.

قوله: (ولما كان هذا) أى تقرير الجواب على ما فى الشروح، سواء كان المراد بما تقدم كون قولهم حجة أو الاطلاع على الراجح، وقوله فى غاية الضعف وذلك

ص: 341

لأن كون العادة تقضى باطلاع الأكثر الذين هم أهل الإجماع من أهل المدينة والأكثر المذكور كاف فى كونه حجة أو فى الاطلاع على الراجح غير مسلم لأن الأكثر الكافى فى ذلك لا بد أن يعتبر فى ذاته وهو الأكثر من أهل الإجماع مطلقًا.

قوله: (إشارة إلى تتميم الدليل) أى فما تقدم هو الدليل المذكور قبل، والكلام على حذف مضاف.

قوله: (جاز أن يترجح بمثل هذه الصفات) أى التى لأهل المدينة بخلاف عملهم.

ص: 342

قال: (مسألة: الإجماع لا ينعقد بأهل البيت وحدهم خلافًا للشيعة ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافًا لأحمد، ولا بأبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما، عند الأكثرين، قالوا: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى"، "اقتدوا باللذين من بعدى"، قلنا يدل على أهلية اتباع المقلد ومعارض بمثل: "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، و"خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء").

أقول: لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم مع مخالفة غيرهم لهم أو عدم الموافقة والمخالفة خلافًا للشيعة ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافًا لأحمد، ولا بأبى بكر وعمر عند الأكثرين خلافًا لبعضهم، لنا أن الأدلة لا تتناولهم وقد تكرر فلم تكرر، أما الشيعة فبنوا على أصلهم فى العصمة وقد قرر فى الكلام فلم يتعرض له، وأما الآخرون فقالوا: قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى"، وقال:"اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر".

الجواب: أنهما إنما يدلان على أهلية الأربعة أو الاثنين لتقليد المقلد لهم لا على حجة قولهم على المجتهد ثم إنه معارض بقوله: "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فإنه يدل على اهتداء من اقتدى بمن خلفهم، وبقوله:"خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء" والمراد المقلد قطعًا وإلا لزم كونه حجة عند مخالفتها لهم.

قوله: (أو عدم الموافقة والمخالفة) بأن علم منهم التوقف أو عدم سماع الحكم وإلا فيكون إجماعًا سكوتيًا.

قوله: (وقد قرر فى الكلام فلم يتعرض له) إشارة إلى دفع ما ذكره العلامة من أنه لا وجه لتركه أدلة الشيعة وكأنه غفل عنه عند الاختصار لأنه ذكر فى المنتهى فى مسألة برأسها، فإن قيل لم يبنوا على العصية بل تمسكوا بقوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام:"إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدًا كتاب اللَّه وعترتى"، ونحو ذلك قلنا: المراد أن عمدتهم الوثقى هى العصمة، وإلا فقد سبق أنهم لا يقولون بحجية الإجماع.

قوله: (لا على حجية قولهم) كأنه مبنى على الجمع بين الأدلة وإلا فدلالتهما على الحجة ظاهرة اللهم إلا أن يقال لفظ: "عليكم"، "واقتدوا"، مشعر بالتقليد

ص: 343

أما المعارضة بالحديثين فوجهها أنهما يدلان على جواز الأخذ بقول كل صحابى وبقول عائشة رضى اللَّه عنها وإن خالف قول الخلفاء أو الشيخين فلو كان قولهم حجة لما جاز ذلك فلزم الحمل على تقليد المقلد جمعًا بين الأدلة فظهر أن الأولى أن يقال بدل قوله عند مخالفتها: عند المخالفة ليتعلق بالحديثين جميعًا إذ لا جهة للتخصيص بالأخير.

المصنف: (بمثل: أصحابى كالنجوم. . . إلخ) فى إسناده مجاهيل كما ذكره ابن السبكى.

المصنف: (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء) قال الشارح ابن السبكى: قال شيخنا أبو الحجاج المزى رحمه الله: كل حديث فيه لفظ الحميراء لا أصل له إلا حديثًا واحدًا فى النسائى.

ص: 344

قال: (مسألة: لا يشترط عدد التواتر عند الأكثر. لنا دليل السمع فلو لم يبق إلا واحد فقيل حجة لمضمون السمع وقيل لا لمعنى الاجتماع).

أقول: لا يشترط فى حجية الإجماع أن يبلغ عدد المجتهدين عدد أهل التواتر عند الأكثر، لنا أن دليل السمع يتناول إجماع الأقل من عدد التواتر لكونهم كل الأمة والمسلمين، وأما من استدل بالعقل وهو أنه لو لم يكن عن قاطع لما حصل فلا بد له من القول بعدد التواتر فإن انتفاء حكم العادة فى غيره ظاهر، وإذا قلنا: لا يشترط فلو لم يبق من المجتهدين إلا واحد فقيل: قوله حجة لمضمون السمعى وهو أنه لا يخرج الحق عن هذه الأمة وإن لم يخالف صريحه لعدم صدق سبيل المسلمين واجتماع الأمة عليه وقيل ليس بحجة لأن الإجماع يشعر بالاجتماع ولأن الاجتماع وسبيل المسلمين هو المنفى عنه الخطأ، وهو منتف ههنا.

قوله: (فإن انتفاء حكم العادة فى غيره) أى فى غير عدد التواتر (ظاهر) يعنى أن العادة لا تحكم بأن اتفاق ما دون عدد التواتر لا يكون إلا عن قاطع وليس المراد بعدد التواتر عددًا معينًا محصورًا بل ما يحصل العلم الضرورى عند إخبارهم بأمر مشاهد كما سيجئ وهذا ظاهر على تقرير الآمدى حيث قال: من استدل على حجية الإجماع بدليل العقل وهو أن الجمع الكثير لا يتصور تواطؤهم على الخطأ كإمام الحرمين وغيره فلا بد من استرداد ذلك عنده لتصور الخطأ على من دون عدد التواتر فأما على تقرير المصنِّف حيث جعل الدليل العقلى هو أن أهل الحل والعقد قد اتفقوا على القطع بتخطئة المخالف، والعادة تحيل اتفاقهم على ذلك من غير قاطع فيلزم قطعية خطأ المخالف وقطعية ما عليه الإجماع وأنهم قد اتفقوا على تقديمه على القاطع وعلى أن غير القاطع لا يقدّم على القاطع فلا اختصاص له بعدد التواتر على ما أشار إليه المصنِّفُ فيما سبق اللهم إلا أن يقال: لا نسلم الاتفاق على القطع بتخطئة المخالف وعلى التقديم على القاطع فيما دون عدد التواتر.

قوله: (لمضمون السمعى) يعنى لو لم يكن قول ذلك الواحد حقًا لخولف مضمون السمعى وهو عدم خلو الأمة عن قائل بالحق مطلع عليه وأن لم يخالف صريحه بناء على أن قول ذلك الواحد ليس بسبيل المؤمنين أو إجماع الأمة أو نحو ذلك وكما يمتنع مخالفة صريح الدليل يمتنع مخالفة مضمونه وإن كان قوله:

ص: 345

يخالف على لفظ المبنى للفاعل ففاعله ضمير يعود إلى عدم حجيته أو إلى عدم حجية من يخالف قول ذلك الواحد وإن خالف مضمون الدليل وإن لم يخالف صريحه، وقد توهم بعضهم عود الضمير إلى ذلك القول وظاهر أنه ليس بمستقيم فغيروه إلى: وإن خالف وليس بسديد ولا مفيد على ما لا يخفى.

قوله: (وليس بسديد ولا مفيد على ما لا يخفى) أى لأن قوله فى ذاته بقطع النظر عن كونه حجة أو غير حجة لا معنى لكونه مخالفًا لصريح السمعى أو موافقًا له.

ص: 346

قال: (مسألة إذا أفتى واحد وعرفوا به ولم ينكره واحد قبل استقرار المذاهب فإجماع، أو حجة، وعن الشافعى رضى اللَّه عنه ليس إجماعًا، ولا حجة، وعنه خلافه. وقال الجبائى: إجماع بشرط انقراض العصر، ابن أبى هريرة إن كان فتيا لا حكمًا، لنا سكوتهم ظاهر فى موافقتهم فكان كقولهم الظاهر فينتهض دليل السمع المخالف يحتمل أنه لم يجتهد أو وقف أو خالف فروى أو وقر أو هاب فلا إجماع ولا حجة، قلنا خلاف الظاهر لأن عادتهم ترك المسكوت الآخر دليل ظاهر لما ذكرناه الجبائى انقراض العصر لضعف الاحتمال، ابن أبى هريرة العادة فى الفتيا لا فى الحكم أجيب بأن الفرض قبل استقرار المذاهب وأما إذا لم ينتشر فليس بحجة عند الأكثر).

أقول: إذا قال واحد أو جماعة بقول وعرف به الباقون ولم ينكره أحد منهم فإن كان بعد استقرار المذاهب لم يدل على الموافقة قطعًا إذ لا عادة بإنكاره فلم يكن حجة وإن كان قبله وهو عند البحث عن المذاهب والنظر فيها فقد اختلف فيه والحق أنه إجماع أو حجة وليس بإجماع قطعى، وعن الشافعى رضى اللَّه عنه أنه ليس إجماعًا ولا حجة، وروى عنه خلافه، وقال الجبائى: هو إجماع بشرط انقراض العصر، وقال أبو على بن أبى هريرة: إن كان القول فتيا فإجماع، وإن كان حكمًا فلا. لنا سكوتهم ظاهر فى موافقتهم إذ يبعد سكوت الكل مع اعتقاد المخالفة عادة كما ترى عليه الناس فكان ذلك فى إفادة الاتفاق ظنًا، كقول ظاهر الدلالة غير قطعيها، وحينئذٍ ينتهض دليل السمع فإنه سبيل المؤمنين، وقول كل الأمة وبالجملة فليس الظن الحاصل به دون الحاصل بالقياس وظواهر الأخبار فوجب العمل به، احتج المخالف وهو القائل بأنه ليس بإجماع ولا حجة بأنه يجوز أن يكون من لم ينكر إنما لم ينكر لأنه لم يجتهد بعد فلا رأى له فى المسألة أو اجتهد فتوقف لتعارض الأدلة أو خالفه لكن لما سمع خلاف رأيه روى لاحتمال رجحان مأخذ المخالف حتى يظهر عدمه أو وقره فلم يخالفه تعظيمًا له أو هاب المفتى أو الفتنة، كما نقل عن ابن عباس فى مسألة العول أنه سكت أولًا ثم أظهر الإنكار فقيل له فى ذلك فقال: إنه واللَّه لكان رجلًا مهيبًا يعنى عمر ومع قيام هذه الاحتمالات لا يدل على الموافقة فلا يكون إجماعًا ولا حجة.

الجواب: أنها وإن كانت محتملة فهى خلاف الظاهر لما علم من عادتهم ترك

ص: 347

المسكوت فى مثله كقول معاذ لعمر لما رأى جلد الحامل: ما جعل اللَّه على ما فى بطنها سبيلًا، فقال عمر: لولا معاذ لهلك عمر، وكقول امرأة لما نفى المغالاة فى المهر: أيعطينا اللَّه بقوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، ويمنعنا عمر، فقال: كل أفقه من عمر حتى المخدرات فى الحجال، وكقول عبيدة لعلى -لما قال:"تجدد لى رأى فى أمهات الأولاد أنهن يبعن": "رأيك فى الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك". وغير ذلك مما توقف عليه التتبع لآثارهم.

قال المخالف الآخر -وهو القائل بأنه إجماع-: سكوتهم دليل ظاهر فى موافقتهم فكان إجماعًا.

الجواب: الظهور لا يكفى فى كونه إجماعًا قطعيًا بل فى كونه حجة، ونقول به.

وقال الجبائى: قبل انقراض العصر الاحتمالات المذكورة قوية، فلا يكون إجماعًا، وأما بعده فيضعف الاحتمال فيكون ظاهرًا فى الموافقة، فيكون إجماعًا.

والجواب: ما قلنا، قال ابن أبى هريرة: العادة فى الفتيا أنها تخالف ويبحث عنها دون الحكم، فإن كلًا يحكم بما يراه فيتبع ولا يخالف كما ترى فى عصرنا، وأيضًا الحاكم كتاب ويوقر دون المفتى.

الجواب: أن ذلك بعد استقرار المذاهب وقد فرضنا المسألة فيما قبل استقرارها والفتيا والحكم حينئذٍ سواء لأن إنكار الحكم إنكار للفتيا، واعلم أن هذا كله إذا أفتى وانتشر بين أهل عصره ولم ينكر وأما إذا لم ينتشر فعدم الإنكار لا يدل على الموافقة قطعًا، وبه قال الأكثر لأنه يجوز أن لا قول لهم فيه أو لهم قول مخالف لم ينقل بخلاف ما تقدم، وأن ذلك إذا كثر وتكرر وكان فيما تعم به البلوى ربما أفاد القطع.

قوله: (فإجماع أو حجة) قال العلامة: إنما ردد فيه لأن أحدهما ثابت ضرورة لما سيجئ وهذا مذهب أبى هاشم أنه حجة وليس بإجماع قطعى وهو الذى اختاره المصنِّفُ وصرح به فى المنتهى.

قوله: (وعنه خلافه) قيل أى حجة لا إجماع وقيل أى حجة وإجماع وهذا أقرب لكونه مذهبًا لبعض الشافعية وقيام الدليل عليه بخلاف الأول وحينئذٍ ينتهض دليل

ص: 348

السمع، أى ظاهرًا فإن علمت موافقة الساكتين كان إجماعًا وإلا كان حجة لأن الاحتمال إنما يقدح فى القطعية دون الحجية كالقياس وخبر الواحد قال فى المنتهى وأما كونه غير قطعى فلانقداح الاحتمال.

قوله: (قال المخالف الآخر وهو القائل بأنه إجماع) ولا خفاء فى لزوم الحجية وهذا ما قال، وعنه خلافه والعلامة لما فسر الآخر بالقائل بكونه حجة لا إجماعًا قرر الدليل بأن سكوتهم دليل ظاهر على الموافقة فيكون حجة وإن لم يكن إجماعًا ولم يتنبه أن هذا بعينه ما اختاره المصنِّفُ.

المصنف: (إذا أفتى واحد) أى بعض المجتهدين واحد أو أكثر والمراد بالإفتاء هنا ما يشمل الحكم وإلا لم يصح التفصيل الآتى.

المصنف: (أو وقر) لا يقال: لا يصح المسكوت على المنكر فكيف يصح أن يسكت المجتهد توقيرًا لغيره لأنا نقول: إن اجتهاد غيره ليس منكرًا وليس على مجتهد رد اجتهاد غيره.

قوله: (لما سيجئ) أى فى القولة بعد هذه وهو أنه إن علمت موافقة الساكتين يعنى بنحو أمارة تدل على الرضا كان إجماعًا وإلا كان حجة، وقد رد ذلك ابن السبكى فى شرحه بأنه فاسد من وجهين أحدهما: أنه إذا علم أن سكوتهم عن رضا لم يكن من صور الإجماع السكوتى، والثانى: أن سكوتهم إذا لم يعلم أنه عن رضا فوراءه حالتان؛ إحداهما: أن يعلم أنه عن سخط وليس بحجة بلا نظر وكذا إذا ظن، والثانية: أن يجهل الحال فيكون حجة وإجماعًا ولا يلزم من كونه حجة وإجماعًا أن لا يكون قطعيًا حتى يجعل قسمًا مقابلًا للقطعى بل جاز كونه مظنونًا ونقطع مع ذلك بكونه حجة كما سلف، وقال قبل ذلك: إنه ليس المراد بالإجماع القطعى القطع بأن الإجماع حاصل إذ لا سبيل إلى ذلك مع أن السكوت يحتمل وجهًا سوى الرضا بل إن حكم اللَّه قطعًا ما ظنناه، وقد أشار إلى هذا البندنيجى وقال آخرون: بل ظنى واختاره ابن السمعانى وعلى المراد بالقطعى المذكور دل كلامه فى المختصر الكبير والأحكام. اهـ.

ص: 349

قال: (مسألة: انقراض العصر غير مشروط عند المحققين، وقال أحمد، وابن فورك: يشترط. وقيل فى السكوتى، وقال الإمام: إن كان عن قياس. لنا دليل السمع، واستدل بأنه يؤدى إلى عدم الإجماع للتلاحق، وأجيب بأن المراد عصر المجمعين الأولين إذ لا مدخل للاحق).

أقول: انقراض عصر المجمعين غير مشروط وفى انعقاد إجماعهم وكونه حجة فإذا اتفقوا ولو حينًا لم يجز لهم ولا لغيرهم مخالفته وعليه المحققون. وقال أحمد وابن فورك: يشترط، وقيل: يشترط فى السكوتى دون غيره، وقال إمام الحرمين: إن كان مستنده قياسًا اشترط وإلا فلا. لنا أن الأدلة السمعية عامة تتناول ما انقرض عصره وما لم ينقرض، واستدل لو اشترط الانقراض لما حصل إجماع لتلاحق المجتهدين بعض بعضًا، واللازم باطل، لأن البحث عنه فرع حصوله. الجواب: أن اللاحقين إما أن يقال: لهم مدخل فى الإجماع أو يقال: لا مدخل لهم فيه، فإن قلنا: لهم مدخل فلا نريد انقراض المجمعين مطلقًا بل انقراض المجمعين الأولين، وإن قلنا: لا مدخل لهم فظاهر لأن المجمعين هم الأولون فالشرط انقراض عصرهم.

قوله: (لتلاحق المجتهدين بعض بعضًا) فيه حزازة إذ لا يصح تلاحق زيد عمرًا إلا أن يكون بمعنى لحق ثم هذا التلاحق ليس بواجب بل غايته الجواز فمن أين يلزم عدم تحقق الإجماع؟

قوله: (إما أن يقال) يعنى اختلف القائلون باشتراط الانقراض فى فائدته فذهب الجمهور إلى أنه يعتبر موافقة اللاحقين ومخالفتهم حتى لا تصير المسألة إجماعية مع مخالفتهم وذهب أحمد وجماعة إلى أنه لا يعتبر بل فائدته تمكن المجمعين عن الرجوع حتى لو انقرضوا مصرين كانت المسألة إجماعية لا عبرة فيها بمخالفة الآخرين فعلى الأوّل أهل الإجماع هم السابقون واللاحقون جميعًا لكان إنما يشترط انقراض السابقين فقط وعلى الثانى هم السابقون فقط فيصح اشتراط انقراض المجمعين كلهم.

قوله: (فيه حزازة. . . إلخ) رد بأن التفاعل للكثرة، وقوله: فمن أين يلزم عدم تحقق الإجماع رد بأن المراد لو شرط لزم عدم تحقق الإجماع فى زمان قد تحقق فيه وهو زمان الصحابة والتابعين وحينئذ لا يمنع اللحوق.

ص: 350

قال: (قالوا: يستلزم إلغاء الخبر الصحيح بتقدير الاطلاع عليه. قلنا: بعيد وبتقديره فلا أثر له مع القاطع، كما لو انقرضوا. قالوا: لو لم يشترط لمنع المجتهد من الرجوع عن اجتهاده. قلنا: واجب لقيام الإجماع، قالوا لو لم تعتبر مخالفته لم تعتبر مخالفة من مات لأن الباقى كل الأمة. قلنا: قد التزمه بعض والفرق أن هذا قول من وجد من الأمة فلا إجماع).

أقول: القائلون باشتراط الانقراض احتجوا بوجوه:

قالوا: أولًا: عدم اشتراطه يستلزم عدم العمل بالخبر الصحيح إن اطلع عليه وذلك يؤدى إلى إبطال النص بالاجتهاد، وأنه باطل.

الجواب: وجوده مع ذهول المجمعين عنه بعد الفحص والاطلاع عليه من بعد بعيد جدًا، ولو قدر لا يعمل به ولكن لا للاجتهاد بل لأن القاطع دل على خلافه وهو الإجماع، وإن كان عن الاجتهاد وذلك كما لو اطلع عليه بعد الانقراض، فجوابكم جوابنا.

قالوا: ثانيًا: لو لم يشترط الانقراض لمنع المجتهد من الرجوع عن اجتهاده واللازم باطل، بيانه أنه إذا تغير اجتهاد بعض المجمعين وقد انعقد الإجماع باجتهاده فيحكم باجتهاده الأول، ولا يمكن من العمل باجتهاده الثانى، لمخالفته الإجماع، وذلك ما ادعينا.

الجواب: لا نسلم أن اللازم باطل مطلقًا بل عند عدم الإجماع وأما معه فالمنع عن الرجوع واجب، كما قيل: رأيك فى الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك.

قالوا: ثالثًا: لو لم تعتبر مخالفته إذا رجع فلأن الأول اتفاق كل الأمة فيجب أن لا تعتبر مخالفة من مات فيكون اتفاق الباقين إجماعًا لأنه اتفاق كل الأمة واللازم باطل.

الجواب: أن عدم اعتبار مخالفة من مات مختلف فيه، فأما من قال به فإنه يمنع بطلان اللازم ويلتزمه، وأما من لم يقل به فيمنع الملازمة ويفرق بأن القول لا يموت بموت قائله، فقول المخالف الميت قول بعض من وجد من الأمة، وهو متحقق حين الإجماع فلا ينعقد مع مخالفته بخلاف ما نحن فيه إذ وجد فيه قول كل الأمة حين لم يوجد قول مخالفه، وإذا انعقد فلا عبرة بما يحدث بعده سواء فيه قول بعضهم وقول غيرهم.

ص: 351

قوله: (قالوا يستلزم) تقريره لو لم يشترط الانقراض فإن اطلع واحد منهم على خبر صحيح لزم ترك العمل به فيؤدى إلى جواز إبطال النص بالاجتهاد لجواز أن يكون سند الإجماع هو القياس فعلى هذا لا توجيه لاستبعاد وجود الخبر بل لاستحالته لأن الشرطية لا تقتضى ثبوث المقدم فكأنه أراد أنه محال فيجوز أن يستلزم المحال هذا والأولى الاقتصار على منع بطلان اللازم.

قوله: (إذا رجع) إشارة إلى أن ضمير مخالفته للبعض من أهل الإجماع فيكون على وفق ما سبق دليلًا على اشتراط انقراض العصر وأن المسألة لا تصير قطعية إجماعية بحيث لا يجوز الرجوع عنها وبعضهم جعل الضمير للمجتهد واللاحق فى عصرهم وبعضهم للمجتهد الموجود معهم سواء كان منهم أو من اللاحقين فى عصرهم والحق ما قاله المحقق.

قوله: (فعلى هذا لا توجيه لاستبعاد. . . إلخ) أى أن الاطلاع جعل شرطًا ولم يدع وقوعه حتى يقال إنه بعيد.

قوله: (بل لاستحالته) أى بل توجيه لاستحالته وقوله فكأنه أراد أنه محال. . . إلخ. أى كأن المصنف أراد ببعيد أنه محال والمحال جائز أن يستلزم المحال فلا ضرر فى ذلك، وفيه أنه قد جعل قوله فإن اطلع. . . إلخ. تاليًا لقوله لو لم يشترط انقراض العصر فالتالى شرطية، وهو خلاف ظاهر الشارح من جعل التالى لزوم ترك العمل بالخبر الصحيح إن اطلع عليه فقوله: إن اطلع بيان للوضع الذى يترتب عليه التالى وهو أمر لا بد منه حتى يتحقق اللزوم بين المقدم والتالى على أن هذا الجواب سواء كان البعد باقيًا على حاله أو مؤولًا بالاستحالة ليس منعًا للملازمة ولا لبطلان اللازم.

ص: 352