الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال:
(مسألة: يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه
عند وقته فلذلك يعلم قبل الوقت، وخالف الإمام والمعتزلة ويصح مع جهل الآمر اتفاقًا. لنا لو لم يصح لم يعص أحد أبدًا، لأنه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة أو حادثة، وأيضًا لو لم يصح لم يعلم تكليف لأنه بعده ومعه منقطع وقبله لا يعلم فإن فرضه متسعًا فرضناه زمنًا زمنًا، فلا يعلم أبدًا وذلك باطل، وأيضًا لو لم يصح لم يعلم إبراهيم وجوب الذبح والمنكر معاند، وقال القاضى: الإجماع على تحقق الوجوب، والتحريم قبل التمكن، المعتزلة لو صح لم يكن الإمكان شرطًا فيه، وأجيب بأن الإمكان الشروط أن يكون مما يتأتى فعله عادة عند وقته واستجماع شرائطه والإمكان الذى هو شرط الوقوع محل النزاع وبأنه يلزم أن لا يصح مع جهل الآمر قالوا لو صح لصح مع علم المأمور وأجيب بانتفاء فائدة التكليف، ولهذا يطيع ويعصى بالعزم والبشر والكراهة).
أقول: الفعل الذى ينتفى شرط وقوعه عند دخول وقته إن جهل الآمر انتفاءه صح التكليف به اتفاقًا وإن علم انتفاءه فهل يصح التكليف به؟ قال الجمهور: يصح فلذلك يعلم التكليف قبل دخول الوقت وإن لم يعلم وجود شرطه وتمكنه فى الوقت ولولا أن تحقق الشرط فى الوقت ليس شرطًا فى التكليف لما علم قبل وقته إذ الجهل بالشرط يوجب الجهل بالشروط وقال الإمام والمعتزلة: لا يصح لنا لو لم يصح التكليف بما علم عدم شرطه لم يعص أحد واللازم باطل بالضرورة من الدين بيان الملازمة أن كل ما لم يقع فقد انتفى شرط من شروطه من إرادة قديمة أو حادثة، فلا تكليف به فلا معصية، ولنا أيضًا لو لم يصح لم يعلم أحد أنه مكلف واللازم باطل، أما الأولى فلأن مع الفعل أو بعده سواء فعل أو عصى ينقطع التكليف وقبله لا يعلم لجواز أن لا يوجد شرط من شروطه فلا يكون مكلفًا، فإن قيل يعلمه قبل الفعل إذا كان الوقت متسعًا وقد وجد شرطه عند دخول الوقت، فإنه كاف فى تحقق التكليف، قلنا فنفرضه زمنًا زمنًا، ونردد فى كل جزء فإنه مع الفعل فيه أو بعده ينقطع وقبل الفعل يجوز أن لا يبقى بصفة التكليف فى الجزء الآخر فلا يأثم بالترك فلا تكليف، وأما بطلان اللازم فبالضرورة، ولنا أيضًا لو لم يصح لم يعلم إبراهيم وجوب ذبح ولده لانتفاء شرطه عند وقته وهو عدم النسخ وقد علمه قطعًا وإلا لم يقدم على قتل ولده ولم يحتج
إلى فداء، وقد أنكر قوم العلم بالتكليف، قبل دخول الوقت، وهو معاندة، وقال القاضى: وهو مخالف للإجماع؛ للإجماع على تحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن من الفعل ويحققه وجوب الشروع فيه بنية الفرض إجماعًا، للمعتزلة وجهان:
قالوا: أولًا: لو صح التكليف بما علم عدم شرطه وما عدم شرطه غير ممكن لزم أن لا يكون الإمكان شرطًا فى التكليف، واللازم منتف لما مر فى مسألة تكليف المحال.
والجواب بوجهين:
أحدهما: أن الإمكان الذى هو شرط التكليف أن يكون مما يتأتى فعله عادة عند حضور وقته واستجماع شرائطه وهو غير الإمكان الذى هو شرط وقوعه وهو استجماع شرائطه بالفعل، فإن عنيت بقولك: لم يكن الإمكان شرطًا، الأول منعناه فإن عدم الشرط لا ينافيه، أو الثانى التزمناه لأنه عين محل النزاع.
ثانيهما: أنه يلزم مما ذكرتم أن لا يصح التكليف مع جهل الآمر بعدم الشرط كما فى الشاهد إذ عدم الإمكان بالنسبة إلى المأمور مشترك ولا أثر فيه لعلم الآمر وجهله.
قالوا: ثانيًا: لو صح مع علم الآمر بعدم الشرط لصح مع علم المأمور به واللازم باطل، أما الأولى فإذ لا مانع من الصحة يقدر غير كونه غير متصوّر حصوله وأنه لا يصح مانعًا كما فى صورة النزاع، وأما الثانية فبالاتفاق.
الجواب: لا نسلم أنه لا مانع إلا ما ذكرتم بل ههنا مانع آخر، وهو: انتفاء فائدة التكليف مع علم المأمور بانتفاء الشرط وهو الابتلاء بخلاف ما إذا جهل هو وعلم الآمر، فإنه يمكنه الفعل لو وجد الشرط فيصير مطيعًا عاصيًا بالعزم على الفعل والترك، وبالبشر به وبالكراهة له.
قوله: (والمنكر معاند) الظاهر ما ذهب إليه الشارحون من أن المراد أن منكر علم إبراهيم عليه السلام بوجوب الذبح معاند إلا أن المحقق حمله على ما يعم علم إبراهيم عليه السلام بوجوب الذبح وعلم سائر المكلفين بالتكاليف قبل دخول الأوقات، إلا أنه ينبغى أن يراد دخول وقت الامتثال على ما لا يخفى والذى يشعر
بهذا التعميم هو أن قول القاضى مع عمومه متعلق بقوله: والمنكر معاند، على ما بينه المحقق، إذ لو كان ابتداء احتجاج آخر على ما ذهب إليه الشارحون لم يصرح بلفظ قال على ما هو دأبه، وفى قوله: على تحقق الوجوب إشارة إلى دفع الاعتراض بأنه يجوز أن يكون بالإجماع على ظاهر ذلك بناء على أن الغالب من المكلف بقاؤه وتمكنه، وفى قوله: بنية الفرض إجماعًا، إشارة إلى رد ما ذكر من أنه مختلف فيه، يعنى لا اعتداد بالمخالف فى ذلك مع اتفاق المجتهدين.
قوله: (إن جهل الآمر): يعنى كما فى الشاهد مثل أن يقول السيد لعبده: صم غدًا فإنه مشروط ببقاء العبد وأما فى أوامر اللَّه تعالى فلا يتصور ذلك.
قوله: (فلذلك يعلم) جعل الآمدى وغيره أصل المسألة هو أن المكلف هل يعلم قبل التمكن من الامتثال أنه مكلف؟ فأشار المصنِّفُ إلى أن الأصل هل يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرطه؟ وما ذكر فرع عليه.
قوله: (ولولا أن تحقق الشرط) مبناه على أن القول بكون العلم بانتفاء الشرط مانعًا من صحة التكليف قول بأن تحقق الشرط شرط فى صحة التكليف إذ لو لم يكن شرطًا لم يتصور لامتناع التكليف عند العلم بانتفاء شرطه جهة.
قوله: (من إرادة قديمة) كإرادة اللَّه، أو حادثة كإرادة العبد، يعنى لا خلاف فى أن الفعل المكلف به مشروط بالإرادة، وإن وقع الخلاف فى أنه إرادة اللَّه تعالى، أو إرادة العبد، وما ذهب إليه العلامة من أن المراد إرادة اللَّه قديمة كانت أو حادثة، على اختلاف القولين فبعيد.
قوله: (لم يعلم أحد أنه مكلف) إشارة إلى أن معنى قوله: لم يعلم تكليف لم يعلم فى شئ من الأزمنة أنه مكلف فى ذلك الزمان، وحينئذٍ ينقطع ما ذكره العلامة من منع اللازمة لجواز أن يعلم بعد الإتيان أنه كان مكلفًا قبله ولا يخفى أن الكلام إلزامى وإلا فلا انقطاع مع الفعل عند الأشعرى، وأما قوله: سواء فعل أو عصى فزيادة أخذها من كلام المنتهى ولا معنى لها ههنا إذ لا يصح تعلقه بقوله: مع الفعل وهو ظاهر ولا بقوله: بعده لأن الضمير للفعل وبعد الفعل لا يتصور الإتيان ولا العصيان وإنما صح فى المنتهى لأن الضمير لوقت الامتثال حيث قال: مسألة: المكلف يعلم التكليف قبل وقت الامتثال، وإن لم يعلم يمكنه عنده، ثم قال: لو لم يعلم قبله لم يعلم تكليف أبدًا لأنه بعده إن فعل أو عصى انقطع، ثم
لا يخفى أن الانقطاع على تقدير العصيان مبنى على كون القضاء بأمر جديد.
قوله: (ومما عدم شرطه) أى ما يصح عليه الحكم بذلك وهو فى معنى ما علم عدم شرطه.
قوله: (إذ عدم الإمكان) يعنى أن عدم إمكان الفعل الذى عدم شرطه بالنسبة إلى المأمور مشترك بين أن يكون الآمر عالمًا بعدم شرطه كما فى أمر اللَّه تعالى أو جاهلًا كما فى الشاهد مثل أمر السيد غلامه من غير تأثير علم الآمر أو جهله فى ذلك فيلزم أن لا يصح التكليف بالفعل الذى جهل الآمر انتفاء شرط وقوعه وقد صح اتفاقًا.
قوله: (لصح مع علم المأمور به) أى مع علم المكلف بانتفاء شرطه، وأما قوله: فى الجواب مع علم المأمور بانتفاء الشرط على ما فى النسخ فلفظ به زائد لا معنى له اللهم إلا أن يجعل عائدًا إلى المشروط.
قوله: (فإنه يمكنه الفعل) أى بالنظر إلى اعتقاده إمكان وجود الشرط.
المصنف: (انتفاء شرط وقوعه) أى وقوع ما ليس مقدورًا له، وقوله: عند وقته أى وقت مباشرة الفعل لا الوقت المقدر له شرعًا كما يؤخذ من قول المحشى قبل التمكن من الامتثال.
المصنف: (وخالف الإمام والعتزلة) هذا يناقض ما تقدم من الإجماع على صحة التكليف بما علم اللَّه عدم وقوعه لأن كل ما لم يقع فبانتفاء شرط من إرادة اللَّه تعالى أو إرادة العبد اتحد ما علم اللَّه أنه لا يقع فى الوقت وما علم اللَّه أنه ينتفى شرط وقوعه عند وقته فحكاية الإجماع هناك مناقضة لحكاية الخلاف هنا قال ابن السبكى فى شرحه لهذا المتن جوابًا عن هذا الإشكال: ما لوقوعه شرط إن علم الآمر الشرط واقعًا فلا إشكال فى صحة التكليف به، وإن جهله ويفرض فى السيد يأمر عبده فكذلك، ونقل المصنف الاتفاق عليه وفيه نظر، وإن علم انتفاءه فهو على قسمين: أحدهما: ما يتبادر الذهن إلى فهمه حين إطلاق التكليف كالحياة والتمييز فإن السامع متى سمع التكليف تبادر ذهنه إلى أنه يستدعى مميزًا فهذا هو الذى خالف فيه الإمام، وثانيهما: خلافه وهو ما لا يتبادر إليه الذهن وهو تعلق علم اللَّه مثلًا بأن زيدًا لا يؤمن فإن انتفاء هذا التعلق شرط فى وجود إيمانه ولكن
السامع يقضى بإمكان إيمان زيد غير ناظر إلى هذا الشرط وهذا لا يخالف فيه الإمام ولا غيره وهو ما سبق نقل الإجماع عليه، وسمعت من يقول: موضع الإجماع أولًا هو هذه المسألة ولكن نسب المخالفين فيها إلى خرق إجماع سابق عليهم وهذا ليس بشئ فإنه مع لزومه تكرر مسألة واحدة فى غير غرض فيه نسبة إمام الحرمين إلى خرق الإجماع ولن يجترئ المصنف ولا أجلَّ منه على ذلك وإنما الصواب ما ذكرناه على أن المسألة لا يترجمها أئمتنا بما ترجمها المصنف وإنما هى مترجمة عندهم بما جعله المصنف فائدة لهذه وهو أنه هل يعلم المأمور كونه مأمورًا فى أول وقت يوجه الخطاب إليه، أو لا يعلم ذلك حتى يمضى عليه زمن الإمكان، لأن الإمكان شرط التكليف والجاهل بوقوع الشرط جاهل بوقوع المشروط، قال أصحابنا بالأول وقال المعتزلة بالثانى واختاره إمام الحرمين، فهو فى الحقيقة اختلاف فى زمن تحقق الوجوب على المكلف لا فى صحة التكليف وعدمها ولكن عبارة المصنف قاصرة فالفعل الممكن بذاته إذا أمر اللَّه تعالى عبده به فسمع الأمر فى زمن ثم فهمه فى زمن يليه هل يعلم العبد إذ ذاك أنه مأمور مع أن من المحتمل أن يقطعه عن الفعل قاطع عجز أو موت أو نحوهما ويكون شاكًا فى ذلك أو لا؟ أصحابنا على الأول فيرون تحققًا مستفادًا من صيغة الأمر وإنما الشك فى رافع برفع المستقر، والقوم على العكس وربما أثر هذا الخلاف فى النية فيلزم القوم أن لا يوجد نية جازمة لحصول الشك فلا يصح لهم عمل. اهـ. وما أجاب به عن المصنف لا ينهض مع قول المصنف فى الاستدلال: لو لم يصح لم يعص أحد أبدًا لأنه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة أو حادثة إذ مقتضاه أنه لا يفرق بين ما يتبادر الذهن إلى فهمه وما لا يتبادر.
الشارح: (فلأنه مع الفعل) أى مع مباشرته وقوله: أو بعده أى بعد وقته المقدر للفعل يدل على ذلك قوله الآتى: فإنا نفرضه زمنًا زمنًا وبهذا اندفع اعتراض المحشى بأن قول الشارح: سواء فعل أو عصى زيادة أخذها من كلام المنتهى لا معنى لها.
قوله: (والمنكر معاند) هذه القولة مكررة مع القوله اللاحقة فى نسخ الطبع والصواب إسقاطها من هنا.
قوله: (فأشار المصنف إلى أن الأصل. . . إلخ) لأنه على كلام الآمدى يكون
محل الخلاف شاملًا لما إذا جهل الآمر انتفاء شرط الوقوع عند الوقت مع أن التكليف صحيح اتفاقًا وحينئذ فيعلم المكلف قبل التمكن أنه مكلف اتفاقًا بخلافه على كلام المصنف فإنه يكون محل ما إذا علم الآمر انتفاء شرط الوقوع فإن صح التكليف حينئذ وجد معلومًا للمأمور وإلا فلا.
قوله: (إشارة إلى أن معنى قوله لم يعلم تكليف. . . إلخ) وجه الإشارة أنه إذا كان المراد لم يعلم أحد أنه مكلف لم يستقم إلا إذا كان المعنى لم يعلم أنه مكلف فى زمن التكليف.