الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقول الثاني: أنّ الحكم حكمه يرجع إلى رضا الخصمين فإن حكم ورضوا صار ملزما وإن لم يرضوا انتقلوا إلى من نصبه الإمام والراجح القول الأول لأنّ هذا حكما دل الشرع على اعتباره ومن هنا نقول ينبغي للرجل إذا حكّم أن يتجاوز هذه المسألة الخلافية وأن يشترط على الخصمين أن يقبلا بقوله وأن يوقعا على القبول بقوله. لأمرين: الأول: خروجا من هذه المسألة الخلافية حتى يصبح حكمه لازما لهما. الثاني" حتى لا يصبح هذا المجلس الذي عقد للقضاء مجلس عبث أنهم يجلسون ويحتكمون ويتناقشون ثم يصدر المحكّم حكمه ثم تجد أنّ المحكوم عليه لا يرضى فتكون المسألة عبث وضياع للوقت للخصمين والمحكم فينبغي عليه أن يراعي إلزامهما لهذين الأمرين.
ثم - قال رحمه الله (والحدود واللعان وغيرها)
أي أنه حكمه نافذ في جميع الأشياء واستدلوا بالعمومات فإنّ النصوص الدالة على تجويز تحكيم غير الحكم المنّصب عامة ليس فيها تخصيص موضوع دون موضوع من القضايا.
والقول الثاني: أنه لا ينفذ إلاّ في الأموال لأنّ الحدود والأنكحة وغيرها أمور حساسة وفتح الباب فيها لغير القاضي الرسمي يؤدي نوعا ما إلى التلاعب والتساهل والراجح إن شاء الله أنّ له أن يحكم بالأموال والأنكحة والمقصود بالأنكحة توابع الأنكحة كالطلاق والخلع والرجعة وليس له أن يحكم في القصاص والحدود ونحوها وبهذا تجتمع إن شاء الله الأدلة.
باب آداب القاضي
قوله باب آداب القاضي. المقصود بآداب القاضي يعني أخلاقه التي ينبغي أن يكون عليها والخلق هو صورة النفس الداخلية لأنّ الإنسان له صورة خارجية وداخلية فالصورة الداخلية هي الأخلاق. لأنك تجد الإنسان جميل الشكل حسن الهندام ثم لا تكاد تعامله معاملة خلطة وصحبة أو معاملة مالية إلاّ وتجد عنده من سوء الخلق وعسر التعامل ما لا يخطر على بالك وهذه الآداب منها آداب واجبة ومنها آداب مستحبة وسيأتي التنبيه على كل واحد منها.
يقول رحمه الله (ينبغي أن يكون قويا من غير عنف ليّنا من غير ضعف)
ينبغي أن يجمع بين القوة وعدم العنف لأنه إذا كان عنيفا امتنع صاحب الحق الضعيف ، وإذا كان ليّنا اجترأ المبطل القوي فعليه أن يتوازن بين هذين الخلقين ليتمكن الضعيف من أخذ حقه ويرتدع الغشيم القوي من الاعتداء سواء الاعتداء في مجلس القضاء أو الاعتداء على خصمه.
والقول الثاني: أنّ هذا واجب وليس بسنة فيجب عليه أن يتوازن بين الرفق والعنف لأنّ الإخلال بهذين الخلقين يؤدي إلى الإخلال بإيصال العدل إلى مستحقه وإيصال العدل إلى مستحقه واجب فما يخل به محرم وهذا القول وجيه جدا. للعنف يناسب ولا الضعف يناسب بل عليه أن يتوسط بينهما.
ثم - قال رحمه الله (حليما ذا أناة وفطنة)
ذكر ثلاثة أوصاف أن يكون متأنيا حليما فطنا ، فشرط الحلم سببه أنه إذا كان القاضي لا حلم عنده يستطيع أي من الخصمين استفزازه بأي كلمة صار سريع الغضب وإذا غضب أصبح لا يتمكن من تصور القضية على الوجه المطلوب فصار الحلم مهما للحكم الصحيح. ذا أناة: يعني يجب أن يكون متأنيا لأنّ الطيش والسرعة والعجلة مظنة الخطأ في كل شيء لاسيما في باب الأحكام والقضاء وهذا خلق ضروري جدا هو أهم من الحلم الاستعجال يمنع من التصور الكامل. ذا فطنة: ينبغي أن يكون القاضي ذا فطنة لئلا يتمكن الخصم من خداعه وغتره وذهب بعض الفقهاء ومنهم المرداوي إلى أنّ البليد الغبي لا يجوز أن يعيّن قاضيا لأنّ ذهاب الفطنة منه مدعاة لضياع الحقوق وتقدم معنا نظير هذا في شروط القاضي حين الكلام عن شرط العقل وأنّ بعض الفقهاء يقول ليس مجرد العقل وإنما ما هو أكثر من هذا فهذا الكلام يلتقي مع هذا الخلق من أخلاق القاضي وهو أن يكون فطنا وهذا صحيح ومن المعلوم لكل إنسان أنه إذا قيل أن يكون فطنا لا يعني هذا أن يكون من أذكى الناس ولكن يعني أن لا يوصف بالبلادة فإذا وصف بها من خلال التجربة فإنه لا يجوز أن يعيّن قاضيا.
ثم - قال رحمه الله (وليكن مجلسه في وسط البلد)
يستحب أن يكون مجلس القاضي في وسط البلد سواء اتخذ مكانا خاصا للقضاء أو كان يقضي في بيته لأنّ وجود المجلس في وسط البلد يؤدي إلى سهولة الوصول إلى مجلس القضاء وسهولة رفع القضايا. وهذا قد يكون في زمن الأزمان مهم ولكن الآن الأمر يختلف وسهولة الوصول إلى مجلس القضاء تحقق أينما كان القاضي اليوم لو أردنا نشترط شرطا آخر أو نقول ينبغي تحقيق أمر آخر وهو أن لا تكون المحكمة في مكان فيه زحام هذا الذي يعيق وصول الإنسان إلى مراده من المحكمة لا بعد ولا قرب وإنما مكان الزحام فينبغي أن تكون المحكمة ليست بجوار أي دائرة حكومية ليسهل على الإنسان الوصول إليها هذا هو الذي يعني اليوم ينبغي أن يكون من الآداب.
ثم - قال رحمه الله (فسيحا)
لأنّ المجلس الضيّق يؤذي القاضي والخصوم وربما استعجل القاضي أو استعجل الخصوم بالخلاص من هذا الضيق مما يؤدي إلى الإخلال بالقضية من حيث الحجج والبراهين وأيضا من حيث تصور القضية والحكم فينبغي أن يكون فسيحا رحبا سهل الجلوس لا يتأذى من فيه
ثم - قال رحمه الله (ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه)
هذا الخلق واجب فإن تركه فهو آثم والدليل على وجوبه من وجهين: الأول" أنّ هذا محل إجماع فإنهم أجمعوا أنه يجب أن يعدل في لحظه وفي لفظه يعني في نظره إلى الخصوم وفي طريقة الكلام معهم.
الدليل الثاني: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال من ولي أمر القضاء للمسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه. وهذا الحديث إسناده كما قال البيهقي ضعيف لكن معناه لا شك في صحته والنصوص العامة تشهد له.
الدليل الثالث: أنه لو لم يعدل لأدى هذا إلى انكسار الضعيف الذي جار عليه القاضي وعدم القيام بحجته وهذا يؤدي إلى ضياع الحقوق وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنّ القاضي يجب أن يكون عادلا في لفظه ولحظه فلو فرضنا أنّ بعض القضاة إذا تكلم أحد الخصمين توجه إليه بوجهه واستقبله وأرعاه سمعه واستعاد الألفاظ منه ليفهمها وإذا تكلم الخصم الآخر صار ينظر في الأوراق أو يلتفت إلى النافذة فلا شك أنه وقع في محرم وأنه آثم ويحتاج إلى التوبة كذلك طريقة الكلام فكونه إذا تكلم مع أحدهما تكلم برفق وعناية وابتعد عن النهر والتشديد واختيار الألفاظ وإذا تكلم مع الآخر زجره واستعجله وأمره أن يلقي بحججه فورا مما يربك الخصم فأيضا لا شك أنه وقع في محظور يعني يجب أن يتوب منه يستثنى من هذا إذا كان أحد الخصمين لجوجا ليس بمؤدب فلا حرج على القاضي أن يغلظ عليه القول وأن يؤدبه لأنّ هذا الإغلاظ ليس بسبيل الحكومة أو المسألة المعروضة وإنما للتأديب فلا شك وأحيانا ينبغي ويتحتم على القاضي أن لا يدع أحد الخصمين لجوجا غضوبا يعتدي على القاضي تارة وعلى الخصم الآخر في مجلس الحكم تارة ويطلق من الألفاظ ما لا يحسب له حسابه ينبغي أن يضبط مجلس الحكم.
ثم - قال رحمه الله (ومجلسه ، ودخولهما عليه)
أيضا يجب عليه أن يسوي بينهما في مجلسه وفي دخولهما عليه ولو قال في دخولهما عليه وفي مجلسه لكان أولى بالتضليل فإنهم يدخلون ثم يجلسون ففي دخولهم لا يقدم أحدا على أحد فلا يأمر بدخول فلان قبل فلان بل يدخلون عليه جملة واحدة فإن كان الباب لا يكفي لأثنين فإنه لا يأمر أحدا بالدخول فإن تقدم أحدهما فتقدمه ليس بأمر القاضي فلا حرج عليه.
الأمر الثاني: أن يجلسهما أمامه متساويين فلا يفضل أحدهما على الآخر وهذا القدر أيضا مجمع عليه إلاّ في مسألة واحدة إذا كان أحد الخصمين كافرا فإنّ الحنابلة يرون أنه يجوز أن يقدم في الدخول وأن يفضل في الجلوس لأنه لا يستوي المسلم والكافر ولأنه لا يمكن أن نسوي بين من أطاع الله وبين من عصى الله.
والقول الثاني: أنه يجب أن يسوي بينهما ولو كان أحدهما كافرا لأنّ الشأن الآن تحقيق العدل ولا يكون إلاّ بذلك فإنّ هذا المجلس مجلس الحكم وليس مجلس تفضيل وهذا القول الثاني يؤيده ظواهر الآثار فإنّ الصحابة احتكموا إلى أهل الذمة في وقائع عديدة ولم ينقل أنّ أحدا من القضاء فضل أحدا منهم على الكافر وهذا القول هو الراجح.
ثم - قال رحمه الله (وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب ويشاورهم فيما أشكل عليه)
قال الإمام أحمد ما أحسن أن يفعل القاضي هذا اشتمل كلام المؤلف على أمرين:
الأمر الأول: أن يحضرهم مجلسه ، والأمر الثاني" أن يشاورهم. نبدأ بالمشاورة. المشاورة حكي الإجماع على استحبابها ومستند الإجماع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم شاور في وقائع عديدة شاور في أحد وشاور في بدر وشاور في حجة الوداع وشاور الرجال وشاور النساء وشاور أبو بكر رضي الله عنه وشاور عمر رضي الله عنه في ميراث الجدة وعمر شاور في جلد شارب الخمر وشاور في وقائع عديدة فهذه النصوص تدل بمجموعها مع الإجماع على أنه لا شك أنه يستحب أن يشاور.
مسألة الثانية / أن يحضرهم المجلس استدل الحنابلة على هذا بأنّ قاضي المدينة كان يجلس القاسم عن يمينه وسالم عن يساره يعني يحضر الفقهاء بجواره ، وكان قاضي الكوفة يحضر اثنين من سادة التابعين أحدهم عن يمينه وأحدهم عن يساره.
الدليل الثاني: أنّ وجود المشاور في مجلس الحكم يؤدي إلى أمرين: الأول: التسريع في البّت في القضية.
الثاني: أنّ المشاور يكون ملما بالقضية سامعا من الخصوم مما يجعل كلامه أتقن لأنه سمع.
والقول الثاني: أنه لا ينبغي إحضارهم عند القاضي لأنّ هذا يشعر لاسيما عند العوام بنقص علمه ولأنّ هذا يربك القاضي والخصوم ولأنهم قد يعترضوا على حكمه. أي القولين أرجح؟ يظهر لي أنا أنه يستحب إحضارهم لأمرين:
الأول: الآثار عن التابعين وهؤلاء ناس لهم عقول ينبغي عدم تخطيها إلاّ بتأني.
الثاني: اليوم أثبتت التجارب أنّ في بعض التجارب في المحاكم اللي يكون من شأن الحكم فيها أن يكون جماعيا بعد المشاورة كما يحصل في بعض الأنظمة أنّ هذا صار سببا في إتقان الحقيقة الحكم والتسريع. بل يكاد القاضي إذا مال إلى قول ثم أيدّه جميع أهل المشورة هل سيتوقف في هذا لن يتوقف طرفة عين وإذا خالفوه كلهم عن قول واحد فسيرجع في الغالب إلى قولهم والمحاذير المذكورة تفاديها سهل جدا بأن تضبط في مجلس الحكم بأن يكون القاضي يتقدم إلى من سيشاورهم بأنه وظيفتهم المشاورة لا الاعتراض وأنّ المداولات تكون سرية وضبط هذه القضية سهل جدا.
ثم - قال رحمه الله (ويحرم القضاء وهو غضبان)
لا يجوز للقاضي وهو آثم إذا حكم وهو غضبان لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان. وهذا الحديث في الصحيحين ولا إشكال في صحته.
الأمر الثاني: أنّ الغضب يحول بين وبين تصور الكلام العادي فضلا عن الحجج والبراهين
والمؤلف يقول رحمه الله (وهو غضبان كثيرا)
أفادنا المؤلف أنّ الغضب اليسير لا بأس معه أن يحكم وهذا صحيح لأنّ الغضب اليسير لا يمنع القاضي من أن يتأمل في القضية وأن يتأنى ثم إنّ المداولات أثناء الجلسة يصعب معها أن نشترط على القاضي أن لا يغضب ولا غضب يسير هذا قد يكون فيه صعوبة مع الأخذ والعطاء وتناقل الحجج والاعتراض على القاضي قد يكون اشتراط أن لا يغضب ولا غضبا يسيرا هذا صعب ولهذا نقول هي عبارة جيدة من المؤلف والغضب اليسير لا يمنع القضاء.
ثم - قال رحمه الله (أو حاقن)
الحاقن هو المحصور بالبول والحاقن هو المحصور بالغائط وإنما ذكر الحاقن لأنه أعظم تشويشا على الذهن فإنّ الحاقن لا يكاد يتصور ما يسمع مطلقا حتى يقضي حاجته وهو من أعظم ما يتأذى به الإنسان ولهذا تعرفون أنّ الفضيل بن عياض أصابه الحصر حتى صار إلى مرحلة عظيمة جدا من الألم وكان لا يطلب الله سبحانه وتعالى إلاّ أمر الآخرة رحمه الله ولكنه وصل إلى مرحلة جدا حرجة فقال اللهم بحبي إليك أطلقه. قال فثار كأن لم يكن به شيء رحمه الله فدعا لما وصل إلى هذه المرحلة مما ينبئك أنّّ انحصار البول ألمه شديد ويمنع تماما التصور.
ثم - قال رحمه الله (أو في شدة جوع)
إذا كان القاضي جائع فإنه لا يجوز أن يحكم لكن يشترط أن يكون في شدة جوع ، أما الجوع الطبيعي الذي لا يمنعه من التصور ولا يشتت ذهنه فله أن يحكم وهو جائع والحكم وهو جائع لا ينبغي لكن إذا كان في شدة جوع صار محرما وأمره واضح وإذا جاع يأكل قبل أن يحكم والأمر سهل. بخلاف الغضب لأنّه لا نستطيع أن نقول لأنّ بعض الناس لا يتمكن من تهدئة غضبه أليس كذلك؟ ربما يجلس ساعة غضبان ويجلس ساعة ونصف غضبان ولا يستمع لأي كلام لكن الجائع نقول كُلْ وتنتهي المشكلة.
ثم - قال رحمه الله (أو عطش)
مقصود المؤلف في كل القادم يعني في شدة عطش ، شدة همّ ، شدة ملل ، ولا يقصد أنه مجرد العطش اليسير والملل اليسير والهم اليسير فقوله العطش إذا كان عطشان فإنه لاشك أنه لن يتصور كلام الخصوم فيجب أن ينهي هذا العطش والظمأ بأن يشرب.
(أو همّ) إذا حمل هما بأي سبب من الأسباب بسبب دنيوي أو بسبب أخروي يعني بعض الناس يشيل هم لأنه لا يجد من ينفق على أولاده أو لا يجد من ينفق على نفسه وبعض الناس يشيل هم أو يحمل الهم لكثرة ذنوبه وعدم قيامه بحقوق الله على الوجه الكامل فسواء كان حمل الهم بسبب الأول الدنيوي ، أو الأخروي فإنه يحرم عليه أن يحكم بهذا الشرط أن يكون شدة هم.
ثم - قال رحمه الله (أو ملل أو كسل)
إذا كان في شدة ملل وشدة كسل ، فإنه أيضا لا يجوز له أن يحكم لأنّ الملل والكسل ينعكس على نشاط الذهن مما يمنع صاحبه أيضا من تصور القضية وعدم الاستعجال وغالبا من عمل أي عمل مع ملل أو كسل فإنّ طبيعة العمل تكون باستعجال وعدم إتقان لأنه يريد أن ينتهي منها بأي طريقة لأنه ملّ في القضاء لا يجوز هذا لأنه لا يتعلق العمل بك شخصيا وإنما يتعلق بالخصوم.
ثم - قال رحمه الله (أو نعاس)
إذا كان في شدة نعاس فإنه لا يحكم لأنه لن يتصور ما يقول فيذهب ويستريح ثم يستأنف بعد ذلك الحكم.
ثم - قال رحمه الله (أو برد مؤلم أو حر مزعج)
هنا لا نقول أو شدة برد مؤلم أو شدة حر مزعج لا فقط مجرد البرد المؤلم والحر المزعج ، إذا كان البرد مؤلما والحر مزعجا فإنه لا يحكم لأنه انشغل بالبرودة وانشغل بالحرارة بما لا يتمكن معه من الحكم على الوجه المطلوب ، هذه المسائل الست مقيسة على الغضب وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الغضب لأنه الأكثر وقوعا والأكثر ضررا في مجريات القضية فنص عليه وأخذ الفقهاء منه ما عداه
قال رحمه الله (وإن خالف فأصاب الحق نفذ)
وإن خالف ما سبق من تحريم الحكم حال الغضب والجوع والألم والهم إلى آخره. فإنّ حكمه ينفذ بشرط أن يصيب. والدليل على هذا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم بين الأنصاري والزبير بن العوام رضي الله عنهم قال الراوي فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال اسقي يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر ثم دعه فالنبي صلى الله عليه وسلم غضب قطعا لأنّ الصحابي نقل أنه غضب
ولأنّ الأنصاري استثاره بقوله أن كان ابن عمتك يا رسول الله فدل هذا على أنّ القضاء حال الغضب ينفذ والجواب على هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أنّ القاضي إذا غضب بعد أن بان له وجه القضية فإنه يجوز أن يحكم. لأنّ هذا الغضب لا يؤثر في القضية فإنّ القضية اتضحت له وهذا ما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب الثاني: أنّ هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه إذا حكم فإنه لا يقر على الخطأ ولو كان حكم وهو غضبان صلى الله عليه وسلم والجواب الصحيح الأول.
الدليل الثاني: أنه وإن حكم مخالفا للسنة إلاّ أنه أصاب الحق فدل هذا على نفوذه إذ ليس المقصود من الحكومة والقضاء إلاّ إصابة الحق. والقول الثاني: أنه لا ينفذ لأنه حكم في حال منهي فيها عن الحكم والنهي يقتضي الفساد. والقول بأنّ القاضي يجب عليه أن يعيد الحكم إذا حكم وهو غضبان هو الصحيح وعلمنا الجواب عن أثر أو حديث الزبير أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم بعد أن تبيّنت له القضية ولهذا نقول إذا غضب القاضي من حين بدأت القضية واستثير من قبل أحد الخصوم وغضب فإنه يجب عليه وجوبا أن يؤجل إصدار الحكم إلى مجلس آخر بعد أن يعيد النظر في القضية والأدلة ، وإذا استثير من قبل أحد الخصوم بعد أن تمكن من القضية وفهمها في آخر المجلس فإنه لا حرج عليه أن يحكم والحالة هذه.
ثم - قال رحمه الله (ويحرم قبوله رشوة)
يحرم على القاضي أن يقبل الرشوة لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي. هذا من وجه من وجه آخر أنّ الرشوة تتناقض تماما مع مقصود الشارع من القضاء فإنّ القصد من الرشوة إحقاق الباطل وإبطال الحق بينما القاضي إنما نصب ليحق الحق ويبطل الباطل وتحريم الرشوة محل إجماع والرشوة هي كل ما يدفعه الإنسان لإعاقة الحق أو لتمرير الباطل سواء في مجلس القضاء أو في غيره.
ثم - قال رحمه الله (وكذا هدية)
يعني كما أنه يحرم عليه قبول الرشوة يحرم عليه قبول الهدية والفرق بينهما أنّ الرشوة تعطى في سياق القضية والهدية تعطى خارج سياق القضية بأنها هدية منفصلة بينما الرشوة مرتبطة بالقضية الهدية محرمة لثلاثة أدلة:
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم هدايا العمال غلول. الثاني: أنّ الهدية كما قال شيخ الإسلام نوع من الرشوة فكل حديث دل على تحريم الرشوة دال على تحريم الهدية.
الثالث: حديث ابن اللتبية الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ساعيا فلما جاء هذا لكم وهذا أهدوه لي فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب وقال أفلا جلس في بيت أمه وأبيه فلينظر أيهدى له أو لا.
ثم لما بيّن الشيخ المؤلف تحريم الرشوة والهدية انتقل إلى مواضع جواز الهدية قبل هذا ذكر شيخ الإسلام ضابطا جميلا جدا لهدايا العمال من القضاة والموظفين فقال هدايا العمال هي كل ما لو نزع عن منصبه لم يهدى إليه. ضابط جميل جدا فإذا كان سبب الهدية من بعيد أو قريب المنصب فهي من هدايا العمال ولهذا إذا كان شخص لا يهديك مطلقا فلما عيّنت في مكان أهداك فقطعا سبب الهدية أنك عينت في هذا المكان كذلك الهدايا التي تجري بين الطلاب والمدرسين في المدارس النظامية باعتبار أنّ المدرس في المدارس النظامية موظف
هذه الهدايا سببها أنه مدرس لولا أنه يدرس لم يعطى أما الهدايا التي تكون بين المدرسين والمدير والمدرسات والمديرة فتختلف إن كان لم يهدوها إلاّ لأنها مديرة أو لم يهدوه إلاّ لأنه مدير أو بعد أن أصبح مديرا فلا شك أنها من هدايا العمال وإذا كانت الهدية تجري بينهم عادة ثم وجدت مناسبة لو وجدت وهذا المدير مدرس لأعطوه لم تصبح من هدايا العمال من أبرز الأمثلة أنه جرى العرف بين المدرسات أنه كل من أتى بمولود يعطى هدية فهم يعطون هذه وهذه سواء كانت مديرة أو مدرسة أليس كذلك؟ فهذا ما يظهر لي أنا أنّ إهداء المديرة إذا أتت بولد من هدايا العمال لأنه موجود سواء كانت مديرة أو ليست بمديرة إنما المحرم أنه إذا صارت مديرة بالغوا في الهدية فلا شك أنّ هذا سحت وأنه من هدايا العمال أما إذا أهدوها كما يهدون غيرها وهو أمر جار بينهم وعرف جروا عليه من قديم فليس من هدايا العمال.
ثم - قال رحمه الله (إلاّ ممن كان يهاديه قبل ولايته)
إذا كان يهاديه قبل الولاية فهذا دليل وقرينة على أنّ الهدية ليست بسبب الولاية وإذا كانت الهدية ليست بسبب الولاية فلا حرج لأنّ الأصل أنّ التهادي بين المسلمين مستحب.
ثم - قال رحمه الله (إذا لم تكن له حكومة)
يعني أنه يشترط لجواز الهدية أمران: الأول: أن يكون هذا جرى بينهما قبل الولاية. الثاني: أن لا تكون بينهما حكومة. الثالث: أن لا يعلم أنها ستكون بينهما حكومة. فإذا تحققت الشروط جازت الهدية بعد هذا نقول إذا فهم الإنسان المأخذ الشرعي عرف الحكم مباشرة فالمأخذ الشرعي أنّ كل هدية بسبب المنصب فهي من هدايا العمال هذا هو الضابط وما ذكره الفقهاء إنما هو تقريب ولهذا من الخطأ البيّن أن يأخذ طالب العلم القواعد ثم يطبقها بجفاف وعدم فهم لها. مثال يوضح المقصود.
رجل مازال بينه وبين أخيه تهادي بينهما تهادي كتب وطيب وأشياء كثيرة ، لما عيّن أحدهما أتى له بخمسين رأس شاة هل بينهما تهادي من قبل؟ هل يشك الإنسان أنه هذا بسبب المنصب؟ لو أخذنا القاعدة بلفظها لقلنا يجوز لكن لما تفهم المقصود تعرف أنّ هذه الهدية محرمة عرفت كيف! وأنا بالغت في الهدية حتى يتضح الحكم وإلاّ قد لا يقع هذا.
ثم - قال رحمه الله (ويستحب أن لا يحكم إلاّ بحضرة الشهود)
يستحب للقاضي أن لا يشرع في الحكم ولا يبدأ بالنظر في القضية إلاّ بحضرة الشهود لأنهم سبب القضية ولكي يشهدوا على الحكم فيما لو قيل وليشهدوا على الإقرار لو حصل في مجلس القضاء وقوله يستحب يدل على أنه لا يجب فلو أراد أن ينظر في القضية ويناقش ويبدأ ثم يأتي الشهود في مجلس آخر ثم يحكم في مجلس ثالث لا يوجد فيه شهود فهذا جائز ولا حرج فيه.
قال رحمه الله (لا ينفذ حكمه لنفسه)
وهذا معلوم لأمرين: الأول: أنّ شهادة الإنسان لنفسه لا تصح فمن باب أولى أن نمنع أن يحكم لنفسه.
الثاني: أنه تقع التهمة بهذا بدرجة كبيرة. الثالث: وهو الأول في الحقيقة أنّ عمر بن الخطاب لما أراد أن يحاكم أبيّا تحاكموا إلى زيد فلم يحاكمه إلى نفسه فلا شك أنه لا يجوز للإنسان أن يجعل نفسه حكما في قضية هو أحد الأطراف فيها.
قال رحمه الله (ولا لمن لا تقبل شهادته له)
لا يجوز أن يكون حكم وأحد الخصمين ممن لا تقبل شهادته له كأبيه أو أبنه وسيعقد المؤلف فصلا خاصا فيمن لا تقبل شهادته له فلا يجوز للإنسان أن يحكم لكل شخص لا تقبل شهادته له وعللوا هذا بأنه في حكمه تهمة ومظنة الحيف والميلان وقياسا على الشهادة.
والقول الثاني: أنّ له أن يحكم بين أي خصمين من الأقارب الأدنين أو الأبعدين أو من الأجانب واستدل هؤلاء بأمرين:
الأول: العمومات. فإنها لم تفرق بين القريب والبعيد. الثاني: قياس القريب على الأجنبي وهو قياس غريب في الحقيقة كيف تقيس قريب على الأجنبي ونحن ننازعك في حكم القريب أنه ليس كالأجنبي وأنت تقول القريب كالأجنبي لأنه كالأجنبي أليس كذلك؟ فبعيد هذا القياس.
القول الثالث: أنه لا يجوز أن يحكم لمن لا يجوز أن يشهد له إلاّ إذا حكم بينهما كأن يحكم بين أبويه وبين ولديه وهذا هو الراجح إن شاء الله لأنه حينئذ تتنتفي التهمة لأنّ طرفي الخصومة من أقاربه فلا تهمة في هذا.
ثم - قال رحمه الله (ومن ادعى على غير برزة لم تحضر)
البرزة هي المرأة التي تخرج بنفسها لقضاء حاجاتها وينبغي أن تعرف أنّ البرزة هي التي تخرج لقضاء حاجاتها وليست المرأة التي تخرج وإنما المرأة التي تخرج لقضاء حاجاتها فإذا كانت تقضي حاجاتها بنفسها فإنها برزة ، فإذا لم تكن برزة فإنه يشرع للقاضي أن لا يستدعيها إلى مجلس الحكم واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ في استدعائها ضرر بها لأنها لم تعتد الخروج فضلا عن حضور مجلس الحكم.
الثاني: أنّ فيه إذهابا لحشمتها وهتكا لتصونها.
والقول الثاني: أنه على القاضي أن لا يحكم بل يرسل إليها من يحكم لها في قضيتها واستدلوا على هذا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها.
القول الثالث: أنه يأتي بها إلى مجلس الحكم واستدلوا على هذا بأنّ هذا الخروج خروج يسير لا يضر فتأتي إلى مجلس الحكم ، والراجح المذهب بلا إشكال.
ثم - قال رحمه الله (وأمرت بالتوكيل)
يعني أنها لا تحضر وتؤمر بالتوكيل لأنّ القضية لا يمكن أن تتم وتستمر إلاّ إذا وكّلت ليستطيع القاضي المضي في الحكومة والحكم فيها.
سؤال / هو يقول إذا كانت برزة لا تحضر وتوكل؟ كل الناس يستطيعون أن يوكّلون! ما هو الجديد؟ ما هو الفرق الآن هي لا تحضر وتوكل؟ كل إنسان يستطيع أن لا يحضر ويوكّل؟ فما هو الجديد؟ الجديد أنه في غير البرزة لا يشرع أن يأتي بها إلى مجلس الحكم لا ينبغي بخلاف سائر الناس فإنه إن شاء وكلّ هو.