الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولو قيل بقول ثالث أنه ليس للعبد إلاّ أن يقتص أو يعفو على مال إلاّ إذا كان العفو على مال يدخل الضرر على السيد فحينئذ ليس له أن يأخذ حقه. صورة هذه المسألة أن يكون العبد باهظ الثمن جدا ثم يقذف فإذا قذف إذا عفا العبد على مال ربما تتطرق إليه الشك وهذا الشك ينقص من قيمته كثيرا وربما كان النقص من قيمته أكثر بكثير من الدية التي عفا عنها وحينئذ دخل ضرر عظيم على السيد فمن مصلحة السيد أن يقتص وأن يأخذ حقه وأن نجلد القاذف ليتبيّن للناس أنه كاذب فتبقى قيمة العبد كما هي وهذا القول يتوافق مع اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية من حيث حفظ حق السيد.
قال رحمه الله (فإن مات فلسيده)
أي إذا مات العبد فإن الحق ينتقل إلى سيده والسبب في هذا أنّ حقوق العبد تنتقل بموته إلى السيد المادية والمعنوية كحق القذف ينتقل إلى سيده فله أن يأخذ حقه أو يعفو مجانا أو إلى عوض.
باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس
قوله باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس المؤلف يريد بهذا التبويب أن يبّن أنّ القصاص كما يكون في الجناية على النفس يكون كذلك في الجناية على مادون النفس القصاص فيهما يكون على ما في النفس وما دون النفس وهذا مراده والتفصيل القادم كله يدور حول هذا المعنى.
قال رحمه الله (من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح ومن لا فلا)
القاعدة [أنه من لا يجري بينهما قصاص في النفس لا يجري بينهما قصاص فيما دون النفس] فإذا قطع مسلم يد كافر فإناّ لا نقطع يد المسلم لأنه لا قصاص بينهما في النفس فلا قصاص بينهما فيما دون النفس فهذا الكلام من المؤلف يقرر هذه القاعدة.
قال رحمه الله (ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس)
يريد المؤلف الإشارة إلى أنّ التفصيل السابق معنا في العمد والخطأ وشبه العمد كذلك يأتي فيما دون النفس فمثلا الاعتداء على ما دون النفس خطأ لا يوجب القصاص كما أنه لا يوجبه في النفس ويأتي معنا الخلاف بين الجمهور والمالكية في إثبات شبه العمد أو نفيه فما قيل من التقسيم هناك نفسه هنا إلاّ أنه هناك في النفس وهنا فيما دون النفس.
الدرس: (3) من الجنايات
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كنا في الدرس السابق تحدثنا عن أول باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس ثم توقفنا على انواعه
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:" وهو نوعان"
أي أن القصاص فيما دون النفس ينقسم إلى قسمين: الأول: الأطراف والثاني: الجروح وسيخصص المؤلف كل واحد من النوعين بكلام يتعلق به ، كما أنه توجد أشياء مشتركة كما سيأتينا أثناء الشرح
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:" أحدهما في الطرف"
يعني أنه يجب القصاص في الطرف ولهذا قال فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن وهذه الأربعة معروفة
ثم قال والجفن، والجفن هو غطاء العين،
ثم قال والشفة ويقصد المؤلف بالشفة العليا والسفلى ثم قال واليد يعني سواء كان من الكتف أو من المرفق
ثم قال الرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والألية وهذه معروفة
ثم قال: والشفر ، والشفر هو أحد اللحمين المحيطين بفرج المرأة ، ثم ذكر الحكم فقال:
كل واحد من ذلك بمثله يعني العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن إلى آخره فأفادنا المؤلف انه يجب القصاص في الأطراف والدليل على هذا من وجهين الأول: قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة/45]، الوجه الثاني: ما صح أن عمة أنس بن النظر رضي الله عنهما وأرضاهما كسرت ثنية جارية في المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأنس كتاب الله القصاص ، فدل الكتاب والسنة والإجماع على انه يجب القصاص بالأطراف بشرطه الذي سيأتينا فإذاً يجب أن يقتص بالأطراف بهذه الأدلة الصحيحة الثابتة وقد ذكر المؤلف أمثلة ما يقتص بالأطراف وهو ما تقدم من قوله العين بالعين والأنف بالأنف إلى آخره ، فإذاً عرفنا الآن وجوب القصاص في الأطراف والدليل عليه من الكتاب والسنة والإجماع. ثم انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إلى الشروط.
يقول رحمه الله وللقصاص في الطرف شروط
الواقع أن هذه الشروط ليست خاصة بالطرف بل تشمل الجروح فهي شروط في الطرف وفي الجرح، وهذه الشروط هي شروط جواز الاستيفاء أما شروط الوجوب فهي الأربعة التي تقدمت معنا في الدرس السابق، فإذا تبين معنا أن للقصاص شروط وجوب وشروط جواز ، وهو الآن سيشرع في شروط الجواز.
الشرط الأول: الأمن من الحيف ، والدليل على هذا الشرط أن القصاص مع عدم الأمن من الحيف فيه ظلم وجور ، والظلم والجور لا يجوز ، إذا يشترط الأمن من الحيف لجواز القصاص ، ثم سيذكر المؤلف الفروع المترتبة على هذا الشرط.
القصاص لا يكون إلا إذا كانت الجناية بقطع من المفصل فإن كان القطع من وسط الساق مثلاً أو من وسط الساعد مثلاً فإنه لا قصاص لأنه ليس من المفصل ، وتعليل هذا أن ما ليس من المفصل لا يمكن أمن الحيف فيه ، إذ التقدير أصبح صعباً لا يمكن أن نعرف الحد الذي يؤخذ ليستوي القصاص مع أصل الجنية ، وسيضيف المؤلف موضع آخر يجوز الاقتصاص منه.
إذا يجوز القصاص في صورتين فقط ، إذا كانت الجناية من مفصل أو في شيء له حد ، ومثل بما له حد بالأنف ، فإن الأنف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: وهو أوله العظم الجامد في أوله ثم ينتهي بمارن وهو ما فيه المنخرين، فإذا كانت الجناية من حد المارن جاز الاقتصاص ، وإذا كانت الجناية في العظم الذي قبل المارن فإنه لا قصاص، لأن المارن له حد وأما وسط العظم قبل المارن فليس له حد فهو يشبه قطع وسط الساق أو وسط الساعد ،إلى هذا ذهب الجمهور وهو أنه مالا يمكن القصاص فيه مع أمن الحيف فإنه لا يجوز أن تقتص ، وتقدم دليلهم.
القول الثاني: أنه يقتص ولو في غير ماله حد ولو في غير المفصل ، وطريقة القصاص أن نأتي بطبيب من أهل البصيرة أو المعرفة ويجتهد ما أمكنه في عدم الحيف والزيادة، وتتم عملية القصاص ولو من غير مفصل أو عظم له حد، وهذا القول الثاني هو الصحيح أن شاء الله ، وهو مذهب المالكية ، واختيار ابن المنذر لأن النصوص عامة وبالإمكان التحرز من الحيف بالاستعانة بمن له بصيرة من أهل الخبرة من الأطباء ، هذا التقرير كله يتعلق بالوقت السابق الذي لم يتطور فيه الطب ، أما اليوم فبالإمكان أن يقتص الطبيب من الجناية اقتصاصاً لا زيادة فيه ولا نقص عن الجناية ، لأنه أمكن معرفة قدر الجناية بالآلات الحديثة وإيقاع نظيرها على الجاني بلا زيادة ، فلا شك اليوم أنه يمكن أن يقوم ولي الأمر بالاقتصاص من غير حيف ولا زيادة.
مسألة/ المماثلة تكون بالمساحة لا بالقدر ، بمعنى لو قطع الجاني من المجني عليه مثلاً سته صانتي من قدمه ، فإن المماثلة تكون بأن ننظر هذه السته صانتي ماذا تمثل من قدم المجني عليه فإن كانت تمثل النصف قطعنا نصف قدم الجاني ، وإن كانت تشكل الربع قطعنا ربع قدم الجاني، إذا تعرف بالنسبة لا بالمقدار فننظر إلى نسبة ما جمناه الجاني ونفعل فيه كما فعل.
الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع ، يشترط لجواز الاقتصاص أن يستوي العضو المجني عليه مع عضو الجاني في الاسم والمكان ، واستدل الحنابلة على هذا بأن الأعضاء إذا اختلفت أماكنها اختلفت منافعها فلم تتحقق المساوات ، واستدلوا بدليل ثاني وهو أنه لا يجوز أن تقتص من العين بالأنف ولا بالأنف من الأذن فكذلك إذا اختلف الاسم والمكان ، وسيذكر المؤلف ما المقصود بالاسم والمكان ، عرفنا الآن حقيقة الشرط الثاني، ثم ذكر الأمثلة.
لا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين ، هناك قاعدة تريح طالب العلم (كل ما كان في الجسم منه يمين ويسار أو كان فيه أعلى وأسفل فإنه لا يؤخذ أحدهما بالآخر) ، فإذا قطع يده اليمنى فلا نقطع يده اليسرى ، يعني إذا جنا جناية على يده اليمنى ، فإنا لا نقتص من الجاني بأخذ يده اليسرى ، لماذا؟ لاختلاف المكان والاسم ، فإن هذه اسمها اليد اليمنى ، وهي في اليمين وهذه اسمها اليد اليسرى وهي في اليسار ، تقدم معنا دليلهم أن المنافع تختلف باختلاف الاسم والمكان ،وهذا صحيح.
ثم - قال رحمه الله ولا خنصر ببنصر
الخنصر والبنصر كلاهما يمين وكلاهما في يد واحدة لكن لا يجوز أن نأخذ أحدهما بالآخر لاختلاف المنفعة وأيضاً لاختلاف المكان بالنظر إلى اليد.
لا يجوز أن نأخذ أصلي بزائد ولا العكس بأن نأخذ زائد بأصلي لعدم المساواة ، فإن الأصلي أنفس وأعلى درجة من الزائد ، ولا نأخذ الأعلى بالأدنى كما أنا لا نؤخذ الأدنى بالأعلى.
ولو تراضيا ، دليل هذا أن الدماء لا تستباح بالإباحة.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى (ولو تراضيا لم يجز) هذا يرجع إلى المسائل السابقة كلها وليس خاص بالأصل في الزائد وإنما يشمل المسائل السابقة كلها ، فإذا حصل التراضي فإن هذا التراضي لا أثر له في باب القصاص ويجب أن يستوي.
الشرط الثالث: استوائهما في الصحة والكمال ، وهذا الشرط يرجع إلى الاستواء في الصفة ، ودليلهم أن قاعدة القصاص تعتمد المساواة والمماثلة ، وكما تكون المساواة والمماثلة في الاسم والموضع كذلك في الصفة ، فالأدلة الدالة على الشرط السابق تدل على هذا الشرط الذي اعتبره المؤلف الشرط الثالث، ثم أيضاً بدأ بذكر الأمثلة.
لا تؤخذ صحيحة بشلاء ،فإذا كان الجاني له يد يمنى صحيحة وجنا على يد يمنى لشخص آخر شلاء فإنه لا يجوز أن نقتص منه لأن يد الجاني هنا أعلى مرتبة من يد المجني عليه فلا يجوز أن نقتص هنا ، لماذا؟ لما تقدم من أنه يشترط المساواة ، والدليل الثاني أنه لو أخذنا يد الجاني الصحيحة بالشلاء لكنا أخذنا حق الجني عليه وزيادة ، والزيادة هي في الصفة ،تقدم معنا أن هذا ظلم وجور ، ولشارع لا يقر الظلم والجور ول في باب القصاص ، وما قيل في الصحيحة بشلاء كذلك ينطبق على كاملة الأصابع بناقصة ،فإذا جنا من له خمسة أصابع على من له أقل من ذلك فإنه لا قصاص ، وكذلك ولا عين صحيحة بعين قائمة ، والعين القائمة هي العين التي موجودة على حالها إلا أنه لا يبصر بها.
والقول الثاني وهو مذهب داود الظاهري أنه تؤخذ الصحيحة بالشلاء وكاملة الأصابع بناقصتها واستدل على هذا بأن الله تعالى قال: (العين بالعين) ، (والسن بالسن) ، ولم بفرق بين عين وأخرى وسن وأخرى ، وهذا قول ضعيف مخالف لمذهب جماهير الفقهاء ومخالف لقاعدة الشرع في العدل والبعد عن الظلم والجور ، فإن اليد الشلاء لا يمكن أبداً أن تستوي مع اليد الصحيحة وكيف نأخذ كاملة بمعيبة فنقول إن شاء الله الراجح مذهب الجمهور ، ومذهب داود فيه ضعف.
إذا قطع الأشل يد الصحيح، وهذا هو العكس ولهذا يقول ويؤخذ عكسه ولا أرش ، إذا قطع الأشل يد الصحيح فالمجني عليه مخير بين أمرين: الأمر الأول: أن يأخذ الدية وهذا جائز بالإجماع ، وله أن يفعل بالإجماع ، لأن القصاص على وجه الكمال متعذر فله أن يصير إلى الدية.
القسم الثاني: أن يختار القصاص ، فإذا اختار القصاص فعلى الذهب له ذلك لكن لا يعطى أرش النقص ، لأنها يد أخذت بيد باختيار المجني عليه ، والقول الثاني أنه إذا اختار القصاص فله الحق في الأرش ، لأنه باختياره القصا لم يؤخذ حقه كاملاً فقد أخذ معيبة بصحيحة ، فصار له الحق بأخذ الفرق ،وإذا كنا نقول أن قاعدة الباب المساواة والعدل فالراجح القول الثاني ولأنه إذا اخذ صحيحة بمعيبة فهو لم يأخذ حقه في الواقع ، يعني كاملاً في الواقع.
قوله فصل النوع الثالث في الجراح ، تقدم معنا في أول الدرس وفي آخر الدرس السابق الأدلة على وجوب القصاص في الجراح وأنه أمر تفق عليه إلا في مسائل معدودة اختلفوا في القصاص فيها بالنسبة للجراح ، لكن من حيث هو وجملة هو محل إجماع.
لا يجوز الاقتصاص في الجروح إلا في الجروح التي تنتهي إلى عظم ، فإن كان الجرح لا ينتهي إلى عظم فلا يجوز القصاص فيه ، ستدل الحنابلة على هذا أن الجرح الذي لم ينتهي إلى عظم لا يمكن القصاص فيه بلا حيف ، وإذا لم يمكن القصاص فيه بلا حيف لم يجز القصاص لأن الظلم محرم.
والقول الثاني أنه يجوز القصاص في الجروح وإن لم تنتهي إلى عظم وطريقة ذلك أن ننظر إلى مقدار الجرح في الطول والعرض والعمق ثم نحدث في الجاني نظيره ، والخلاف في هذه المسألة قريب من الخلاف في مسألة القصاص في الأطراف والراجح إن شاء الله هو هذا ، أنه يقتص في الجروح ولو لم تكن إلى العظم ولو لم تنتهي إلى عظم ، لكن المؤلف سيفرع في المسائل التالية بناء على هذه القاعدة.
ثم - قال رحمه الله (كالموضحة وجرح العضد والساق والفخذ والقدم)
هذه أمثلة لما يمكن قيها الاقتصاص وليست أمثلة لما لا يمكن فيه الاقتصاص.
فالمثال الأول هو الموضحة والموضحة هي: كل جرح ينتهي إلى العظم إذا كان في الرأس أو الوجه فالموضحة فيها القصاص.
والتعليل ظاهر: لأنها تنتهي إلى عظم. وفيها القصاص بالإجماع لأنها تنتهي إلى عظم.
وجرح العضد والساق والفخذ والقدم لأن هذه الأعضاء إذا جرح الإنسان فيها وصل الجرح إلى العظم لقرب العظم من الجلد ، إذا لا إشكال فيها أيضا أنها تعتبر فيها قصاص.
لماذا قال المؤلف جرح العضد والساق ونحن نقول إن الموضحة كل جرح يوصل إلى العظم.؟
إذا هذه تعتبر موضحات .. لأن الموضحة تختص بالرأس والوجه ولهذا أراد أن يبين حكم باقي الأعضاء ، وهو جميل جدا من المؤلف.
ثم - قال رحمه الله (فلا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح)
أي لا يقتص من كل جرح لا ينتهي إلى عظم. من أمثلتها الجائفة: الجرح الذي يصل إلى الجوف ، يعني ولا ينتهي إلى عظم. فهذا الجرح لا قصاص فيه لأنه لا ينتهي إلى عظم بناءا على هذا لا يمكن أمن الحيف فيه بناءا على هذا لا يجوز الاقتصاص فيه ، وهذا كما تقدم بناءا على ما اختار الحنابلة رحمهم الله وأخذنا القول الراجح وهو انه يمكن الاقتصاص في الجائفة وفي غيرها مما لا ينتهي إلى عظم. ثم أراد المؤلف إن يستثني.
ثم - قال رحمه الله (غير كسر سن)
يعني ففيه القصاص وهذا الاستثناء سببه أن السن عبارة عن عظم ، ونحن أخذنا أن كسر العظم ليس فيه قصاص إلا إذا كان من مفصل او من حد ينتهي إليه كمارن الأنف فالسن ليس من مفصل وليس من حد يصل إليه ومع ذلك فيه القصاص.
الدليل الأول: قال تعالى {والسن بالسن} [المائدة/45]
الدليل الثاني: حديث أنس ابن النضر السابق.
الدليل الثالث: الإجماع ، فإنهم أجمعوا أن السن فيه قصاص. لوضوح وظهور الأدلة من الكتاب والسنة.
قوله رحمه الله (غير كسر سن)
فهم من كلام المؤلف أن كسر العظام سوى السن ليس فيه قصاص. والتعليل: لا يمكن أمن الحيف فيه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله عبارة جميلة جدا (لا يمكن أن يكون كسر ككسر)
مقصوده: أنه لا يمكن أن يستوي كسران فإذا كسر الجاني رجل رجُل لا يمكن أن نكسره كسر يساوي الكسر الأول لأنه لا يمكن أن يكون كسر ككسر لاختلاف الموضع وعدم معرفة مكانه بدقة. تقدم معنا الخلاف في هذا لما تحدثنا عن الأطراف فالأطراف والعظام الخلاف فيها واحد ولهذا نقول الراجح أنه يمكن الاقتصاص في كسر العظام إما بالطريقة التي ذكرها الفقهاء وهي أن نأتي بمختص دقيق حاذق يحسب لنا مساحة الكسر فيكسر يد أو رجل الجاني ككسره من المجني عليه ، وإما على طريقة الأطباء المعاصرين وهذا ممكن بلا إشكال ، والحديث الدال جواز القصاص في السن دليل على جواز القصاص فيما سواه من العظام ، لأنه حتى في السن لا يمكن من الأمن من الحيف وإنما على المنفذ أن يتحرى الدقة قدر الإمكان ثم لا يكلف الله بعد ذلك نفسا إلا وسعها.
ثم - قال رحمه الله (إلا أن يكون أعظم من الموضحة)
معنى هذه العبارة: انه لا يجوز القصاص في الجروح إلا في جرح بلغ الموضحة وتعداه وهو أن يصل إلى العظم ويتعدى العظم ، فإذا وصل إلى العظم وتعداه فغنه يجوز القصاص الآن ،ولكن القصاص - كما سيذكر المؤلف - بالجرح الذي إلى العظم.
ثم - قال رحمه الله (كالهاشمة والمنقلة والمامومة)
الهاشمة: هي الجراح التي توح العظم وتكسره ، والمنقلة: هي التي توضح العظم وتكسره وتنقله من موضعه إلى موضع آخر.
والمأمومة: هي الجناية التي تصل إلى أم الدماغ ، والمقصود بأم الدماغ: جلدة فيها الدماغ او جلدة تحتوي على الدماغ.
عرفنا الآن من كلام المؤلف أن الجناية الزائدة على الموضحة فيها قصاص لكن القصاص يكون بقدر الموضحة فقط ويأخذ أرش الباقي.
والمقصود بالأرش هنا: الفرق بين دية الموضحة والجناية التي هي أكثر منها كالهاشمة مثلا ، فالفرق بين الديتين هو الأرش الواجب على الجاني ، فإذا جن ى رجل على رجل هاشمة فالحكم كالتالي: نقتص من الجاني بقدر الموضحة ثم نعطي المجني الفرق بين دية الجنايتين.
فدية الموضحة كما سيأتينا في كتاب الديات خمس من الإبل ودية الهاشمة عشر من الإبل ، الفرق بينهما خمس .. فله خمس من الإبل.
وهذا غاية في العدل في الحقيقة ، فقد أخذنا للمجني عليه كامل حقه.
مسألة: الجنايات فوق الموضحة لا يُقتص منها بالإجماع ، لأنه يخشى على الجاني في القصاص الهلاك. فالهاشمة والمنقلة والمامومة لا قصاص فيها.
ثم - قال رحمه الله (إذا قطع جماعة طرفا)
انتقل المؤلف إلى بيان حكم ما إذا اجتمع جماعة في جناية سواء كانت الجناية في طرف أو في جرح. فالحكم على كلام المؤلف أن القود يكون منهم جميعا. فإذا اشترك خمسة في قطع يد رجل قطعت أيديهم فأخذنا باليد الواحدة خمس أيادي.
التعليل: أن الجناية كانت بفعلهم جميعا ولهذا وجب القصاص عليهم جميعا.
الدليل الثاني: قاسوا القصاص في الأطراف على القصاص في النفس ، فإذا كانت النفس الواحدة يُقتص لأجلها من خمسة أنفس كذلك في القصاص.
القول الثاني: أنا لا نأخذ بالأيدي بيد واحدة. لأن قاعدة القصاص المساواة ولا مساواة .. ولأن الله - تعالى - يقول {والعين بالعين} [آل عمران/13]. فواحد بإزاء واحد. والراجح مذهب الجمهور وهو القول الأول لأن العدل هنا يقتضي أن نأخذ الأيدي باليد لأنهم اشتركوا في الجناية. ولأن القياس على النفس - من وجهة نظري - قياس جلي.
مسألة: يشترط عند الحنابلة لأخذ الأيدي باليد أن تكون جناية المجموعة غير متميزة وحصل القطع بمجموعها.
مثاله الذي يوضحه: لو استخدم الجناة فوضعوا السكين على يد المجني عليه ثم اتكئوا عليها جميعا حتى انفصلت اليد. الآن الجناية من مجموعة .. هل أفعالهم متميزة أو غير متميزة.؟ غير متميزة .. وهل وقعت بفعلهم جميعا أو بفعل بعضهم.؟ بفعلهم جميعا ..
إذا تحقق الشرط فيجب أن نقتص. علمنا من هذا أن الجناية من المجموعة لو اختلفت وتمايزت بأن قطع كل منهم من جانب ولم يتفقوا على جانب واحد فلا قصاص ، لأن الجناية لم تقع من مجموع الفعل ولأن أفعالهم متمايزة وربما كان بعضها أعمق وأكثر تأثيرا من بعض
ويستثنى من هذا الشرط ما إذا حصل تمالؤا وتواطؤ على هذا الفعل ليتجنبوا القصاص حينئذ يجب القصاص على مجموعهم.
ثم - قال رحمه الله (وسراية الجناية مضمونة)
سراية الجناية مضمونة ، التعليل: لأن السراية أثر الجناية وإذا كانت الجناية مضمونة فأثرها مضمون كذلك.
إذا السراية مضمونة سواء كانت السراية في العضو أو في النفس. مثاله: إذا قطع الجاني أصبع المجني عليه فإما أن تسري الجناية إلى اليد بأن يلزم من هذا قطع اليد أو أن تسري الجناية إلى النفس بان يستمر في النزف إلى أن يموت. والسراية مضمونة في النفس وما دون النفس. والتعليل: هو ما تقدم معنا إلا أنه يشترط لهذا شرط سيذكره المؤلف.
ثم - قال رحمه الله (سراية القواد مهدورة)
سراية القودة هدر لا فقيمة لها. والمقصود بالقود القصاص: فإذا تم القصاص على الجاني وأدى القصاص إلى سراية أودت بالعضو كاملا أو بالنفس فإنه تعتبر هذه السراية هدر لأن القصاص مأذون فيه شرعا والقاعدة المشهورة أن ما ترتب على المشروع غير مضمون فما دام العمل مشروع فما يترتب عليه فإنه لا ضمان فيه. ثم انتقل المؤلف للشرط الذي أشرت إليه سابقا.
ثم - قال رحمه الله (ولا يُقتص من عضو وجرح قبل برئه كما لا تطلب له الدية)
مذهب الحنابلة أنه لا يجوز ويحرم الاقتصاص من العضو وأخذ الدية عليه قبل برئه. أنه لا يجوز ويحرم أن نقتص قبل برئه.
واستدلوا على هذا أن رجلا جنا على ركبة صحابي فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أقدني من فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم (حتى تبرأ) ثم جاء أخرى وقال اقدني فاقتص له النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما برئ الجرح جاء المجني عليه أصبت بالعرج. فهذه سراية لأن الجرح أصبح يشكل عاهة مستديمة وهي العرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم (قد نهيتك أبعدك الله) ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاقتصاص قبل البرء. فاستدل الحنابلة بهذا الحديث على التحريم ورتبوا على هذا فرعا فقهيا آخر وهو أنه إذا أبى إلا الاقتصاص فإن السراية التي تكون بعد ذلك تكون هدر ولا يُقتص للمجني عليه منها لأنه ضيع حقه بنفسه.
والقول الثاني: أن الصبر إلى البرء مستحب يعني طلب الاقتصاص مكروه فقط وليس محرما.
والدليل: أنه أذن صلى الله عليه وسلم في الحديث واقتص منه.
والراجح انه يحرم لأمرين:
الأول: الاقتصاص قبل البرء دائما يفضل إلى النزاع فيما إذا قعت السراية.
الثاني: أنه في آخر الحديث قال ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاقتصاص قبل البرء.
بناءا على هذا لا يجوز لقاضي أن يقتص في الجناية قبل البرء بهذا انتهى هذا الفصل.
بهذا انتهى كتاب الجنايات ولله الحمد