الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: أنّ القاعدة التي اتفق عليها الفقهاء كلهم أنّه لكل قاعدة شواذ واستثناءات فالحجام والكناس مستثنى من هذا وهذا وجهة نظر الحنابلة أنه مستثنى والحقيقة القول بأنه ساقط المروءة قول من وجهة نظري ساقط والنبي صلى الله عليه وسلم كان في عهده الحلاق والحجام والكناس ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلاّ أنّ شهادة مثل هؤلاء غير مقبوله ثم في هذا إزراء بهؤلاء الناس وهم يؤدون خدمة جليلة للمسلمين فكيف نسقط مروءتهم بهذا الشكل ونتبع إسقاط المروءة إسقاط الشهادة.
يقول رحمه الله (ومتى زالت الموانع فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قبلت شهادتهم)
تاب الفاسق نؤخرها. هؤلاء إذا زالت الموانع قبلت الشهادة لأنّ القاعدة أنّ المقتضي إذا وجد بلا مانع فعلى ما أدى فعله أو أدى نتيجته فمادام المقتضي موجود والمانع زال فإنّ نعمل بهذا المقتضي وهذا أمر واضح ولعل الشيخ ذكره ليرتب عليه قضية وتاب الفاسق إذ تاب الفاسق فإنه تقبل شهادته وهذا لا إشكال فيه والتوبة تحصل بشروط: الأول: الإقلاع عن الذنب. الثاني: الندم على وقوع الذنب ، الثالث: العزم على عدم العود. الرابع: أداء الحقوق إذا كانت موجودة. وقبول توبة الفاسق لا إشكال فيها لكن اختلف الفقهاء هل يشترط لقبول توبة الفاسق أن يمضي وقت تعلم به توبته أو يقبل مباشرة فيه خلاف.
القول الأول: أنه يقبل مباشرة واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: أنّ التوبة يمحى معها الذنب مباشرة يعني التوبة الصحيحة.
الثاني: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
القول الثاني: أنه يشترط مضي مدة تعلم بها توبته واستدلوا على هذا بأنّ عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغا انتظر به سنة ثم كُلِم.
والراجح إن شاء الله أنّ هذا يختلف باختلاف التائب فإن كان مما ينبغي الانتظار به انتظر وإن كان ما يغلب على ظن الحاكم توبته قبل.
باب موانع الشهادة وعدد الشهود
لما بيّن الشروط انتقل إلى الموانع فقال رحمه الله (لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض)
لا تقبل شهادة عمودي النسب فلا يشهد الأب للابن ، والابن للأب لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قبول شهادة الظنين بالقرابة يعني المتهم بسبب القرابة فلا تقبل شهادة أحدهما للآخر للتهمة.
والقول الثاني: أنها تقبل شهادة الابن للأب دون العكس لأنّ الأب له أن يتملك من مال ابنه فهو متهم.
القول الثالث: أنها تقبل فيما لا يجر نفعا كعقود النكاح والطلاق ونحوها ولا تقبل فيما يجر نفعا كعقود الأموال.
والقول الرابع: أنها تقبل مطلقا لعموم الأدلة.
والقول الخامس: وهو الصحيح. أنّ مناط الرد والقبول هو التهمة فإذا اتهمنا هذا الأب وظننا به أنه لم يصدق لم نقبل منه وإذا ظننا أنه صادق قبلنا سواء شهد الأب للابن أو الابن للأب وإلى هذا ذهب الشيخ العلامة ابن القيم وهو الصواب لأنه لا يوجد في النصوص شيء صحيح يدل على منع شهادة الأب لإبنه أو العكس ولكن يوجد في النصوص ما يدل على منع الشهادة مع وجود التهمة.
ثم - قال رحمه الله (ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه)
لا يجوز أن يشهد أحد منهما لصاحبه لأنه جرت العادة بتوسع كل منهما بمال الآخر فهو متهم لذلك.
القول الثاني: تقبل شهادة الزوج لزوجته ولا تقبل شهادة الزوجة لزوجها لأنها إذا شهدت له فهي تجر نفعا لنفسها لأنه المنفق عليها.
القول الثالث: أنها تقبل الشهادة مطلقا لعدم وجود الدليل. والراجح في هذه المسألة هو الراجح في المسألة السابقة أنه متى وجدت تهمة ردت الشهادة من الزوج أو الزوجة أو الأب أو الابن وإلاّ فلا.
ثم - قال رحمه الله (وتقبل عليهم)
يعني تقبل شهادة هؤلاء بعضهم على بعض إنما ترد شهادة بعضهم لبعض أما شهادة بعضهم على بعض فتقبل لأنّ التهمة منتفية تماما.
قال رحمه الله (ولا من يجر على نفسه نفعا)
لا تقبل شهادة من يجر بهذه الشهادة لنفسه نفعا. مثال هذا من يشهد لشريكه فإنه إذا شهد لشريكه فما يأتي شريكه من المال فهو له فكأنه يشهد لنفسه ومن أمثلة هذا أن يشهد بمال لغريمه لأنّ هذا المال إذا جاء الغريم استفاد هو سداد الدين.
ثم - قال رحمه الله (أو يدفع عنها ضررا)
لا تقبل شهادته إذا شهد شهادة تدفع الضرر عن نفسه وهذه عكس المسألة الأولى كأن يشهد شهادة تدفع الضرر عن شريكه أو يشهد شهادة تدفع الضرر عن أخيه أو عن أبيه أو عن زوجته أو عن أمه. أو يشهد تدفع الضرر عن غريمه أو يشهد شهادة تدفع الدين أن يثبت على غريمه إذن الضابط [أن يشهد شهادة تدفع عنه ضررا]
ثم - قال رحمه الله (ولا عدو على عدوه كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه)
ذهب الأئمة الثلاثة والجماهير إلى أنّ شهادة العدو على عدوه غير مقبولة لأنه متهم والغالب عليه الحيف.
القول الثاني: لأبي حنيفة أنها تقبل وإن كان عدوا له قال أبو حنيفة لأنّا نفترض في الشاهد أن يكون عدلا والعدل لن يشهد إلاّ بالحق ولو على عدوه والراجح إن شاء الله مذهب الثلاثة لأنّ العدل قد يطرأ عليه ما يمنع من صدقه.
الدرس: (2) من الشهادات
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال رحمه الله (ولا عدو على عدوه كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه)
تقدمت معنا هذه المسألة وقلنا أنّ الجماهير على أنّ شهادة العدو على عدوه لا تقبل لأنه متهم بالحيف عليه وأنّ المقصود بالعداوة هنا العدواة الدنيوية وليست العداوة الدينية.
وأنّ القول الثاني: القبول وهو مذهب الأحناف فقط من أصحاب المذاهب الأربعة واستدلوا على هذا بأنّ العدل لا يمكن أن يحيف ولو مع وجود العداوة لأنّا نفترض فيه العدالة وأنّ الأقرب إن شاء الله أنها لا تقبل وفي ظني أنّ هذا تقدم. لما بيّن المؤلف رحمه الله أنّ شهادة الشخص على عدوه لا تقبل انتقل إلى بيان ضابط العدو
فقال رحمه الله (ومن سره مساءة شخص ، أو غمه فرحه فهو عدوه)
هذا الضابط يعرّفنا بالعدو من غير العدو فكل إنسان يفرح بمضرة شخص ويغتم بفرحه فهو عدو له ومقصودهم إذا كان يظهر هذا الفرح ويرتب عليه آثاره. أما ما يشعر به الإنسان أحيانا من الفرح أو الحزن فهو مرض إذا أصيب أخوه بشيء مفرح اغتم وإذا أصيب بشيء فيه إصابة فرح هذا مرض من أمراض القلوب ولا يعتبر مانع من الشهادة لأنه هذا من الحسد وغالبا لا يظهر على تصرف الإنسان لكن إذا كان يظهر هذا في المجالس وإذا أصيب هذا الشخص بحادث فرح واستبشر وأظهر السرور فهذا عدو بلا شك لأنه لم يفرح بما أصيب به أخوه إلاّ وهو عدوه.
فصل
هذا الفصل مخصص للكلام عن العدد المشترط بحسب كل قضية.
قال رحمه الله (ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلاّ أربعة)
لا يقبل في الشهادة المثبتة للزنا إلاّ شهادة أربعة من الرجال العدول الأحرار والدليل على هذا نص القرآن فإنّ الله قال {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور/13] قال الشيخ العلامة ابن سعدي رحمه الله قوله فأولئك عند الله ، ولم يقل فأولئك هم الكاذبون. لأنهم عند الله يعني في حكم الله والسبب أنهم كاذبون في حكم الله أنّ الشارع حرّم الكلام بالزنا عن المسلم إلاّ بعد استيفاء العدد فأي كلام قبل استيفاء العدد فهو كذب شرعا وإن وافق الواقع وهذا منه رحمه الله استنباط جيد وسبق لكن عبارته كانت محررة.
قال رحمه الله (ويكفي على من أتى بهيمة رجلان)
هذه المسألة ترجع إلى ضابط وهو أنّ كل ذنب لا يوجب حدا بل يوجب تعزيرا فإنه يكتفى فيه برجلين مثل المثال الذي ذكره المؤلف إتيان البهيمة ومثلوا له أيضا بوطء الجارية المشتركة فهذا الضابط في الحقيقة مريح وتدخل تحته المسائل المشابهة ولو كانت عبارة المؤلف عن ضابط لكان أتقن منه مثالا.
ثم - قال رحمه الله (ويقبل في بقية الحدود والقصاص)
يعني ويقبل في بقية الحدود والقصاص رجلان. لا يقبل في بقية الحدود عدا الزنا والقصاص إلاّ شهادة رجلين يعني ولا تقبل شهادة رجل وامرأة واستدلوا على هذا بأنّ الحدود مبنية على الدرء بالشبهات ومجرد شهادة المرأة تعتبر شبهة لأنّ المرأة معرضة للخطأ والنسيان كما قال تعالى {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة/282] فكأنّ الآية تشير إلى أنه من شأن المرأة النسيان والوهم والغلط ولأجل هذا صارت شهادة المرأة غير مقبولة في الحدود لوجود هذه الشبهة.
والقول الثاني: أنّ شهادة امرأتين مع رجل تكفي في الحدود والقصاص واستدل أصحاب هذا القول بالقياس على الأموال وقالوا أنّ ما يعرض للمرأة من وهم نسيان يجبر بالمرأة الأخرى والراجح إن شاء الله المذهب. لأنه فعلا مهما يكن الأمر لما اشترط الشارع في بعض المواضع أن يكون الشاهد من الرجال دل هذا على أنّ المرأة وإن شفعت بامرأة أخرى إلاّ أنها تبقى عرضة للخطأ والنسيان وتحكم العواطف على كل حال إن شاء الله هذا هو الراجح.
ثم - قال رحمه الله (وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال
…
الخ)
هذه الأشياء التي تتسم بأنها ليست عقوبة ولا مال ولا يقصد بها المال حكمها حكم الشهادة على الحدود والقصاص فالحنابلة يرون أنه أيضا لا يقبل فيها إلاّ رجلان ولا يقبل رجل وامرأة. الدليل ليس عندهم دليل إلاّ القياس على الحدود والقصاص بجامع أنه يطلع عليه
الرجال ولا يقصد به المال وهذا صحيح يجمع بين هذه الأمور والحدود والقصاص أنه يطلع عليه الرجال ولا يقصد بها المال.
القول الثاني: أنّ ما لا يقصد به المال ويطلع الرجال وليس بعقوبة يكتفى فيه برجل وامرأتان يعني تجوز الشهادة برجل وبامرأتين واستدل هؤلاء بالقياس على الأموال أيهما الراجح؟ القول الثاني لأنه يوجد فارق كبير بين الحدود والقصاص وبين هذه الأمور وهو أنها لا تدرأ بالشبهات ، في وجه آخر للترجيح وهو أنهم قاسوا هذه الأمور على الحدود والقصاص. والحدود والقصاص فيه خلاف فهذا يضعف القياس لأنك تقيس على أصل متفق عليه أقوى من أن تقيس على أصل مختلف فيه ولهذا لا إشكال إن شاء الله أنه في الطلاق والنكاح يجزئ شهادة رجل وامرأتين لأنه لا يقصد به مال لأنها أور لا يتطلب إسقاطها بالشبهات فهذا هو الراجح إن شاء الله ورجحانه بيّن.
يقول الشيخ في القسم الثالث. القسم الأول: الزنا ، القسم الثاني: الحدود والقصاص. القسم الثالث: ما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال. القسم الرابع: ما هو مال أو يقصد به المال. أما قول الشيخ ويقبل في المال. المال مثل القرض والرهن وسائر الديون هذه من الأموال.
وقوله رحمه الله (وما يقصد به كالبيع .. إلى آخره)
ما يقصد به المال كالبيع والإجارة ونحوها ممكن نضبط ما يقصد به المال بأنّ نقول هو جميع العقود المالية فالحقيقة ما يقصد به المال هي العقود لأنه لا يمكن تحصيل المال من خلال عمل إلاّ من خلال العقود التي يقصد بها المال.
يقول الشيخ رحمه الله (رجلان ورجل وامرأتان)
كونه يجزئ رجلان ورجل وامرأتان محل إجماع في الجملة لقوله تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة/282] وهذه الآية نص في الاكتفاء بالمال وما يقصد به المال بشهادة رجل وامرأتين أو بشهادة رجلين. وهذا كما قلت محل إجماع.
ثم - قال رحمه الله (أو رجل ويمين المدعي)
أيّ أنّ الحنابلة يكتفون برجل ويمين وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة والفقهاء السبعة والأئمة الثلاثة وليس بعد هؤلاء أحد واستدل هؤلاء بحديث أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد ويمين المدعي. واستدلوا بحديث ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد يمين المدعي وحديث ابن عباس بالذات صححه الإمام النسائي فلا إشكال إن شاء الله أنّ هذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كما ترى نص في المسألة.
القول الثاني: وهو للأحناف أنه ليس من البيّنات الشهادة مع يمين المدعي واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: أنّ الآية الكريمة حصرت البيّنات في رجلين أو رجل وامرأتين ولم تذكر الشاهد واليمين.
الدليل الثاني: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر. وفي اللفظ الثاني. واليمين على المدعى عليه فحصر اليمين على المدعى عليه فلا تكون في جانب المدعي والراجح إن شاء الله بلا إشكال مذهب الجماهير والأئمة ورجحان هذه المسألة مما يقرر القاعدة التي أشرنا إليها مرارا وهي أنّ اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين وهنا قوي جانب المدعي بوجود الشاهد فلما قوي صارت اليمين في جانبه وهذا إن شاء الله كما قلت هو الراجح.
قال رحمه الله (وما لا يطلع عليه الرجال. كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والإستهلال)
فكل ما لا يطلع عليه إلاّ النساء فإنه يقبل فيه امرأة واحدة عدل واستدل الحنابلة على هذا. أولا هذا محل إجماع في الجملة لم يخالف فيه أحد من الفقهاء. ثانيا الدليل الذي استدلوا به هو حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه تزوج بامرأة فأتت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنّ فلانة وهي أمة سوداء تزعم أنها أرضعتنا فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء بعد وقال يا رسول الله إنّ فلانة تزعم أنها أرضعتنا. وأردف هذه المرة قائلا ولا أظنها صادقة.
فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال كيف وقد زعمت. وهذا الحديث في البخاري ومسلم. واستدلوا أيضا بأنّ الحاجة ماسة للاكتفاء بشهادة المرأة العدل لأنه لا يطلع عليه غالبا إلاّ النساء وأحيانا لا يطلع عليه إلاّ امرأة واحدة وهذا صحيح لأنّ الحديث ظاهر بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالرضاع لأنه لا يطلع عليه غالبا إلاّ من النساء بل إلاّ من امرأة واحدة.
القول الثاني: مع أنه محكي الإجماع في الأول لكن القول الثاني أنه لا يجزئ إلاّ شهادة امرأتين قياسا على شهادة الرجلين وهو قول ضعيف لأمرين مخالفة الإجماع المحكي. ومخالفة النص الصريح الصحيح.
ثم - قال رحمه الله (والرجل فيه كالمرأة)
يعني وشهادة الرجل في هذه الأمور كشهادة المرأة لأنه إذا اكتفينا بالمرأة فالرجل من باب أولى فلو افترضنا أنّ الرجل شهد بما لا يطلع عليه إلاّ النساء لأنه اطلع فشهادته مقبولة مادام تحققت الشروط الأولى للعدالة والصدق مع الشروط الأخرى.
ثم - قال رحمه الله (ومن أتى برجل وامرأتين ، أو شاهد ويمين ، فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال)
إذا أتى بالبيّنة الشرعية ، ومعنى قول الشيخ رحمه الله ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين. في دعوى إثبات قود يعني قصاص فإنه لا يقبل لأنّ القود تقدم معنا أنه يشترط له أن لا يثبت إلاّ بشهادة رجلين ولا يثبت أيضا به المال وجه ذلك أنّ الشهادة تثبت القصاص والمال فرع عن القصاص فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع. وهذا صحيح باعتبار أنّ المال إنما يكون بدل عن القصاص فإذا لم يثبت القصاص لم يثبت بدله.
يقول الشيخ رحمه الله (ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال)
إذا ما يثبت به شيء فرجل أتى بشاهد عدل قوي الذاكرة ومعه امرأتين كذلك عدول ضابطات يشهدن بقود أو جراح لا يثبت به في الشرع شيء أبدا وإنما يتمكن الحاكم فقط من التعزير لأنه مرّ معنا مرارا أنّ البيّنة إذا كانت ناقصة فهي توجب التعزير دون الحد.
ثم - قال رحمه الله (وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع)
إذا أتى بذلك يعني برجل وامرأتين أو بشاهد ويمين لكن في مسألة سرقة فإنه يثبت المال دون القطع وجه ذلك أنّ الشهادة على السرقة تثبت القطع وتوجب ضمان المال فإذا قصرت عن القطع لم تقصر عن ضمان المال بخلاف القود فإنه لا يثبت إلاّ شيء واحد. الشهادة لا تثبت إلاّ شيء واحد وهو القصاص وله بدل. أما هنا فمجرد الشهادة تثبت القصاص والضمان في آن واحد فإذا قصرت عن القصاص وإقامة حد القطع فإنها لا تقصر عن الضمان وهذا واضح وهو صحيح.
قال رحمه الله (وإن أتى بذلك رجل في خلع ثبت له العوض)
والإشارة كما مرّ علينا لشهادة رجل وامرأتين أو شاهد ويمين في خلع ثبت له العوض. إذا أتى بهذا في خلع ثبت له العوض لأنه أصبح يطالب بحق مالي وتقدم معنا في كلام المؤلف أنّ الحقوق المالية يكتفى فيها بشهادة رجل وامرأتين إجماعا أو بشهادة رجل واحد ويمين عند الجمهور ولهذا ثبت به الحق المالي وهو الخلع.
قال رحمه الله (وتثبت البينونة بمجرد دعواه)
يعني وليس بالشهادة لماذا؟ لأنه تقدم معنا أنّ الخلع من الأشياء التي يشترط فيها شهادة رجلين فإذا اشترطنا شهادة رجلين فإنه إذا أتى برجل وامرأتين أو برجل ويمين فإنه لا تثبت أحكام الخلع والنكاح وما تعلق به وإنما تثبت الحقوق المالية لكن لماذا يقول الشيخ وتثبت البينونة بمجرد دعواه؟ يقصد بهذا أنّ البينونة تثبت بإقراره لا بهذه الشهادة لأنه إذا طالب بعوض الخلع فقد أقرّ بوقوع الخلع. إذا نحن نثبت البينونة لا بالشهادة ولكن بإقراره وهذا قد يقع فيه بعض الناس اللي يظنون أنه يستطيع أن يطالب بعوض الخلع بدون إثبات الخلع وهو الواقع أنه بمجرد ما يطالب بعوض الخلع سيثبت الخلع مباشرة لأنه أقرّ بوقوعه.
مسألة قبل أن نتجاوز هذا وإن ادعت المرأة هي الخلع وأتت برجل وامرأتين أو برجل ويمين فهل يثبت شيء؟ لا يثبت لماذا؟ لأنها لا تطالب بحق مالي وإنما تطالب بالخلع والخلع لا يثبت عند الحنابلة إلاّ بشهادة رجلين تقدم معنا أنّ الراجح أنّ المرأة وهي اليوم لمثل هذا كثير لو أتت برجل وامرأتين فإنه يكتفى بذلك.
فصل
قال رحمه الله فصل هذا الفصل في بيان أحكام الشهادة على الشهادة ، والشهادة على الشهادة مشروعة بالإجماع لم يخالف في هذا أحد من الفقهاء ودل على مشروعيتها أنّ الحاجة داعية إليها لأنّ شاهد الأصل قد لا يتمكن من أداء شهادته فنكون بحاجة إلى شاهد الفرع ولهذا دل النص والاعتبار على مشروعيتها ومازال الناس يحتاجون إلى شاهد الفرع مع شاهد الأصل.
يقول رحمه الله (لا تقبل الشهادة على الشهادة إلاّ في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي)
كتاب القاضي إلى القاضي يقبل في الأموال وما تقصد به الأموال دون الحدود كما تقدم معنا ، وتقدم الخلاف وأنه قلنا أنّ الراجح أنّ كتاب القاضي إلى القاضي مقبول مطلقا فكذلك الشهادة على الشهادة مقيسة عليها وهي مقبولة مطلقا بل ربما نقول إنّ الشهادة على الشهادة أوثق نوعا ما من الكتابة لأنّ الشهادة يشهد بها مكلف عاقل يستحضر بينما الكتابة قد يعتريها ما يعتري الكتابات من الخطأ والسهو والنسيان وعلى كل حال هي مقيسة عليها فهي مقبولة في كل شيء.
قال رحمه الله (ولا يحكم بها إلاّ أن تتعذر شهادة الأصل)
يشترط لقبول الشهادة على الشهادة أن تتعذر شهادة الأصل فإن لم تتعذر شهادة الأصل فشهادة الفرع باطلة واستدلوا على هذا بأنّ شهادة الفرع يعتريها احتمالان: احتمال الخطأ من شاهد الأصل ، واحتمال الخطأ من شاهد الفرع وإذا اعتراها احتمالان صارت لا تقبل إلاّ عند الحاجة.
والقول الثاني: أنّ الشهادة عل الشهادة مقبولة مطلقا تعذر أو لم يتعذر واستدلوا على هذا بالقياس على حال التعذر قالوا فإذا كنتم تقبلون حال التعذر فاقبلوها بلا تعذر وعلقنا مرارا على الاستدلال بمثل هذا أنه استدلال بمحل النزاع وأنه استدلال خطأ في الحقيقة من وجهة نظري كيف تستدل بمحل النزاع نحن ننازعك أنّ غير محل الحاجة لا يستوي مع محل الحاجة وأنت تقول أقيس محل غير الحاجة على محل الحاجة وهذا فيه إخلال بالمنطق الفقهي والراجح إن شاء الله أنها لا تقبل إلاّ عند الحاجة. ثم بيّن الحاجة لما فصلها.
قال رحمه الله (إلاّ أن تتعذر شهادة الأصل بموت ، أو مرض ، أو غيبة مسافة قصر)
ذكر المؤلف ثلاث مسائل: الموت والمرض والغيبة.
أما الموت فهو محل إجماع فيجوز بالإجماع الشهادة إذا تعذرت شهادة الأصل بناء على أنه مات أو لموته فهذا لا إشكال فيه.
الثاني: المرض ومسافة القصر فالجماهير ذهبوا إلى أنها عذر لأنّ المرض ومسافة القصر توجب العذر وتمنع مجيء شاهد الأصل والله تعالى {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة/282] وإلزام المريض ومن يسافر مسافة قصر بالمجيء مضارة بلا إشكال ومن هنا علمنا أنه إذا كان في مسافة دون القصر فإنّ الحنابلة لا يصححون الشهادة على الشهادة لعدم وجود العذر وعلمنا من البحث السابق أنّ الضابط في مشروعية الشهادة على الشهادة هو تعذر مجيء شاهد الأصل لأيّ سبب مرض أو سفر أو كونه يمرض غيره او اشتغل بأمر عاجل يفوت بذهابه إلى المحكمة أو مثل ما يحصل الآن كثيرا أن يكون في وقت امتحانات ما يستطيع يذهب لأنه مشغول بالامتحانات سواء كان في مراحل دنيا أو في مراحل عليا. هذا في الحقيقة عذر لأنه لو ذهب لذهب عليه الأمر أو يكون مشغول بأداء الامتحان ونحن نعلم أنّ كثير من الناس يؤجل أداء الشهادة في أيام الامتحانات لأنه مشغول بالاختبار بل هو يؤجل عمله إذا توجد ملابسات كثيرة تمنع من أداء الأصل للشهادة فإذا وجدت ملابسات صحيحة جاز له أن ينيب عنه آخر.
ثم - قال رحمه الله (ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلاّ أن يسترعيه شاهد الأصل فيقول اشهد على شهادتي بكذا)
من شروط صحة الشهادة على الشهادة الاسترعاء وقد بيّن المؤلف رحمه الله ما هو معنى الاسترعاء فيقول أن يقول اشهد على شهادتي بكذا فلا بد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع اشهد أني اشهد أنّ فلان باع فلان كذا وكذا فإن كان شاهد الأصل يتكلم مع زميل له ويقول أنّ فلان باع على فلان ولم يوجه الكلام إلى شاهد الفرع فإنّ الشهادة لا تصح واستدلوا بأمرين:
الأمر الأول: أنه إذا لم يسترعيه ويوجه الخطاب إليه وقع الاحتمال أنه يتكلم بشيء دقيق أو يتكلم بأمر عام ووقع الاحتمال أنه يتكلم عن علم أو عن سماع.
الثاني: أنّ الشهادة على الشهادة هي نيابة ويشترط في النيابة إذن المنيب. والمنيب الآن لم يشهد ولم يأذن
القول الثاني: أنه لا يشترط الاسترعاء بل لو سمع شاهد الفرع شاهد الأصل يتكلم عن عقد من العقود أو عن شيء يشهد به فله أن يشهد واستدلوا على هذا بشهادة المستخفي فإنّ الحنابلة يصححون شهادة المستخفي وشهادة المستخفي هي أن يوجد رجل يقّر في السر ويرفض في العلانية فلصاحب الحق أن يشهد عليه سرا واستخفاء إذا أقرّ في مجالسه الخاصة وهي شهادة صحيحة فقاسوا هذه على هذه
ويبدوا لي أنّ الراجح أنه لابد من الاسترعاء لأنّ الاحتمال الذي أشار إليه الحنابلة موجود وفي شهادة الاستخفاء لا يوجد احتمال لأنّ نفترض أنّ هذا الرجل يقّر في السر ويرفض في العلانية فنحن نشهد عليه في السر لنتمكن من الشهادة عليه في العلانية أما أن يسمع رجل يتكلم مع صاحبه بشيء ثم يقول اشهد كثير من الناس إذا كان يتكلم مع غيره لا في سياق الشهادة يتوسع في العبارة وربما أثبت أشياء لو حقق معه فيها لم يثبتها وهذا كثير بل أنت الآن إذا تكلمت مع أحد الناس وقال لك معلومة لو تتثبت منه وتحاصره وجدت أنها غير دقيقة أليس كذلك؟ فالناس يتوسعون في الكلام أنا أقول مذهب الحنابلة في مثل هذا أنه يجب أن يسترعيه وأن يقول اشهد أني أشهد أنّ فلان باع على فلان وإلاّ فإنه لا يجوز له أن يشهد.
قال رحمه الله (أو يسمعه يقّر بها عند الحاكم أو يعزوها إلى سبب ، من قرض ، أو بيع ، أو نحوه)
لما ذكر اشتراط الاسترعاء ذكر ما يستثنى منه وما يستثنى هو في صورتين. أن يسمعه يقّر أو يشهد عند الحاكم أو أن يسمعه ينسب الحكم إلى سببه أو الحق إلى سببه. ففي هاتين الصورتين لا يشترط حتى الحنابلة الاسترعاء وجه عدم اشتراطهم هو أنّ الاحتمال انتفى في هذه الصورة أما في مجلس القضاء فهو لن يتكلم إلاّ بما علم وأما إذا ذكر السبب فعلم أنه ضابط وأنه يعزو الأمر إلى سببه. هكذا قال الحنابلة وكلامهم وجيه فيما إذا سمعه في مجلس الحكم وليس بوجيه فيما إذا سمعه بدون استرعاء ولو مع إضافة الحكم إلى سببه لأنّ كثير من الناس أيضا يضيف الحكم إلى السبب فيقول أنّ فلان يطلب فلان لأنه اشترى منه من غير أن يتثبت ففي الحقيقة في باب القضاء ينبغي على الشاهد أن يتثبت ولا يشهد بمجرد أنه سمع فلان يقول أنّ فلان قال باع عليه بإمكان القاضي أن يتجاوز هذه المسألة وأن يطلب من الشاهد أن يتكلم بحسب ما سمع وأن لا يشهد وأن لا يقول أشهد أنّ فلان باع على فلان وإنما يقول ماذا سمعت فلان يتحدث مع فلان ويقول كذا وكذا بهذه الطريقة خرج من أن يكون شاهد شهادة أصلية وفي نفس الوقت نقل ما سمع ليتثبت منه القاضي.
قال رحمه الله (وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض)
ولا تأخذ العين من المحكوم له السبب في هذا أنه بعد صدور الحكم أصبحت العين المحكوم بها من أملاك المحكوم له وإذا كانت من أملاكه فإنها لا تخرج بمجرد الدعوى بل تحتاج لأحد أمرين: إما بيّنة أو إقرار. والرجوع عن الشهادة ليس بإقرار ولا بيّنة. ولهذا لا يملك أن يأمر أو ان يطلب بنزع العين من صاحبها بعد صدور الحكم ولو رجع وأكذب نفسه.
والقول الثاني: أنه إذا أكذب نفسه فإنّ الحاكم ينزع العين من المعاطاة إليه ويعطيها صاحب الحق واستدل هؤلاء بأنّ العين إنما أعطيت لصاحبها بناء على الشهادة فإذا بطلت الشهادة يبطل ما بني عليها وهو دفع العين إلى المشهود له. ولما يتبيّن أيهما الراجح ولعله يرجع إلى القاضي يعني في تحديد مثل هذه الأمور لأنه في الحقيقة أحيانا تجزم في بعض الصور بنزع العين وأحيانا تجزم بعدم نزع العين من صور الجزم بعدم نزع العين أنه يوجد كثير بعد صدور الحكم تلمس أنه مورست ضغوط على الشاهد وهذا يعرفه القاضي ويسمع من الناس أنها مورست ضغوط على الشاهد وطولب منه الرجوع مرارا وتكرارا وضغط عليه ثم بناء على هذا الضغط يرجع إلى القاضي وينقض شهادته فمثل هذه الصورة تجزم أنه لا تنزع العين. صورة أخرى إذا رجع شاهد فيه أمارات العدل وبيّن لك لماذا رجع أنه كان واهما وأنه ظنّ أنّ القضية وقعت على الصفة الفلانية وهي لم تقع فمثل هذه الصورة تجزم بالرجوع وأنّ القضية كانت خطأ فالحكم العام في مثل هذه المسألة لا يظهر لي أنه دقيق.
قال رحمه الله (ويلزمهم الضمان دون من زكاهم)
يعني الشهود مع كونهم لا يقبل رجوعهم إلاّ أنه مع ذلك يلزمهم ضمان المال للمشهود عليه وجه ذلك أنّ شهادتهم صارت سببا في نزع العين بغير حق فصار الضمان عليهم.
والقول الثاني: أنهم لا يضمنون شيئا لأنه ليس منهم مباشرة للإتلاف وليست لهم يد متعدية والراجح إن شاء الله أنهم يضمنون لأنّ خسارة المشهود عليه لا شك أنها بسببهم.
ثم - قال رحمه الله (دون من زكاهم)
من زكاهم لا يضمن لأنّ من زكاهم إنما زكاهم بحسب الظاهر وأما الباطن فعلمه إلى الله ولا يملك المزكي ولا غير المزكي أن يعرف حقيقة باطن الشاهد ولهذا فهو يعفى عنه ولا يلزم بشيء وإنما الذي يضمن هم الشهود.