الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقاضي مجد الدين صاحب القاموس ولد سنة تسع وعشرين وسبعمائة ومات في شوال سنة سِت عشرة وثمانمائة (1).
وهذا باب واسع جداً لا يكاد ينحصر في أمثال هذه المختصرات.
التاسعة والأربعون: معرفة الشعر والشعراء
قال ابن فارس في فقه اللغة: الشعر كلامُ موزون مُقَفىّ، دالّ على معنى ويكون أكثر من بيت، وقد ذكر ناس في هذا كلمات من كتاب الله كَرِهْنَا ذكَرْهَا، وقد نزَّه الله سبحانه كتابه عن شَبَه الشعر، كما نزّه نبيه (صللم) عن قوله، قال بعض العقلاءَ وسُئِل عن الشعر، فقال: إنّ هَزَل أضْحك، وإن جَدَّ كذب، فالشاعر بين كَذِبٍ وإضحْاك، وإذا كان كذا فقد نزّه الله نبيه عن هاتين الخَصْلَتَين، وعن كل أمر دَنيء.
ثم قال ابن فارس: والشعر ديوان العرب، وبه حُفِظت الأنساب، وعُرِفت المآثر، ومنه تُعُلَّمت اللُّغة، وهو حُجَّة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله
…
(صللم)، وحديث صحابته والتّابعين، وقد يكون شاعرٌ أشعَر وشِعْرٌ أحلى وأظرف فأمّا أن تتفاوت الأشْعار القديمة حتّى يتباعدَ ما بينها في الجودة فلا؛ وبكلّ يُحتَجّ، والى كلِّ يُحْتاج، فأمّا الاختيار الذي يراه الناس للنّاس فَشَهَواتٌ، كلُّ يستحسن شيئاً.
والشعراء أمراء الكلام، يَقْصُرون الممدود، ويَمُدُّون (2) المقصور ويُقَدِّمون ويُؤَخِّرون، ويُومِئون (3) ويُشيرون، ويَخْتَلِسون، ويُعيرون، ويَسْتَعيرون، فأما لَحْنٌ في إعراب، أو إزالة كلمة عن نَهْج صواب فليس لهم ذلك (4).
وقال ابن رشيق في العمدة: العرب أفضل الأمم، وحِكْمَتُها أشرف الحِكَم، كفضل اللسان على اليد، وكلام العرب نوعان: منظوم ومنثور؛ لكل نوع منهما ثلاث طبقات: جيّدة، ومتوسطة، ورديئة، فإذا اتفقت الطبقتان في القَدْر، وتساويا، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى، كان الحكم للشعر ظاهراً في التسمية، لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدُّرَّ وهو أخو اللفظ ونسيبُه، وإليه يقاس وبه يُشَبَّه إذا كان منظوماً يكون أظهر لحسنه وأصْونَ له، وكذلك اللفظ إذا كان منثوراً تَبَدَّد في الأسماء، وتَدَحْرَجَ في (5) الطباع، ولم يستقر منه الا المفرط في اللطف (6) فإذا أخذ سِلْكُ
(1) المزهر: 2/ 468، بغية الوعاة: 1/ 273 - 275.
(2)
في الصاحبي في فقه اللغة ولا يَمُدّون المقصور: 275.
(3)
في الأصل يوشون والصواب ما أثبتناه عن المصدر نفسه: 275.
(4)
الصاحبي في فقه اللغة: 273 - 275، المزهر: 2/ 470،471.
(5)
في العمدة عن: 1/ 20.
(6)
في المصدر نفسه اللفظ: 1/ 21.
الوَزْن، وعِقْد القافية تآلفت أشتاته (77/
…
) وازدوجت فوائده، وأمن السرقة والغَصْب، وقد أجمع الناس على أنّ المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيداً محفوظاً، وأنّ الشعر أقلُّ، وأكثر جيداً محفوظاً، لأن في أدناه من زنة (1) الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور.
وكان الكلام كله منثوراً، فاحتاجت العرب الى الغِناء بمكارم أخلاقها، وطَيِّب أعْرَاقِها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد وسُمَحائها الأجواد؛ لتَهتّز نفوسها (2) الى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض فعملوها (3) موازين للكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً؛ لأنهم قد شعَروا به أي فطِنوا له، وقيل ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من الموزون عُشره (4)، ولا ضاع من المنثور (5) عُشره، فإن احتج أحد على تفضيل النثر على الشعر بأن القرآن منثور، وقد قال تعالى:{وَمَا عَلَّمنَاه الشِّعْرَ وما يّنْبَغَي لَهُ} (6) فقيل: إنَّ الله بعث رسوله آية وحجة على الخلّق، وجعل كتابه منثوراً ليكون أظهرَ برهاناً بفضله على الشعر الذي من عادة صاحبه أن يكون قادراً على ما يحب من الكلام، وتحدَّى جميع الناس من شاعر وغيره بعمل مثله فأعجزهم ذلك، فكما أن القرآن أعجز الشعراء وليس بِشِعْر، كذلك أعجز الخطباء، وليس بخطبة، والمترسلين وليس بترسل، واعجازه الشعراء أشدُّ برهاناً، ألا ترى العرب كيف نسبوا النبي (صللم) الى الشعر لما غُلِبوا وتبين عجزهم فقالوا: هو شاعر! لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته (7)، وأنه يقع منه ما لا يُلْحَقُ، والمنثور ليس كذلك.
فمن هنا قال تعالى: {وَمَا عَلَّمنَاه الشِّعْرَ وما يّنْبَغَي لَهُ} (8) أي لتقوم عليكم الحجة ويصح قبَلكم الدليل (9).
قال ابن رشيق: وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعْبن بالمزاهر، كما يصنعن في الأعراس، وتتباشر
(1) في العمدة زينة: 1/ 21، والمزهر أيضاً: 2/ 472.
(2)
في العمدة لتهز أنفسها: 1/ 21.
(3)
في المصدر نفسه جعلوها: 1/ 21.
(4)
في الأصل عقره والصواب ما أثبتناه عن العمدة: 1/ 21، والمزهر: 2/ 472.
(5)
في الأصل الموزون والصواب ما أثبتناه عن المصدرين نفسيهما: 1/ 21 و: 2/ 472.
(6)
يس / 69.
(7)
في الأصل وعجامته والصواب ما أثبتناه عن العمدة: 1/ 21، والمزهر: 2/ 472.
(8)
يس / 69.
(9)
العمدة: 1/ 20،21، المزهر: 2/ 471 - 473.
الرجال والولدان؛ لأنه حِماية لأعراضهم، وذَبُّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة لذِكرِهم وكانوا لا يهنئون إلاّ بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تنْتج (1).
وقال محمد بن سلام الجمحي: لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من قبائل العرب، وكان الشَّعْر في الجاهلية عند العرب ديوانَ علمهم، ومَنْتَهى حُكْمتهم به يأخذون، واليه يصيرون
…
انتهى (2).
قلت ولهذا قال: رسول الله (صللم): " إنّ من البيان لسحراً وإنّ من الشعر لحكمة "(3).
وعن عمر بن الخطاب (78/
…
) رضي الله عنه: كان الشِّعْر علَم قَوم لم يكن لهم علمٌ أصحُّ منه، فجاء الإسلام فتشاغَلَتْ عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغَزْو فارس والرُّوم، ولَهَتْ عن الشعر وروايته، فلما كَثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنَّت العرب بالأمصار، راجَعوا رواية الشِّعر، فلم يؤولوا (4) الى مُدَوَّن، ولا كتاب مكتوب، وألْفَوا ذلك وقد هلكَ من العرب مَنْ هلك بالموت والقتل، فحفِظوا أقلَّ ذلك؛ وذهبَ عنهم منه كثيرٌ، وقد كان عند آل النُّعمان بن المًنْذِر، منه ديوانٌ فيه أشعارُ الفحول، وما مُدِح به هو وأهل بَيْته، فصار ذلك الى بني مروان، أو ما صَارَ منه.
قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى اليكم ممَّا قالتِ العربُ إلاّ أقلُّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير (5).
قال ابن رشيق: إنما سمي الشاعر شاعراً؛ لأنه يَشْعُر بما (6) لا يشعر له غيره (7).
وإنما يتفاضل الكلام والشعر بحسن العبارة والدِّيباجة ورَوْنق الفصاحة، حتى تكون ألفاظهما كالزجاجة، وإلاّ فالمعاني مُعَرَّضة لكل جيل من أهل التوحيد والشرك، حتى للزَّنْج والتَّتَر والتُّرْك؛ لكنهم قصرت بهم ألسنتهم عن بلوغ ما رامُوه من أرَب، قد تهيأ على ألسنة العرب وأقلُّ ما يجب على المتكلم البيان لمخاطبه، وإلاّ كان كخابط الليل وحاطبه، يخاطب العربي بالعجمية، ويخاطب العجمي بالعربية، وصناعة الشعر أشد حصراً وأمد عصْرا،
(1) العمدة: 1/ 65، المزهر: 2/ 473.
(2)
طبقات فحول الشعراء: 1/ 3،24، المزهر: 2/ 473.
(3)
المسند للإمام أحمد: 4/ 139.
(4)
الأول: الرجوع، لسان العرب مادة (أول): 1/ 130.
(5)
ينظر: طبقات فحول الشعراء: 1/ 24،25، المزهر: 2/ 473،474.
(6)
في الأصل لما والصواب ما أثبتناه عن العمدة: 1/ 116.
(7)
العمدة: 1/ 116، المزهر: 2/ 491.