الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الموفق البغدادي: اللَّحن يتولد في النواحي، والأمم بحسب العادات والسيرة، ومنه قول المتكلمين: المحْسوسات، والصواب: المحسّات من أحسَسْت الشيء أدركته، وقولهم: ذاتّيَّ والصفات الذاتّية مخالف للأوضاع العربية، لأن النسبة الى ذات ذَوَوِيّ (1)، وفي هذا النوع وما يقاربه، ألفّنا كتاب (لف القماط لتصحيح بعض ما استعملته العامة من الأغلاط).
الثانية والعشرون: معرفة خصائص اللغة
قال ابن فارس: لغة العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها، قال تعالى:{بِلسَان عَرَبيّ مبين} (2). فوصفه بأبلغ ما يُوصفُ به الكلام، وهو البيان، وقال تعالى:{خَلَقَ الإنْسانَ عَلَمَهُ البَيَان} (3) فقدّم - سبحانه - ذِكْرَ البيان على جميع ما تَوَحَّد بخلْقِهِ، وتفَّرد بإنشائه؛ من الخلائق المُحْكَمَة والنَّشايا المُتْقنَة، فلما خصَّ - سبحانه - اللّسانَ العربي بالبيان عُلِم أنَّ سائرِ اللّغات قاصرةٌ عنه وواقِعَة دونه، وأين لسائر اللغات من السّعة ما للغة العرب؟ هذا ما لا خفاء به على ذي نُهْية.
وقال بعض أهل العلم حين ذَكَر ما للعرب من الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم والتأخير وغيرها من سنن العرب في القرآن، وكذلك لا يَقْدر أحد من التَّراجم على أنْ ينقله الى شيء من الألسنة، كما نُقِل الإنجيل عن السّريانية الى الحبشية والرومية، وتُرْجمت التُوراة والزَّبور، وسائر كتب الله عز وجل بالعربية، لأن غير العرب لم تَتَّسع في المجاز إتِّساع العرب وقد تأتي الشعراءُ بالكلام الذي لو أراد مُريد نَقْلَه لاعْتاضَ، وما أمكن الا بمَبْسوط من القول، وكثير من اللَّفظ، ولو أراد (41/
…
) مُعبِّرٌ بالأعجمية أن يُعَبّر عن الغنيمة والاخْفاق، واليَقين، والشّكّ، والظَّاهر، والباطن، والحَقّ، والباطل، والمُبين، والمُشْكل، والاعتزاز، والاسْتِسلام، لَعَّي به والله تعالى أعلم حيث يجعل الفضل
…
انتهى (4).
(1) ذيل فصيح ثعلب موفق الدين عبد اللطيف البغدادي:2، 5، 24، ينظر: المزهر: 1/ 320،321.
(2)
الشعراء / 195.
(3)
الرحمن / 4.
(4)
الصاحبي في فقه اللغة: 40 - 43، المزهر: 1/ 321 - 324.
قلت فضل اللسان العربي على لغات العجم، كلها مُسَلم، وأما عدم القدرة على نقله إلى شيء من الألسنة على أي وجه كان، ففيه نظر واضح، فقد ترجم جمع من أهل العلم واللسان القرآن الكريم بالفارسية، والهندية، والتركية (1) بل الانجريزية (2) وغيرها من الألسنة وهي تؤدي معناه وتبين فحواه بلا شك، وإن لم تكن من استقصاء المعاني كلها ومراتب الفصاحة أو البلاغة جلها بمكان العربية.
ولسان الهنادكة في كتبهم القديمة التي يقال لها سنسكرت أوسع من جميع الألسنة لأن فيها صيغ المذكر، والمؤنث، والخنثى على حدة بخلاف العربية، فإنها ليست فيها صيغة للخنثى كما ليست في الفارسية صيغة للمؤنث نعم لسان العرب أفضل اللغات وأشرفها، وأجود الألسنة وأكملها بوجوه وخصائص توجد فيه، ولا توجد في غيره، وبعده لسان الفرس، وبعده لسان الهند المحدث من عساكر سلاطين الهند، وكان حدوثه عند مخالطة الفرس وغيرهم مع أهل الهند وغيرهم، وقد اشتمل على لغات الألسنة كلها، ووقع من القبول والشهرة بمكان عظيم، وهو سهل التناول والاستعمال لذيذ التكلم عذب الانتحال ليس بثقيل مثل لسان الأهاند، والنصارى (3) ولا بخفيف ومهانٍ مثل لسان أهل البادية الجفاة، وفيه الشعر والنظم وكل الشيء من العلوم والفنون.
نعم طالع العرب رفيع حيث بعث خاتم الأنبياء (صللم) منهم، وهذا فضل عظيم وشرف جسيم لا يساويه شيء من المفاخر العليا، والمآثر الحسنى.
واختصت العرب بأشياء منها قَلْبُهم الحروف عن جهاتها، ليكون الثاني أخَفَّ من الأول، نحو قولهم: ميعاد، ولم يقولوا مِوْعاد، ومنها تركُهم الجَمْع بين الساكِنيْن، وقد يجتمع في لغة العَجَم ثلاث سواكن، ومنه قولهم: يا حَار مَيْلاً الى التَّخْفيف، ومنها اختلاسهم الحركات في مثل:
فاليوم أشْرَبْ غير مُسْتَحْقِب (4)
ومنه الإدغام وتخفيف الكلمة بالحذف نحو: لم يكُ، ولم أُبَلْ، ومنها اضْمارهم الأفعال ومما لا يمكنُ نَقْلهُ البَتّة أوصاف السَّيْف والأسد، والرُّمح، وغير ذلك من الأسماء
(1) التركية سقط من ق.
(2)
في ق اللغات الافرنجية.
(3)
في ق الافرنج.
(4)
الكتاب: 2/ 297، الخصائص: 1/ 74، شرح ديوان امرئ القيس لابي جعفر النحاس: 850، في لسان العرب مادة (حقب) فاليوم أسْقى: 1/ 679، عجزه: إثماً من الله ولا واغل.
المترادفة (42/
…
) ومَعْلوم أنّ العجم لا تعرف للأسد اسماً غير واحد، فأمّا نحن فُنَخرج له خمسين ومائة اسم (1).
وقال ابن خالويه: جمعت للأسد خمسمائة اسم، وللحية مأتين، وقد جمعَ حَمَزة الأصبهاني من أسماء الدواهي ما يزيد على أرْبَعمائة، وذَكَر أن تكاثُر أسماء الدَّواهي من الدَّواهي، ومن العجائب أن أمّة وَسَمتْ معنىً واحداً بِمئَين من الألفاظ (2).
قال ابن فارس: فأين لسائر الأمم ما للْعرب؟ ومن ذا يُمكنُه أنْ يُعَبِّر عن قولهم: ذات الزُّمَيْن وكثْرَة ذاتِ اليد، ويَدَ الدَّهْر، وتَخَاوَصَت النُّجوم، ومَجَّت الشَّمْسُ ريَقَها، وذَرّ الفَيْء، ومَفاصلُ القَوْل، وأتى الأمر من فَصِّه، وهو رَحْبُ العَطَن، وغَمْرُ الرِّداء، وهو جُذَيْلُها المُحَكك، وعُذَيْقُها المُرَجَّب، وما أشْبه هذا من بارع كلامهم، ومن الايماء اللّطيف، والإشارة الدّالّة، وما في كتاب الله تعالى من الخطاب العالي أكثر وأكثر، كقوله:
{وَلَكُمْ في القِصاصِ حَياة} (3)، {يَحْسَبُون كُلَّ صَيْحَة عَلَيْهم} (4)، {وَأُخْرى لَمْ تَقْدِروا عَلَيْها قَدْ أحاطَ اللهُ بها} (5)، {إنْ يَتَّبعُون إلاّ الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغني من الحَقّ شَيْئاً} (6)، {إنَما بَغْيُكُم على أَنْفُسِكُم} (7)، {ولا يُحيقُ المَكرُ السّيئ إلاّ بأَهْلِهِ} (8) وهو أكثر من أن نأتي عليه، وللعرب بعد ذلك كلَم تلوح في أثناء كلامهم كالمصابيح في الدُّجى، كقولهم هذا أمر قاتم الأعماق، أسود النَّواحي وله قَدَم صِدقٍ، وذا أمر أنت أردتَه ودَبَّرتَه، وتقاذَفَتْ بنا النوى واشْتَفَّ (9) الشراب، وأقبلت مَقاصِرُ الظّلام الى غير ذلك، وهذه كلمات من قُدْحةٍ واحدة، فكَيْف إذا جال الطّرْف في سائر الحروف مجاله؟ ولو تقصَّينا ذلك لجاوزنا الغَرَض، ولما حوته أجلادٌ.
واختصت العرب من العلوم الجليلة التي اختصت بها الإعرابُ الذي هو الفارقُ بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يُعرَف الخَبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما مُيِّزَ فاعل من
(1) الصاحبي في فقه اللغة: 43، المزهر: 1/ 324،325.
(2)
ينظر: فقه اللغة للثعالبي: 200، نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لأبي البركات الأنباري: 312، ينظر: المزهر: 1/ 325.
(3)
البقرة / 179.
(4)
المنافقون / 4.
(5)
الفتح / 21.
(6)
النجم / 28.
(7)
يونس / 23.
(8)
فاطر / 43.
(9)
في الأصل استف والصواب ما أثبتناه، لسان العرب مادة (شفف): 2/ 335.
مَفْعول، ولا مُضاف من منعوت، ولا تعّجب من استفهام ولا صَدْر من مَصْدر، ولا نَعت من تأكيد.
وزعم قوم أن الفلاسفة قد كان لهم إعراب ومؤلَّفات نَحْو، وهو كلام لا يَعَّرج على مثله وإنّما تشبَّه القوم آنفاً بأهل الإسلام، فأخذوا من كتب علمائنا وغيَّروا بعض ألفاظها، ونسبُوا ذلك الى قوم ذوي أسماءَ مُنكرة، بتراجم بَشِعَة، لا يكاد لسانُ ذي دينٍ ينطق بها وادَّعَو مع ذلك أن للقوم شعراً، وقد قرأناه فوجدناه قليل المآثر والحلاوة، غير مستقيم الوزن (1).
ثم للعرب العَروض التي هي ميزانُ الشِّعْرِ، وبها يُعْرف صحيحه (43/
…
) من سقيمه ولهم حِفْظ الأنساب، وما يُعْلَمُ أحدٌ من الأمم عُنَي بحفظ النَّسب عناية العرب، ثم انفردت بالهَمْز في عَرْض الكلام مثل قرأ، ولا يكون في شيء من اللغات إلا إبتداء واختصت لغتهم بالحاء والظاء، وزعم قومٌ: أن الضاد مقصورة على العرب دون سائر الأمم وانفردت بالألف واللام للتَّعريف كقولنا: الرّجل والفرس؛ وليستا في شيء من لغات الأمم غير العرب، ولهم التَّصريف، والإعراب، وفي الإعراب تُميَّزُ المعاني، ويُوقَف على أغراض المتكلمّين وذلك إنّ ما أحسن زيدٌ غير مُعْربٍ، لا يُوقف على مراده فإذا قال: ما أحسن زيداُ، بانَ بالإعراب المعنى الذي أرآده، وللعَرَب في ذلك ما ليس لغيرهم، فهم يُفَرّقُون بالحركات وغيرها بالمعاني، يقولون: مِفْتَح للآلةِ ومَفْتَح لموضعِ الفَتْح، وامرأة طاهرٌ من الحَيْض، وطاهرة من العيوب، لأن الرجل لا يشركها في الحيض، ويشركها في الطهارة، الى غير ذلك من الأمثلة ومَنْ فاته علم التصريف فاتَه المُعْظم لإنا نقول: وَجد، وهي كلمة مُبْهَمَة فإذا صَرفت أفصحتَ، فقلت في المال: وُجْدا، وفي الضّالة: وجدانا، وفي الغضب: مَوْجِدَةً، وفي الحُزْن: وَجْدا، ويقال: القاسط للجائر، والمُقْسِط للعادل، فتحَّول المعنى بالتصريف من الجَوْر الى العَدْل، وأمثلة ذلك كثيرة لا تكاد تنحصر، ولهم باب النظم لا يقوله غيرهم، كعادَ فلانٌ شيخاً، وهو لم يكن شيخاً قط، وعادَ الماء آجناً، وهو لم يكن آجناً فيعود (2).
ومن سننهم مخالفة ظاهر اللفظ معناه كقوله عند المدح: قاتله الله ما أشْعره، والاستعارة كانْشقَّتْ عَصَاهم إذا تفرَّقوا، وكشَفَتْ عن ساقها الحربُ، وللبليد حمار.
(1) الصاحبي في فقه اللغة:43،47،77، ينظر: فقه اللغة الثعالبي: 200، المزهر: 1/ 325 - 328.
(2)
الصاحبي في فقه اللغة: 78،100،190،191،266، ينظر: المزهر 1/ 328 - 330.
والحذف والاختصار: كوالله أفعلُ ذلك، أي لا أفعل، وأتانا عِنْد مَغيبِ الشمس، والزيادة نحو:{ليس كَمثله شَيءٌ} (1) و {شَهِدَ شَاهِد من بَني إسرائيل عَلَى مِثْلِه} (2) أي عليه، وتكون الزيادة في الأسماء، والأفعال، والحروف (3).
ومن سننهم التكرير والإعادة، ارادة الابلاغ بحسب العناية بالأمر، واضافة الفعل الى ما ليس فاعلاً في الحقيقة، وذكر الواحد، والمراد الجمع، كقولهم للجماعة ضيف، وعَدُوّ وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن، وذكر الجمع والمراد الاثنان نحو: امرأة ذات أوراك ومآكِم، ومخاطبة الواحد بلفظ الجمع نحو:{رَبّ ارجِعُون} (4)
والخبر عن جماعة، وواحد بلفظ الاثنين كقوله: {إنّ السموآت والأرضَ
كَانَتَا رتقاً} (5)، وتحويل الخطاب من الشاهد الى الغائب (44/
…
) وبالعكس وهو الالتفات وهذا في القرآن كثير، ومنها أن تنسب الفعل الى اثنين وهو لأحدهما، والى الجماعة، وهو لأحدهم، وإلى أحد اثنين وهو لهما، ومنها أن تأمر الواحد بلفظ أمر الاثنين نحو: افعلا ذلك، ويكون المخاطب واحداً ونحو يا صاحبي وياخليلي، والاتيان بلفظ
الماضي، وهو حاضر أو مستقبل، وبالعكس نحو:{أتَى أَمر الله} (6) أي يأتي
{وكُنتم خَيرَ أُمَّة} (7) أي أنتم، ووصف الشيء بما يقع فيه نحو: يَوْمُ عاصِف، وليْلٌ نائم، أو ساهرٌ، والتوهم والإيهام، وذلك كثير في أشعارهم، والفرق بين الضدَّين بحرف أو حركة كيُدْوي من الداء، ويُدَاوي من الدواء، والبسط بالزيادة في عدد حروف الإسم والفعل، ولعل أكثر ذلك لإقامة الوزن كفرقود في فرقد ويرقود في يرقد، والاضمار للأسماء أو للأفعال، أو للحروف والتعويض نحو:{فَضرْبَ الرِّقاب} (8) وتقديم الكلام، وهو مؤخر في المعنى وبالعكس، والاعتراض بين الكلام، والاشارة الى المعنى نحو: طويلُ النِّجاد، والكفُّ عن الخبر اكتفاء بما يدل عليه الكلام، واعادة الشيء ما ليس له، كقوله: مَرَّ بَيْنَ سَمْع الأرض وبَصَرها، واجراء ما لا يعقل مجرى بني آدم، والمحاذاة كالغدايا والعشايا، والاقتصار على
(1) الشورى / 11.
(2)
الأحقاف / 10.
(3)
ينظر: الصاحبي في فقه اللغة: 199، 204 - 206، ينظر: المزهر: 1/ 330 - 331.
(4)
المؤمنون / 99.
(5)
الأنبياء / 30.
(6)
النحل / 1.
(7)
آل عمران / 110.
(8)
محمد / 5.