الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالعالم المنصف قد اطلع عليه فارتضاه، وأجال في ساحته نظرة ذي علق فاجتباه، ولم يلتفت الى حدوث عهده وقرب ميلاده، لأنه إنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في نفسه لا لقدمه وحدوثه وايجاده، وبالجاهل المشط قد سَمع به فسارع الى تمزيق فروته وتوجيه المثالب اليه بناءاً على كبر العلم وثروته، ولمّا يعرف نبعه من غربه ولا عجم عودَه ولا نفض تهائمه ونجوده، والذي غره أنه عمل محدث من حديث العهد لا عملٌ قديمٌ أو صنع جديد من معاصره لا صنع عتيق كريم وحسبك أن الآشياء تُنتَقد أو تُبهرَج لأنها تليدة أو طارفة، وأظلالها طامسة أو وارفة، وبالله التوفيق وبيده أزمّة الجمع والتفريق.
(المقدمة)
في وصف اللغة وحدها وتصريفها وبعض مبادئ هذا العلم وفيها مسائل
الأولى: في وصف اللغة
قال محمد بن يعقوب في القاموس: إنَّ عِلْمَ اللُّغة هو الكافل بابراز أسْرَار الجميع، والحافل بما يَتَضَلَّعُ منهُ القَاحِلُ، والكَاهِلُ، والفَاقُع، والرَّضيع، وإنَّ بَيانَ الشَّريعة لمَّا كان مصدرُهُ عن لسان العرب، وكان العَمَل بموجبه لا يَصحُّ الاّ بأحكام العلم بمُقَدّمتِه (1)(4/) وَجَبَ على رُوَّام العِلم وطُلَاّب الأثر أن يَجْعَلُوا عُظَم اجتِهادِهم واعتمادهم، وأن يَصرفُوا جُلَّ عنايتهم في ارتيادهم، الى علم اللّغة والمعرفة بوجُوهها، والوُقُوف على مُثلها ورُسُومها وَقَدْ عُني به من الخَلفَ والسَّلَف في كلّ عصر عصابة، هم أهل الإصابة، أحَرزُوا دَقائقَهُ، وأبرَزُوا حقائقه، وعَمرّوا دِمَنَه وفَرعُوا قُنَنَه، وقَنَصَوا شواردَه، ونَظَمُوا قَلائَده وأرْهَفُوا مَخاذَم البَرَاعَة، وارعَفُوا مَخَاطَم اليَرَاعَة، فألَّفُوا وأفادوا، وصَنَّفوا وأجادوا وبَلَغُوا من المقاصد قاصِيتَها وَمَلكوُا من المَحاسن ناصِيَتَها، جَزاهُمُ الله رضوانه، وأحَلَّهم من رياض القُدس ميطانه (2).
قال: وهذه اللُّغَة الشَّريفة التي لم تَزَل تَرفَعُ العَقِيرَة غرّيدَة بآنها، وتَصُوغ ذات طوقها بقّدر القُدرَة فُنُون ألحانها، وإن دارَت الدَّوائر على ذويها، وأخْنَتْ على نَضَارَة رياض عَيْشهم تُذويها، حتى لا لها اليَوْمِ دَارس، سِوى الطَّلَل في المدارس، ولا مُجاوِبَ الاّ الصَّدَى ما بَيْنَ أعْلامها الدَّوَارس، ولكن لم يَتَصَوَّح في عَصف تلك البوارح نبت تلك الأباطح أصلاً ورَاسَاً، ولم تُسْتَلَب الأعْواد المُورِقَة عن آخرها وإن أذْوَت اللَّيالي غراساً ولا تَتساقَطُ عن
(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي: 1/ 2.
(2)
المصدر نفسه: 1/ 3.
عذبات أفنان الألسنة ثمارُ اللّسان العربي، وما اتَّقَتْ مصادَمَة هُوِج الزَّعازع بمُناسَبة الكتاب ودَوْلَة النَّبي (1).
ولا يَشنأ هذه اللّغَة الشَريفة الَاّ من اهتافَ (2) به الريحُ الشَّقاء، ولا يَختارُ عليها الَاّ من اعتاضَ السّافَيةَ (3) من الشَّجْواء (4)، افادَتها ميامن أنفاس المُستَجنّ بطَيْبَة طيبا، فَشَدَت بها أيكيَّةُ النُطق على فَنَن اللّسان رطيبا، يَتَداوَلُها القَوْم ما ثَنَت الشَّمَالُ معاطِفَ غّصْن، وَمَرّت الجنُوبُ لقَحةَ مُزِن، وما أجدر هذا اللسان وهو حَبيبُ النَّفس، وعَشيقُ الطَّبع وسَميرُ ضَمير الجمع، والى اليَوْم نالَ به القومُ المَراتبَ والحُظُوظ، وَجَعَلوا حَمَاطَة جُلجُلانهم لَوحَهُ المحفوظ، وفاحَ من زهر تلك الخمائل وإن أخطأهُ صوبُ الغُيُوث الهَواطل ما تَتَولَّعُ به الأرواحُ لا الرياح، وتُزهي به الألسُن، لا الأغصُن، ويُطلع طَلْعَة البشر، لا الشَّجَر، ويَجْلوهُ المَنطقُ السَّحَّار لا الاسْحار، تُصانُ عن الخبط أوراقٌ عليها اشتَمَلَتْ، ويَتَرفّعُ عن السُّقُوط نَضيجُ ثمرٍ أشجارُهُ أحتَمَلَتْ، من لُطف بَلاغَة لسانهم ما يَفضَحُ فُرُع الآس رَجَّل جَعْدَها ماشِطةُ الصَّبا، ومِن حُسنِ بيانهم (5/) ما اسْتَلَب الغُصْنَ رشاقَتَهُ فَقَلَق اضطراباً شاء أو أبى
…
انتهى حاصله (5).
وقال الجوهري في أول الصحاح: هذه اللغة التي شرف الله تعالى منزلتها وجعل علم الدين والدنيا منوطا بمعرفتها
…
انتهى (6).
وقال السيوطي في المزهر: لاشك أن علم اللغة من الدين، لأنه من فروض الكفايات وبه تعرف معاني ألفاظ القرآن والسنة (7).
(1) القاموس: 1/ 4،5.
(2)
اهتاف: الهيف سرعة السير، لسان العرب مادة (هتف): 3/ 813.
(3)
السافياءُ: الريح تَحْملُ تراباً كثيراً على وجه الأرض تَهْجًمُه على الناس، لسان العرب مادة (سفا): 2/ 162.
(4)
في الأصل الشحواء والصواب ما أثبتناه عن القاموس: 1/ 5، والشَّجْوُ: الهم والحُزْنُ، ومَفازَة شجواء: صعبة المَسْلَك مَهْمْة، ولم ترد (شحا) ممدودة في اللسان، لسان العرب مادة (شجا) و (شحا): 2/ 275،279.
(5)
القاموس: 1/ 5.
(6)
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: للجوهري: 1/ 33.
(7)
المزهر: 2/ 302.
وعن عمر بن الخطاب (رض) قال: لا يقريء القرآن الا عالم باللغة، وعن ابن عباس إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإنَّ الشعر ديوان الأدب (1).
قال الفارابي في خطبة كتابه ديوان الأدب: القرآن كلام الله، وتنزيله فَصَّل فيه مصالح العباد في معاشهم، ومعادهم مما يأتون وَيَذَرُون، ولا سبيل إلى علمه وإدراك معانيه الا بالتَّبحرُّ في علم هذه اللغة (2)، وقال بعض أهل العلم:
حفظ اللغات علينا
…
فرض كفرض الصلاة
…
(3)
فليس يضبط دين
…
إلا بحفظ اللغات
وقال ثعلب في أماليه: الفقيه يحتاج الى اللغة حاجة شديدة
…
انتهى (4).
وقال المناوي في شرحه على القاموس: من منافع فن اللغة التوسع في المخاطبات والتمكن من إنشاء الرسائل بالنظم والنثر، ومن عجائبه التصرف في تسمية الشيء الواحد بأسماء مختلفة لاختلاف الأحوال كتسمية الصغير من بني آدم ولداً وطفلاً، ومن الخيل: فلواً، ومهراً، ومن الإبل: حواراً، وفصيلاً، ومن البقر: عجلاً، ومن الغنم: سخلة، وحملاً، وعناقاً، ومن الغزال: خشفاً، ورشاً، ومن الكلاب: جرواً، ومن السباع: شبلاً، ومن الحمير: جحشاً، وتولباً، وهنبراً،، وتقول نبح الكلب، وصرخ الديك، وهمهم الأسد وزأر، وهيثم الريح، وكَطَعنَة بالرمح، وضربة بالسيف، ورماه بالسهم ووكزه باليد وبالعصا (5).
وبالجملة فهو باب واسع لا يحيط به انسان، ولا يستوفي التعبير به لسان، ولولا معرفة المترادفات، لما اقْتدر صاحب القاموس على ما أجاب به علماء الروم عن معنى كلام الامام علي عليه السلام، ذكر أبو الوفا الهوريني المصري: إنه جاء برديف كلامه (كرم الله وجهه) على الفور من غير توقف لما سألوه عن قول علي لكاتبه: إلصق روانفك بالجبوب، وخذ المزبر بشَناتِرك، واجعل حُنْدُورتَيْك (6/) الى قَيْهَلي، حتى لا انغَى نَغْية (6) الا أودعتها بحَماطَة جلجلانك، فقال معناه: إلزق عَضْرطك بالصَّلّة
(1) ايضاح الوقف والابتداء لأبي البركات الأنباري: 39،62، والمزهر: 2/ 302.
(2)
ديوان الأدب للفارابي: 1/ 73، والمزهر: 2/ 302، أعادة في ص 66،67.
(3)
المزهر: 2/ 302.
(4)
ينظر: مجالس ثعلب: 1/ 216، وفيه ذكر أمثلة عديدة على ارتباط الفقه باللغة فقط.
(5)
ينظر: المخصص: 2/ 46، 47،64، 72، 78.
(6)
بغية الوعاة: 1/ 274، تاج العروس من جواهر القاموس لمرتضى الزبيدي:1/ 14، وفيهما الروانف: المعقدة، الجبوب: الأرض، الِمزْبر: القلم، الشّناتر: الأصابع، الحنْدُورتان: الحدقتان، قيْهِلي: أي وجهي، أنغى: أي أنطق.