الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
357 - إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن يُوسُف الفيروزاباذي بِكَسْر الْفَاء أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
صَاحب التَّنْبِيه والمهذب فِي الْفِقْه والنكت فِي الْخلاف واللمع وَشَرحه والتبصرة فِي أصُول الْفِقْه والملخص والمعونة فِي الجدل وطبقات الْفُقَهَاء ونصح أهل الْعلم وَغير ذَلِك
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام صَاحب التصانيف الَّتِي سَارَتْ كمسير الشَّمْس ودارت الدُّنْيَا فَمَا جحد فَضلهَا إِلَّا الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس بعذوبة لفظ أحلى من الشهد بِلَا نحله وحلاوة تصانيف فَكَأَنَّمَا عناها البحتري بقوله
(وَإِذا دجت أقلامه ثمَّ انتحت
…
برقتْ مصابيح الدجى فِي كتبه)
(بِاللَّفْظِ يقرب فهمه فِي بعده
…
منا وَيبعد نيله فِي قربه)
(حكم سحائبها خلال بنانه
…
هطالة وقليبها فِي قلبه)
(فالروض مُخْتَلف بحمرة نوره
…
وَبَيَاض زهرته وخضرة عشبه)
(وَكَأَنَّهَا والسمع مَعْقُود بهَا
…
شخص الحبيب بدا لعين محبه)
وَقد كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الفصاحة والمناظرة وَأقرب شَاهد على ذَلِك قَول سلار الْعقيلِيّ أوحد شعراء عصره
(كفاني إِذا عَن الْحَوَادِث صارم
…
ينيلني المأمول بالإثر والأثر)
(يقد ويفرى فِي اللِّقَاء كَأَنَّهُ
…
لِسَان أبي إِسْحَاق فِي مجْلِس النّظر)
وَكَانَت الطّلبَة ترحل من الْمشرق وَالْمغْرب إِلَيْهِ والفتاوي تحمل من الْبر وَالْبَحْر إِلَى بَين يَدَيْهِ وَالْفِقْه تتلاطم أمواج بحاره وَلَا يسْتَقرّ إِلَّا لَدَيْهِ ويتعاظم لابس شعاره إِلَّا عَلَيْهِ حَتَّى ذكرُوا أَنه كَانَ يجْرِي مجْرى ابْن سُرَيج فِي تأصيل الْفِقْه وتفريعه ويحاكيه فِي انتشار الطّلبَة فِي الرّبع العامر جَمِيعه
قَالَ حيدر بن مَحْمُود بن حيدر الشِّيرَازِيّ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق يَقُول خرجت إِلَى خُرَاسَان فَمَا دخلت بَلْدَة وَلَا قَرْيَة إِلَّا وَكَانَ قاضيها أَو مفتيها أَو خطيبها تلميذي أَو من أَصْحَابِي
وَأما الجدل فَكَانَ ملكه الْآخِذ بزمامه وإمامه إِذا أَتَى كل وَاحِد بإمامه وَبدر سمائه الَّذِي لَا يغتاله النُّقْصَان عِنْد تَمَامه وَأما الْوَرع المتين وسلوك سَبِيل الْمُتَّقِينَ وَالْمَشْي على سنَن السَّادة السالفين فَذَلِك أشهر من أَن يذكرهُ الذاكر وَأكْثر من أَن يحاط لَهُ بِأول وَآخر لن يُنكر تقلب وَجهه فِي الساجدين وَلَا قِيَامه فِي جَوف الدجى وَكَيف والنجوم من جملَة الشَّاهِدين
(يهوى الدياجي إِذا الْمَغْرُور أغفلها
…
كَأَن شهب الدياجي أعين نجل)
وَكَانَ يُقَال إِنَّه مستجاب الدعْوَة
وَقَالَ أَبُو بكر بن الخاضبة سَمِعت بعض أَصْحَاب أبي إِسْحَاق بِبَغْدَاد يَقُول كَانَ الشَّيْخ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْد فرَاغ كل فصل من الْمُهَذّب
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِنَّه سمع بَعضهم يَقُول دخل أَبُو إِسْحَاق يَوْمًا مَسْجِدا ليتغدى فنسى دِينَارا ثمَّ ذكر فَرجع فَوَجَدَهُ ففكر ثمَّ قَالَ لَعَلَّه وَقع من غَيْرِي
فَتَركه
هَذَا هُوَ الزّهْد هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا وَهَذَا هُوَ الْوَرع وَليكن الْمَرْء هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا يؤمل من الْجنَّة آمالا وَهَذَا هُوَ خُلَاصَة النَّاس وَهَذَا هُوَ الْحلِيّ وَمَا يظنّ أَنه نَظِيره فَذَاك هُوَ الوسواس فَإِن كَانَ صَالح ترتجى بركاته فَهَذَا وَإِن كَانَ سيد يؤمل فِي الشدائد فحسبك هُوَ ملاذا وَإِن كَانَ تَقِيّ فَهَذَا الْعَمَل الأتقى وَإِن كَانَت مُوالَاة فلمثل هَذِه الشيم الَّتِي لَا يتجنبها إِلَّا الأشقى
ولد الشَّيْخ بفيروزاباذ وَهِي بليدَة بِفَارِس سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة وَنَشَأ بهَا
ثمَّ دخل شيراز وَقَرَأَ الْفِقْه على أبي عبد الله الْبَيْضَاوِيّ وعَلى ابْن رامين صَاحِبي أبي الْقَاسِم الداركي تلميذ أبي إِسْحَاق الْمروزِي صَاحب ابْن سُرَيج
ثمَّ دخل الْبَصْرَة وَقَرَأَ الْفِقْه بهَا على الخرزي
ثمَّ دخل بَغْدَاد فِي سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَقَرَأَ على القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ ولازمه واشتهر بِهِ وَصَارَ أعظم أَصْحَابه ومعيد درسه
وَقَرَأَ الْأُصُول على أبي حَاتِم الْقزْوِينِي
وَقَرَأَ الْفِقْه أَيْضا على الزجاجي وَطَائِفَة آخَرين
وَمَا برح يدأب ويجهد حَتَّى صَار أنظر أهل زَمَانه وَفَارِس ميدانه والمقدم على أقرانه وامتدت إِلَيْهِ الْأَعْين وانتشر صيته فِي الْبلدَانِ ورحل إِلَيْهِ فِي كل مَكَان
وَلَقَد كَانَ اشْتِغَاله أول طلبه أمرا عجابا وَعَملا دَائِما يَقُول من شَاهده عجبا لهَذَا الْقلب والكبد كَيفَ مَا ذابا
يُقَال إِنَّه اشْتهى ثريدا بِمَاء الباقلاء قَالَ فَمَا صَحَّ لي أكله لاشتغالي بالدرس وأخذى النّوبَة
وَقَالَ لي كنت أُعِيد كل قِيَاس ألف مرّة فَإِذا فرغت مِنْهُ أخذت قِيَاسا آخر وَهَكَذَا وَكنت أُعِيد كل درس ألف مرّة فَإِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة بَيت يستشهد بِهِ حفظت القصيدة
وَسمع الشَّيْخ الحَدِيث بِبَغْدَاد من أبي بكر البرقاني وَأبي عَليّ بن شَاذان وَأبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ الْخَطِيب وَأَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بن أَبى نصر الْحميدِي وَأَبُو بكر بن الخاضبة وَأَبُو الْحسن بن عبد السَّلَام وَأَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وَأَبُو الْبَدْر بن الْكَرْخِي وَغَيرهم
وَكَانَ الشَّيْخ أَولا يدرس فِي مَسْجِد بِبَاب الْمَرَاتِب إِلَى أَن بنى لَهُ الْوَزير نظام الْمَالِك الْمدرسَة على شاطىء دجلة فانتقل إِلَيْهَا ودرس بهَا بعد تمنع شَدِيد فِي يَوْم السبت مستهل ذِي الْحجَّة سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
قَالَ القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس الْجِرْجَانِيّ صَاحب المعاياة وَغَيرهَا كَانَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ لَا يملك شَيْئا من الدُّنْيَا فَبلغ بِهِ الْفقر حَتَّى كَانَ لَا يجد قوتا وَلَا ملبسا
قَالَ وَلَقَد كُنَّا نأتيه وَهُوَ سَاكن فِي القطيعة فَيقوم لنا نصف قومة لَيْسَ يعتدل قَائِما من العرى كي لَا يظْهر مِنْهُ شَيْء
وَقيل كَانَ إِذا بَقِي مُدَّة لَا يَأْكُل شَيْئا جَاءَ إِلَى صديق لَهُ باقلاني فَكَانَ يثرد لَهُ رغيفا ويثريه بِمَاء الباقلاء فَرُبمَا أَتَاهُ وَكَانَ قد فرغ من بيع الباقلاء فيقف أَبُو إِسْحَاق وَيَقُول {تِلْكَ إِذا كرة خاسرة}
وَيرجع
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ البروجردي أخرج أَبُو إِسْحَاق يَوْمًا قرصين من بَيته فَقَالَ لبَعض أَصْحَابه وَكلتك فِي أَن تشتري لي الدبس والراشي بِهَذِهِ القرصة على وَجه هَذِه القرصة الْأُخْرَى
فَمضى الرجل وَشك بِأَيّ القرصين اشْترى فَمَا أكل الشَّيْخ ذَلِك وَقَالَ لَا أَدْرِي اشْترى الَّذِي وكلته أم بِالْأُخْرَى
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ حملت يَوْمًا فتيا إِلَى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فرأيته وَهُوَ يمشي فَسلمت عَلَيْهِ فَمضى إِلَى دكان خباز وَأخذ قلمه ودواته مِنْهُ وَكتب الْجَواب فِي الْحَال وَمسح الْقَلَم فِي ثَوْبه وَأَعْطَانِي الْفَتْوَى
وَقد دخل الشَّيْخ خُرَاسَان وَعبر نيسابور وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتدى بِاللَّه تشوش من العميد أبي الْفَتْح بن أبي اللَّيْث فَدَعَا الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق وشافهه بالشكوى مِنْهُ وَأَن أهل الْبَلَد حصل لَهُم الْأَذَى بِهِ وَأمره بِالْخرُوجِ إِلَى الْعَسْكَر وَشرح الْحَال بَين يَدي السُّلْطَان وَبَين يدى الْوَزير نظام الْملك فَتوجه الشَّيْخ وَمَعَهُ جمال الدولة عفيف وَهُوَ خَادِم من خدام الْخَلِيفَة
قَالَ أَبُو الْحسن الهمذاني وَكَانَ عِنْد وُصُوله إِلَى بِلَاد الْعَجم يخرج أَهلهَا بنسائهم وَأَوْلَادهمْ فيمسحون أَرْكَانه وَيَأْخُذُونَ تُرَاب نَعْلَيْه يستشفون بِهِ وَكَانَ يخرج من كل بلد أَصْحَاب الصَّنَائِع بصنائعهم وينثرونها مَا بَين حلوى وَفَاكِهَة وَثيَاب وفرا وَغير ذَلِك وَهُوَ ينهاهم حَتَّى انْتَهوا إِلَى الأساكفة فَجعلُوا ينثرون المتاعات وَهِي تقع على رُؤُوس النَّاس وَالشَّيْخ يتعجب
وَلما انْتَهوا جعل الشَّيْخ يداعب أَصْحَابه وَيَقُول رَأَيْتُمْ النثار مَا أحْسنه وأيش وصل إِلَيْكُم يَا أَوْلَادِي مِنْهُ قلت وَكَانَ مِمَّن صَحبه فِي هَذِه السفرة من أَصْحَابه فَخر الْإِسْلَام الشَّاشِي وَالْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ صَاحب الْعدة وَابْن بَيَان والميانجي وَأَبُو معَاذ والبندليني وَأَبُو ثَعْلَب الوَاسِطِيّ وَعبد الْملك الشابرخواستي وَأَبُو الْحسن الْآمِدِيّ وَأَبُو الْقَاسِم الزنجاني وَأَبُو عَليّ الفارقي وَأَبُو الْعَبَّاس بن الرطبي وَغَيرهم
قلت وَخرج إِلَيْهِ صوفيات الْبَلَد وَمَا فِيهِنَّ إِلَّا من مَعهَا سبْحَة وألقين
الْجَمِيع إِلَى المحفة وَكَانَ قصدهن أَن يلمسها فَتحصل لَهُنَّ الْبركَة فَجعل يمرها على يَدَيْهِ وَجَسَده ويتبرك بِهن ويقصد فِي حقهن مَا قصدن فِي حَقه وَكَانَ هَذَا الْحَال بساوة من بِلَاد الْعَجم
وَلما بلغ بسطَام قيل للشَّيْخ قد أَتَى فلَان الصُّوفِي فَنَهَضَ الشَّيْخ من مَكَانَهُ وَعدا إِلَيْهِ وَإِذا بِهِ شيخ كَبِير هم وَهُوَ رَاكب بَهِيمَة وَخَلفه خلق من الصُّوفِيَّة بمرقعات جميلَة فَقيل لَهُ قد أَتَاك الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَرمى نَفسه عَن الْبَهِيمَة وَقبل يَده وَقبل الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق رجله وَقَالَ لَهُ الصُّوفِي قتلتني يَا سَيِّدي فَمَا يمكنني أَمْشِي مَعَك وَلَكِن تتقدم إِلَى مجلسك وَلما وصل جلس الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق بَين يَدَيْهِ وَأظْهر كل وَاحِد مِنْهُمَا من تَعْظِيم صَاحبه مَا جَاوز الْحَد ثمَّ أخرج الصُّوفِي خرقتين فِي إِحْدَاهمَا حِنْطَة وَقَالَ هَذِه حِنْطَة نتوارثها عَن أبي يزِيد البسطامي وَفِي الْأُخْرَى ملح فأعجب الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق ذَلِك وودعه وَانْصَرف
قَالَ ابْن الهمذاني وحَدثني الشَّيْخ أَبُو الْفَضَائِل أَن ابْن بَيَان مدرس الْبَصْرَة قَالَ هَذَا الشَّيْخ الصُّوفِي الَّذِي قصد الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق يعرف بالسهلكي وَحكى فِي ذَلِك الْمجْلس أَن هَذِه الْبَلدة يَعْنِي بَلْدَة بسطَام لَا تَخْلُو من ولي لله فَكَانُوا يرَوْنَ أَن الْولَايَة انْتَهَت إِلَيْهِ
ثمَّ إِن الشَّيْخ دخل نيسابور وتلقاه أَهلهَا على الْعَادة المألوفة مِمَّن وَرَاءَهُمْ من بِلَاد خُرَاسَان وَحمل شيخ الْبَلَد إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ غاشيته وَمَشى بَين يَدَيْهِ كالخديم وَقَالَ أفتخر بِهَذَا
وتناظر هُوَ وإياه فِي مسَائِل انْتهى إِلَيْنَا بَعْضهَا
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق غضنفرا فِي المناظرة لَا يصطلى لَهُ بِنَار
وَقد قيل إِنَّه كَانَ يحفظ مسَائِل الْخلاف كَمَا يحفظ أحدكُم الْفَاتِحَة
وَقيل إِن سَبَب تصنيفه الْمُهَذّب أَنه بلغه أَن ابْن الصّباغ قَالَ إِذا اصْطلحَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة ذهب علم أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ يَعْنِي أَن علمه هُوَ مسَائِل الْخلاف بَينهمَا فَإِذا اتفقَا ارْتَفع فصنف الشَّيْخ حِينَئِذٍ الْمُهَذّب
حكى ذَلِك ابْن سَمُرَة فِي طَبَقَات اليمنيين وَذكر أَن الشَّيْخ صنف الْمُهَذّب مرَارًا فَلَمَّا لم يُوَافق مَقْصُوده رمى بِهِ فِي دجلة وَأجْمع رَأْيه على هَذِه النُّسْخَة الْمجمع عَلَيْهَا
ثمَّ عَاد الشَّيْخ إِلَى بَغْدَاد وصحبته كتب السُّلْطَان الْأَعْظَم ملكشاه بن السُّلْطَان ألب أرسلان السلجوقي والوزير نظام الْملك
قلت وأظن الشَّيْخ فِي هَذِه السفرة خطب للخليفة بنت السُّلْطَان وَكَانَ السفير فِي ذَلِك وَمَا أرَاهُ إِلَّا فِي هَذِه السفرة فَتزَوج بهَا الْخَلِيفَة وأولدها جعفرا وَكَانَ قَصده بِهَذَا التَّقَرُّب إِلَى خاطر ملكشاه فَلم يزده ذَلِك إِلَّا بعدا وَتغَير عَلَيْهِ خاطر السُّلْطَان ملكشاه بعد زمن قريب وَكَانَ قد جعل وَلَده المستظهر بِاللَّه ولي الْعَهْد فألزمه أَن يعزله وَيجْعَل ابْن بنته جعفرا ولي الْعَهْد وَأَن يسلم بَغْدَاد إِلَى السُّلْطَان وَيخرج إِلَى الْبَصْرَة فشق ذَلِك على الْخَلِيفَة وَبَالغ فِي استنزال السُّلْطَان ملكشاه عَن هَذَا الرَّأْي فَأبى
فاستمهله عشرَة أَيَّام ليتجهز فَقيل أَنه جعل يَصُوم ويطوي وَإِذا أفطر جلس على الرماد وَيَدْعُو على ملكشاه فَلم يفلح ملكشاه بل مَاتَ بعد أَيَّام يسيرَة وَلم يتم لَهُ شَيْء مِمَّا أَرَادَهُ
وَكَانَ هَذَا الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله كَبِير الإجلال للشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق سَببا فِي جعله خَليفَة
قَالَ ابْن سَمُرَة قَالَ القَاضِي طَاهِر بن يحيى قلت هُوَ ابْن صَاحب الْبَيَان وَكَانَ مَعَ الزّهْد المتين والورع الشَّديد طلق الْوَجْه دَائِم الْبشر حسن المجالسة مليح المحاورة يحْكى الحكايات الْحَسَنَة والأشعار المليحة ويحفظ مِنْهَا كثيرا وَرُبمَا أنْشد على البديهة لنَفسِهِ مثل قَوْله مرّة لِخَادِمِهِ فِي الْمدرسَة النظامية أبي طَاهِر بن شَيبَان بن مُحَمَّد الدِّمَشْقِي
(وَشَيخنَا الشَّيْخ أَبُو طَاهِر
…
جمالنا فِي السِّرّ وَالظَّاهِر)
وَمِنْه قَوْله وَهُوَ ماش فِي الوحل يَوْمًا وَقد أَكثر الإنشاد من الْأَشْعَار فَقَالَ
(إنشادنا الْأَشْعَار فِي الوحل
…
هَذَا لعمري غَايَة الْجَهْل)
قَالَ تِلْمِيذه عَليّ بن حسكويه وَكَانَ مَعَه يَا سَيِّدي بل هَذَا لعمري غَايَة الْفضل
وَقَالَ عَليّ بن حسكويه اجْتمع الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق والرئيس أَبُو الْخطاب عَليّ بن عبد الرَّحْمَن فَأتيَا بثلجية فِيهَا مَاء بَارِد فَأَنْشَأَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق قَوْله
(ممنع وَهُوَ فِي الثلاج
…
فَكيف لَو كَانَ فِي الزّجاج)
فَأَجَابَهُ الرئيس أَبُو الْخطاب
(مَاء صفا رقة وطيبا
…
لَيْسَ بملح وَلَا أجاج)
وَحكى أَبُو نصر أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد القاهر خطيب الْموصل قَالَ لما جِئْت إِلَى بَغْدَاد قَاصِدا الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق رحب بِي وَقَالَ من أَي الْبِلَاد أَنْت فَقلت من الْموصل
فَقَالَ مرْحَبًا بلديى
فَقلت يَا سيدنَا أَنا من الْموصل وَأَنت من فيروزاباذ
فَقَالَ يَا وَلَدي أما جمعتنَا سفينة نوح وَله أدب أعذب من الزلَال مازجته المدام وأزهر من الرَّوْض باكره مَاء الْغَمَام وأبهى من المنثور هَذَا مَعَ أَنه لَا يَتلون وأزهى من صفحات الخدود وَإِن كَانَ آس العذار على جَوَانِب ورده تكون لَو سَمعه ديك الْجِنّ لصاح كَأَنَّهُ مصروع وَلَو تَأمل مقاطيعة ابْن قلاقس لأصبح وَهُوَ ذُو قلب مَقْطُوع
فَمِنْهُ
(سَأَلت النَّاس عَن خل وَفِي
…
فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيل)
(تمسك إِن ظَفرت بود حر
…
فَإِن الْحر فِي الدُّنْيَا قَلِيل)
وَمِنْه
(إِذا تخلفت عَن صديق
…
وَلم يعاتبك فِي التَّخَلُّف)
(فَلَا تعد بعْدهَا إِلَيْهِ
…
فَإِنَّمَا وده تكلّف)
وَمِنْه فِي غريق
(غريق كَأَن الْمَوْت رق لفقده
…
فلَان لَهُ فِي صُورَة المَاء جَانِبه)
(أَبى الله أَن أنساه دهري لِأَنَّهُ
…
توفاه فِي المَاء الَّذِي أَنا شَاربه)
وَمِنْه أَيْضا
(لبست ثوب الرجا وَالنَّاس قد رقدوا
…
وَقمت أَشْكُو إِلَى مولَايَ مَا أجد)
(وَقلت يَا عدتي فِي كل نائبة
…
وَمن عَلَيْهِ لكشف الضّر أعْتَمد)
(أَشْكُو إِلَيْك أمورا أَنْت تعلمهَا
…
مَالِي على حملهَا صَبر وَلَا جلد)
(وَقد مددت يَدي بالضر مبتهلا
…
إِلَيْك يَا خير من مدت إِلَيْهِ يَد)
(فَلَا تردنها يَا رب خائبة
…
فبحر جودك يروي كل من يرد)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه فِي القَوْل فِي النُّجُوم أنشدنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الفيروزابادي لنَفسِهِ
(حَكِيم رأى أَن النُّجُوم حَقِيقَة
…
وَيذْهب فِي أَحْكَامهَا كل مَذْهَب)
(يخبر عَن أفلاكها وبروجها
…
وَمَا عِنْده علم بِمَا فِي المغيب)
وَحكي أَن الشَّيْخ قَالَ كنت نَائِما فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَام وَمَعَهُ صَاحِبَاه أَبُو بكر وَعمر رضي الله عنهما فَقلت يَا رَسُول الله بَلغنِي عَنْك أَحَادِيث كَثِيرَة عَن ناقلي الْأَخْبَار فَأُرِيد أَن أسمع مِنْك خَبرا أتشرف بِهِ فِي الدُّنْيَا وأجعله ذخيرة فِي الْآخِرَة
فَقَالَ لي يَا شيخ وسماني شَيخا وخاطبني بِهِ وَكَانَ الشَّيْخ يفرح بِهَذَا وَيَقُول سماني رَسُول الله صلى الله عليه وسلم شَيخا
قَالَ الشَّيْخ ثمَّ قَالَ لي صلى الله عليه وسلم من أَرَادَ السَّلامَة فليطلبها فِي سَلامَة غَيره
قلت وَمثل هَذِه الْحِكَايَة حِكَايَة شَيْخه القَاضِي أبي الطّيب فِي رُؤْيَاهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَام وتسميته إِيَّاه فَقِيها وَكَانَ القَاضِي أَيْضا يفتخر بذلك
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق يَقُول من قَرَأَ عَليّ مَسْأَلَة فَهُوَ وَلَدي
وَيَقُول الْعَوام ينسبون بالأولاد والأغنياء بالأموال وَالْعُلَمَاء بِالْعلمِ
وَكَانَ يَقُول الْعلم الَّذِي لَا ينْتَفع بِهِ صَاحبه أَن يكون الرجل عَالما وَلَا يكون عَاملا
وينشد لنَفسِهِ
(علمت مَا حلل الْمولى وَحرمه
…
فاعمل بعلمك إِن الْعلم بِالْعَمَلِ)
وَكَانَ يَقُول الْجَاهِل بالعالم يَقْتَدِي فَإِذا كَانَ الْعَالم لَا يعْمل بِعِلْمِهِ فالجاهل مَا يَرْجُو من نَفسه فَالله الله يَا أَوْلَادِي نَعُوذ بِاللَّه من علم يصير حجَّة علينا
وَكَانَ يمشي بعض أَصْحَابه مَعَه فِي طَرِيق فَعرض لَهما كلب فَقَالَ الْفَقِيه لذَلِك الْكَلْب اخْسَأْ وزجره فَنَهَاهُ الشَّيْخ وَقَالَ لم طردته عَن الطَّرِيق أما علمت أَن الطَّرِيق بيني وَبَينه مُشْتَرك
ومنام الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن نصر بن كاكا المؤيدي مَشْهُور وَهُوَ مَا ذكره فَقَالَ رَأَيْت فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة لَيْلَة الْجُمُعَة الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق طول الله عمره فِي مَنَامِي يطير مَعَ أَصْحَابه فِي السَّمَاء الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة فتحيرت فِي نَفسِي وَقلت هَذَا هُوَ الشَّيْخ الإِمَام مَعَ أَصْحَابه يطير وَأَنا مَعَهم استعظاما لتِلْك الْحَال والرؤية فَكنت فِي هَذِه الفكرة إِذْ تلقى الشَّيْخ
الإِمَام ملك وَسلم عَلَيْهِ عَن الله تبارك وتعالى وَقَالَ لَهُ إِن الله تبارك وتعالى يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول مَاذَا تدرس لأصحابك فَقَالَ الشَّيْخ أدرس مَا نقل عَن صَاحب الشَّرْع
فَقَالَ لَهُ الْملك فاقرأ عَليّ شَيْئا من ذَلِك لأسمعه
فَقَرَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخ مَسْأَلَة لَا أذكرها
فاستمع لَهُ الْملك وَانْصَرف
وَأخذ الشَّيْخ يطير وَأَصْحَابه مَعَه فَرجع الْملك بعد سَاعَة وَقَالَ للشَّيْخ إِن الله تَعَالَى يَقُول الْحق مَا أَنْت عَلَيْهِ وَأَصْحَابك فَادْخُلْ الْجنَّة مَعَهم
وَكَانَ الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ بن حَامِد الشَّاشِي يَقُول الشَّيْخ الشِّيرَازِيّ حجَّة الله على أَئِمَّة الْعَصْر
وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ صَاحب الْحَاوِي وَقد اجْتمع بالشيخ وَسمع كَلَامه فِي مَسْأَلَة مَا رَأَيْت كَأبي إِسْحَاق لَو رَآهُ الشَّافِعِي لتجمل بِهِ
وَقَالَ الْمُوفق الْحَنَفِيّ إِمَام أَصْحَاب الرَّأْي أَبُو إِسْحَاق إِمَام الْمُؤمنِينَ فِي الْفُقَهَاء
وَكَانَ عميد الدولة بن جهير الْوَزير يَقُول هُوَ وحيد عصره وفريد دهره مستجاب الدعْوَة
وَقَالَ القَاضِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماهاني إمامان مَا اتّفق لَهما الْحَج الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وقاضي الْقُضَاة أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق مَا كَانَ لَهُ استطاعة الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَكِن لَو أَرَادَ الْحَج لحملوه على الأحداق إِلَى مَكَّة والدامغاني لَو أَرَادَ أَن يحجّ على السندس والإستبرق لأمكنه ذَلِك
وَكَانَ الشَّيْخ إِذا أَخطَأ بَين يَدَيْهِ المباحث فِي كلمة قَالَ أَي سكتة فاتتك وَرُبمَا تكلم فِي مَسْأَلَة فَسَأَلَهُ السَّائِل سؤالا غير مُتَوَجّه فَيَقُول
(سَارَتْ مشرقة وسرت مغربا
…
شتان بَين مشرق ومغرب)
قَالَ أَبُو البركات عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك الْأنمَاطِي كَانَ الشَّيْخ يتَوَضَّأ فِي الشط فَنزل المشرعة يَوْمًا وَكَانَ يشك فِي غسل وَجهه ويكرر حَتَّى غسل نوبا عدَّة فوصل إِلَيْهِ بعض الْعَوام وَقَالَ لَهُ يَا شيخ أما تَسْتَحي تغسل وَجهك كَذَا وَكَذَا نوبَة وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (من زَاد على الثَّلَاث فقد أسرف) فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ لَو صَحَّ لي الثَّلَاث مَا زِدْت عَلَيْهَا
فَمضى وخلاه فَقَالَ لَهُ وَاحِد أيش قلت لذَلِك الشَّيْخ الَّذِي كَانَ يتَوَضَّأ فَقَالَ الرجل ذَاك شيخ موسوس قلت لَهُ كَذَا على كَذَا
فَقَالَ لَهُ يَا رجل أما تعرفه فَقَالَ لَا
قَالَ ذَاك إِمَام الدُّنْيَا وَشَيخ الْمُسلمين ومفتي أَصْحَاب الشَّافِعِي
فَرجع ذَلِك الرجل خجلا إِلَى الشَّيْخ وَقَالَ يَا سَيِّدي تعذرني فَإِنِّي قد أَخْطَأت وَمَا عرفتك
فَقَالَ الشَّيْخ الَّذِي قلت صَحِيح فَإِنَّهُ لَا يجوز الزِّيَادَة على الثَّلَاث وَالَّذِي أَجَبْتُك بِهِ أَيْضا صَحِيح لَو صَحَّ لي الثَّلَاث مَا زِدْت عَلَيْهَا
كتب إِلَيّ أَحْمد بن أبي طَالب عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْحَافِظ أَن عبد الْوَهَّاب بن عَليّ أنبأه عَن أبي صَالح عبد الصَّمد بن عَليّ الْفَقِيه أَن أَبَا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن