الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ فِيهِ عبد الغافر الْفَقِيه الإِمَام فَاضل جليل نبيه ثِقَة أَمِين من أَرْكَان فُقَهَاء أَصْحَاب الشَّافِعِي
درس الْفِقْه على أبي بكر الطوسي قَدِيما
قَالَ وسافر إِلَى الْعرَاق وَحج مَعَ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وزين الْإِسْلَام يَعْنِي الْقشيرِي أَبَا الْقَاسِم وَالْبَيْهَقِيّ
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ كَانَ شَيخا فَقِيها حسن السِّيرَة صَالحا دينا كثير السماع وَالرِّوَايَة ثِقَة صَدُوقًا
سمع أَبَا الطّيب سهل بن مُحَمَّد الصعلوكي وَالْقَاضِي أَبَا عمر البسطامي وَالشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَأَبا بكر الْحِيرِي وخلائق
وَذكر عبد الغافر أَن مولده سنة سبع وَتِسْعين وثلاثمائة وَذكر غَيره أَنه ولد سنة خمس وَتِسْعين
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَالْأول أشبه
قَالَ وَسمعت أَبَا الْحسن عَليّ بن جَعْفَر الْكَاتِب يَقُول يُقَال إِنَّه توفّي سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
367 - إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم ابْن عَامر بن عَابِد شيخ الْإِسْلَام أَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي
الْفَقِيه الْمُحدث الْمُفَسّر الْخَطِيب الْوَاعِظ الْمَشْهُور الِاسْم الملقب بشيخ الْإِسْلَام لقبه أهل السّنة فِي بِلَاد خُرَاسَان فَلَا يعنون عِنْد إِطْلَاقهم هَذِه اللَّفْظَة غَيره
وَأما المجسمة بِمَدِينَة هراة فَلَمَّا ثارت نُفُوسهم من هَذَا اللقب عَمدُوا إِلَى أبي إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ صَاحب كتاب ذمّ الْكَلَام فلقبوه بشيخ الْإِسْلَام وَكَانَ الْأنْصَارِيّ الْمشَار إِلَيْهِ رجلا كثير الْعِبَادَة مُحدثا إِلَّا أَنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه وينال من أهل السّنة وَقد بَالغ فِي كِتَابه ذمّ الْكَلَام حَتَّى ذكر أَن ذَبَائِح الأشعرية لَا تحل وَكنت أرى الشَّيْخ الإِمَام يضْرب على مَوَاضِع من كتاب ذمّ الْكَلَام وَينْهى عَن النّظر فِيهِ
وللأنصاري أَيْضا كتاب الْأَرْبَعين سمتها أهل الْبِدْعَة الْأَرْبَعُونَ فِي السّنة يَقُول فِيهَا بَاب إِثْبَات الْقدَم لله بَاب إِثْبَات كَذَا وَكَذَا
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ لَا يسْتَحق هَذَا اللقب وَإِنَّمَا لقب بِهِ تعصبا وتشبيها لَهُ بِأبي عُثْمَان وَلَيْسَ هُوَ هُنَاكَ
وَكَانَ أهل هراة فِي عصره فئتين فِئَة تعتقده وتبالغ فِيهِ لما عِنْده من التقشف والتعبد وَفِئَة تكفره لما يظهره من التَّشْبِيه
وَمن مصنفاته الَّتِي فوقت نَحوه سِهَام أهل الْإِسْلَام كتاب ذمّ الْكَلَام وَكتاب الْفَارُوق فِي الصِّفَات وَكتاب الْأَرْبَعين وَهَذِه الْكتب الثَّلَاثَة أبان فِيهَا عَن اعْتِقَاد التَّشْبِيه وأفصح
وَله قصيدة فِي الِاعْتِقَاد تنبىء عَن العظائم فِي هَذَا الْمَعْنى وَله أَيْضا كتاب منَازِل السائرين فِي التصوف
وَكَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس ابْن تَيْمِية مَعَ ميله إِلَيْهِ يضع من هَذَا الْكتاب أَعنِي منَازِل السائرين
قَالَ شَيخنَا الذَّهَبِيّ وَكَانَ يَرْمِي أَبَا إِسْمَاعِيل بالعظائم بِسَبَب هَذَا الْكتاب وَيَقُول إِنَّه مُشْتَمل على الِاتِّحَاد
قلت والأشاعرة يرمونه بالتشبيه وَيَقُولُونَ إِنَّه كَانَ يلعن شيخ السّنة أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَأَنا لَا أعتقد فِيهِ أَنه يعْتَقد الِاتِّحَاد وَإِنَّمَا أعتقد أَنه يعْتَقد التَّشْبِيه وَأَنه ينَال من الأشاعرة وَأَن ذَلِك بجهله بِعلم الْكَلَام وبعقيدة الأشعرية فقد رَأَيْت أَقْوَامًا أَتَوا من ذَلِك
وَكَانَ شَدِيد التعصب للْفرق الحنبلية بِحَيْثُ كَانَ ينشد على الْمِنْبَر على مَا حكى عَنهُ تِلْمِيذه مُحَمَّد بن طَاهِر
(أَنا حنبلي مَا حييت وَإِن أمت
…
فوصيتي للنَّاس أَن يتحنبلوا)
وَترك الرِّوَايَة عَن شَيْخه القَاضِي أبي بكر الْحِيرِي لكَونه أشعريا وكل هَذَا تعصب زَائِد برأنا الله من الْأَهْوَاء
وَذكر أبي إِسْمَاعِيل خَارج عَن غَرَض هَذَا الْكتاب فَإِنَّمَا أردنَا أَن ننبه على الْفرق بَينه وَبَين شيخ الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة أبي عُثْمَان نترجمه الْآن فلنعد إِلَى تَرْجَمته فَنَقُول ذكره عبد الغافر فِي السِّيَاق فَقَالَ هُوَ الْأُسْتَاذ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام أَبُو عُثْمَان الْخَطِيب الْمُفَسّر الْمُحدث الْوَاعِظ أوحد وقته فِي طَرِيقَته وعظ الْمُسلمين فِي مجَالِس التَّذْكِير سبعين سنة وخطب وَصلى فِي الْجَامِع يَعْنِي بنيسابور نَحوا من عشْرين سنة
ثمَّ قَالَ ورزق الْعِزّ والجاه فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَكَانَ جمالا للبلد زينا للمحافل والمجالس مَقْبُولًا عِنْد الْمُوَافق والمخالف مجمعا على أَنه عديم النظير وَسيف السّنة ودافع الْبِدْعَة
وَهُوَ النسيب المعم المخول المدلي من جِهَة الأمومة إِلَى الْحَنَفِيَّة والفضلية والشيبانية والقرشية والتميمية والمزنية والضبية من الشّعب النَّازِلَة إِلَى الشَّيْخ أبي سعد يحيى بن مَنْصُور بن حسنويه السّلمِيّ الزَّاهِد الْأَكْبَر على مَا هُوَ مَشْهُور من أنسابهم عِنْد جمَاعَة من العارفين بالأنساب لِأَنَّهُ أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن زين الْبَيْت ابْنة الشَّيْخ أبي سعد الزَّاهِد بن أَحْمد بن مَرْيَم بنت أبي سعد الْأَكْبَر الزَّاهِد
وَأما من جِهَة الْأَب فَهُوَ الأَصْل الَّذِي لَا يحْتَاج نسبه إِلَى زِيَادَة فَقَالَ وَكَانَ أَبوهُ أَبُو نصر من كبار الواعظين بنيسابور ففتك بِهِ لأجل التعصب وَالْمذهب وقلد الْأمة صَبيا بعد حول سبع سِنِين فاستدعى أَن يذكر صَبيا دعِي للختم على رَأس قبر أَبِيه كل يَوْم وأقعد بِمَجْلِس الْوَعْظ مقَام أَبِيه وَحضر أَئِمَّة الْوَقْت مجالسه
وَأخذ الإِمَام أَبُو الطّيب سهل بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الصعلوكي فِي تَرْبِيَته وتهيئة أَسبَابه وترتيب حشمته ونوبه وَكَانَ يحضر مجالسه ويثني عَلَيْهِ مَعَ تكبره فِي نَفسه وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَئِمَّة كالأستاذ الإِمَام أبي إِسْحَاق الإسفرايني والأستاذ أبي بكر بن فورك وَسَائِر الْأَئِمَّة كَانُوا يحْضرُون مجْلِس تذكيره ويتعجبون من كَمَال ذكائه وعقله وَحسن إِيرَاده الْكَلَام عربيه وفارسيه وَحفظه الْأَحَادِيث حَتَّى كبر وَبلغ مبلغ الرِّجَال وَقَامَ مقَام أسلافه فِي جَمِيع مَا كَانَ إِلَيْهِم من النوب
وَلم يزل يرْتَفع شَأْنه حَتَّى صَار إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ من الحشمة التَّامَّة والجاه العريض وَهُوَ فِي جَمِيع أوقاته مشتغل بِكَثْرَة الْعِبَادَات ووظائف الطَّاعَات بَالغ فِي العفاف والسداد وصيانة النَّفس مَعْرُوف بِحسن الصَّلَاة وَطول الْقُنُوت واستشعار الهيبة حَتَّى كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي ذَلِك
وَكَانَ مُحْتَرما للْحَدِيث ولثبت الْكتب
قَرَأت من خطّ الْفَقِيه أبي سعيد السكرِي أَنه حكى عَن بعض من يوثق بقوله من الصَّالِحين أَن شيخ الْإِسْلَام قَالَ مَا رويت خَبرا وَلَا أثرا فِي الْمجْلس إِلَّا وَعِنْدِي إِسْنَاده وَمَا دخلت بَيت الْكتب قطّ إِلَّا على طَهَارَة وَمَا رويت الحَدِيث وَلَا عقدت الْمجْلس وَلَا قعدت للتدريس قطّ إِلَّا على الطَّهَارَة
وَقَالَ مُنْذُ صَحَّ عِنْدِي أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يقْرَأ بِسُورَة الْجُمُعَة وَالْمُنَافِقِينَ فِي رَكْعَتي صَلَاة الْعشَاء لَيْلَة الْجُمُعَة مَا تركت قراءتهما فيهمَا
قَالَ وَقد كنت فِي بعض الْأَسْفَار المخوفة وَكَانَ أَصْحَابِي يفرقون من اللُّصُوص وقطاع الطَّرِيق وَيُنْكِرُونَ على فِي التَّطْوِيل بِقِرَاءَة السورتين وَغير ذَلِك فَلم أمتنع عَن ذَلِك وَلم أنقص شَيْئا مِمَّا كنت أواظب عَلَيْهِ فِي الْحَضَر فتولانا الله بحفظه وَلم تلحقنا آفَة
وقرأت من خطّ السكرِي أَيْضا قَالَ قَرَأت فِي كتاب كتبه الإِمَام سهل الصعلوكي إِلَى زَاهِر بن أَحْمد الإِمَام بسرخس حِين قصد الْأُسْتَاذ الإِمَام إِسْمَاعِيل أَن يرحل إِلَيْهِ لسَمَاع الحَدِيث فِي صباه بعد مَا قتل أَبوهُ شَهِيدا وَفِي الْكتاب بعد الْخطاب وَإِذا عدت الْأَحْدَاث الَّتِي كَانَت فِي هَذِه السنين الخالية قطارا أَرْسَالًا ومتصلة اتِّصَالًا ومتوالية حَالا فحالا كَانَ أعظمها نكاية فِي الدّين وَجِنَايَة عَلَيْهِ مَا جرى من الفتك بِأبي نصر الصَّابُونِي رحمه الله نَهَارا وَالْمَكْر الَّذِي مكر بِهِ كبارًا كَمَا إِذا عدت غرائب الْوَقْت وعجائبه فِي الْحسن كَانَ بولده الْوَلَد الْفَقِيه أبي عُثْمَان إِسْمَاعِيل أدام الله بقاه وسلامته الِابْتِدَاء وبذكره الِافْتِتَاح فَإِنَّهُ بلغ وَلم يبلغ بِالسِّنِّ مَا تقصر عَنهُ الأمنية والاقتراح من التدبر والتعلم والوجاهة والتقدم على التحفظ
والتورع والتيقظ وَقد كَانَ فِي نَفسه لذكائه وكيسه وفطنته وهدايته وعقله الرحلة إِلَى الشَّيْخ فَذكر فصلا فِيهِ ثمَّ قَالَ وَلَا نشك أَنه يُصَادف مِنْهُ فِي الْإِكْرَام والتقديم والتعظيم مَا يَلِيق بصفاته وإنجابه ودرجاته وَأَنا شريك فِي الامتنان لذَلِك كُله وراغب فِي تَعْجِيل إصداره إِلَى مَوْضِعه ومكانه فِي عمَارَة الْعلم بقعوده للتذكير والتبصير وَمَا يحصل بِهِ من النَّفْع الْكثير فَإِن الرُّجُوع لغيبته شَدِيد والاقتضاء بِالْعُمُومِ لعوده أكيد وَالسَّلَام
وَذكر عَن الشَّيْخ أَحْمد الْبَيْهَقِيّ أَنه قَالَ عهدي بالحاكم الإِمَام أبي عبد الله مَعَ تقدمه فِي السن وَالْحِفْظ والإتقان أَنه يقوم للأستاذ عِنْد دُخُوله إِلَيْهِ ويخاطبه بالأستاذ الأوحد وينشر علمه وفضله وَيُعِيد كَلَامه فِي وعظه مُتَعَجِّبا من حسنه معتدا بِكَوْنِهِ من أَصْحَابه
قَالَ السكرِي وَرَأَيْت كتاب الْأُسْتَاذ الإِمَام أبي إِسْحَاق الإسفرايني الَّذِي كتبه بِخَطِّهِ وخاطبه بالأستاذ الْجَلِيل سيف السّنة وَفِي كتاب آخر غيظ أهل الزيغ
وَحكى الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الصَّيْرَفِي الْمُتَكَلّم أَن الإِمَام أَبَا بكر بن فورك كَانَ رَجَعَ عَن مَجْلِسه يَوْمًا فَقَالَ تعجبت الْيَوْم من كَلَام هَذَا الشَّاب تكلم بِكَلَام مهذب عذب بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية
وَحكى عَن الشَّيْخ الإِمَام سهل أَيْضا أَنه كَانَ يَقُول لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أبي سرايخ براتيش است بيش است
قَرَأت بِخَط السكرِي أَن الْأُسْتَاذ أَبَا عُثْمَان كَانَ يتَكَلَّم بَين يَدي الإِمَام سهل
الصعلوكي وَكَانَ ينحرف بِوَجْهِهِ عَن جَانِبه فصاح بِهِ الإِمَام سهل استقبلني واترك الانحراف عني
فَقَالَ إِنِّي أستحيي أَن أَتكَلّم فِي حر وَجهك
فَقَالَ الإِمَام سهل انْظُرُوا إِلَى عقله
وَلَقَد أَكثر الْأَئِمَّة الثَّنَاء عَلَيْهِ وَلذَلِك مدحه الشُّعَرَاء فِي صباه إِلَى وَقت شبابه ومشيبه بِمَا يطول ذكره فَمن ذَلِك مَا قَالَ فِيهِ بعض من ذكر من أَئِمَّة الْأَصْحَاب
(بَينا الْمُهَذّب إِسْمَاعِيل أرجحهم
…
علما وحلما وَلم يبلغ مدى الْحلم)
وَكتب أَبُو المظفر الجُمَحِي إِلَيْهِ بعد أَن سمع خطبَته بِهَذِهِ الأبيات
(أستدفع الله عَنهُ آفَة الْعين
…
وَكم قَرَأت عَلَيْهِ آيَة الْعين)
(الْعلم يفخر والآداب فاخرة
…
منيرة يَهْتَدِي فِيهَا ذَوُو الشين)
(لَو عَاد سحبان حَيا قَالَ من عجب
…
عين الْإِلَه على عين الْفَرِيقَيْنِ)
(قد كَانَ ديني على إتْمَام رُؤْيَته
…
لما رَأَيْت محياه قضي ديني)
(قل للَّذي زانه علم وَمَعْرِفَة
…
كم للعلوم بِإِسْمَاعِيل من زين)
وَقَالَ فِيهِ البارع الزوزني
(مَاذَا اخْتِلَاف النَّاس فِي متفنن
…
لم يبصروا للقدح فِيهِ سَبِيلا)
(وَالله مَا رقي المنابر خَاطب
…
أَو واعظ كالحبر إسماعيلا)
وَلَقَد عَاشَ عَيْشًا حميدا بعد مَا قتل أَبوهُ شَهِيدا إِلَى آخر عمره فَكَانَ من قَضَاء الله تَعَالَى أَنه كَانَ يعْقد الْمجْلس فِيمَا حَكَاهُ الْأَثْبَات والثقات يَوْم الْجُمُعَة فِي جَانب
الْحُسَيْن على الْعَادة المألوفة مُنْذُ نَيف وَسِتِّينَ سنة ويعظ النَّاس فَبَالغ فِيهِ وَدفع إِلَيْهِ كتاب ورد من بُخَارى مُشْتَمل على ذكر وباء عَظِيم وَقع بهَا واستدعي فِيهِ أَغْنِيَاء الْمُسلمين بِالدُّعَاءِ على رُءُوس الأملاء فِي كشف ذَلِك الْبلَاء عَنْهُم وَوصف فِيهِ أَن وَاحِدًا تقدم إِلَى خباز يَشْتَرِي الْخبز فَدفع الدَّرَاهِم إِلَى صَاحب الْحَانُوت فَكَانَ يزنها والخباز يخبز وَالْمُشْتَرِي وَاقِف فَمَاتَ الثَّلَاثَة فِي الْحَال فَاشْتَدَّ الْأَمر على عَامَّة النَّاس
فَلَمَّا قَرَأَ الْكتاب هاله ذَلِك واستقرأ من القارىء قَوْله تَعَالَى {أفأمن الَّذين مكروا السَّيِّئَات أَن يخسف الله بهم الأَرْض} ونظائرها وَبَالغ فِي التخويف والتحذير وَأثر فِيهِ ذَلِك وَتغَير فِي الْحَال وغلبه وجع الْبَطن من سَاعَته وَأنزل من الْمِنْبَر فَكَانَ يَصِيح من الوجع وَحمل إِلَى الْحمام إِلَى قريب من غرُوب الشَّمْس فَكَانَ يتقلب ظهرا لبطن ويصيح ويئن فَلم يسكن مَا بِهِ فَحمل إِلَى بَيته وَبَقِي فِيهِ سِتَّة أَيَّام لم يَنْفَعهُ علاج
فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس سَابِع مَرضه ظَهرت آثَار سكر الْمَوْت عَلَيْهِ وودع أَوْلَاده وأوصاهم بِالْخَيرِ ونهاهم عَن لطم الخدود وشق الْجُيُوب والنياحة وَرفع الصَّوْت بالبكاء
ثمَّ دَعَا بالمقرىء أبي عبد الله خاصته حَتَّى قَرَأَ سُورَة يس وَتغَير حَاله وطاب وقته وَكَانَ يعالج سَكَرَات الْمَوْت إِلَى أَن قَرَأَ إِسْنَادًا فِيهِ مَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (من كَانَ آخر كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة) ثمَّ توفّي من سَاعَته عصر يَوْم الْخَمِيس وحملت جنَازَته من الْغَد عصر يَوْم الْجُمُعَة إِلَى ميدان الْحُسَيْن الرَّابِع من الْمحرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَاجْتمعَ من الْخَلَائق مَا الله أعلم بعددهم وَصلى عَلَيْهِ ابْنه أَبُو بكر ثمَّ أَخُوهُ أَبُو يعلى ثمَّ نقل إِلَى مشْهد أَبِيه فِي سكَّة حَرْب وَدفن بَين يَدي أَبِيه
وَكَانَ مولده سنة ثَلَاث وَسبعين وثلاثمائة وَكَانَ وَفَاته طاعنا فِي سنة سبع وَسبعين من سنته
وَسمعت الإِمَام خَالِي أَبَا سعيد يذكر مَجْلِسه فِي موسم من ذَلِك الْعَام على مَلأ عَظِيم من الْخلق وَأَنه يَصِيح بِصَوْت عَال مرَارًا وَيَقُول لنَفسِهِ يَا إِسْمَاعِيل هفتا دوهفت هفتا دو هفت بِالْفَارِسِيَّةِ فَلم يَأْتِ عَلَيْهِ إِلَّا أَيَّام قَلَائِل ثمَّ توفّي لِأَنَّهُ كَانَ يذكر الْمَشَايِخ الَّذين مَاتُوا فِي هَذِه السن من أعمارهم
ثمَّ قَرَأت فِي المنامات الَّتِي رؤيت لَهُ فِي حَيَاته وَبعد مماته أَجزَاء لَو حكيتها لطال النَّفس فِيهَا فأقتصر على شَيْء من ذَلِك وَمن جملَته مَا حَكَاهُ الْفَقِيه أَبُو المحاسن بن الشَّيْخ أبي الْحسن الْقطَّان فِي عزاء شيخ الْإِسْلَام أَنه رأى فِي النّوم كَأَنَّهُ فِي خَان الْحسن وَشَيخ الْإِسْلَام على الْمِنْبَر مُسْتَقْبل الْقبْلَة يذكر النَّاس إِذْ نعس نعسة ثمَّ انتبه وَقَالَ نَعَست نعسة فَلَقِيت رَبِّي ورحمني ورحم أَهلِي ورحم من شيعني
وَحكى الثِّقَات عَن المقرىء أبي عبد الله الْمَخْصُوص بِهِ أَنه رأى قبيل مرض شيخ الْإِسْلَام كَأَن منبره خَال عَنهُ وَقد أحدق النَّاس بالمقرىء ينتظرون قِرَاءَته فجَاء على لِسَانه {وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم} الْآيَة
قَالَ فانتبهت وَلم أر أحدا فَمَا مَضَت إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى بَدَأَ مَرضه وَتُوفِّي مِنْهُ
وَحكى بعض الصَّالِحين أَنه رأى أَبَا بكر بن أبي نصر الْمُفَسّر الْحَنَفِيّ جَالِسا على كرْسِي وَبِيَدِهِ جُزْء يَقْرَؤُهُ فَسَأَلَهُ عَمَّا فِيهِ فَقَالَ إِذا احْتَاجَ الْمَلَائِكَة إِلَى الْحَج وزيارة بَيت الله الْعَتِيق جَاءُوا إِلَى زِيَارَة قبر إِسْمَاعِيل الصَّابُونِي
وقرأت من خطّ الْفَقِيه أبي سعد السكرِي أَنه حكى عَن السَّيِّد أبي إِبْرَاهِيم بن أبي الْحسن بن ظفر الْحُسَيْنِي أَنه قَالَ رَأَيْت فِي النّوم السَّيِّد النَّقِيب زيد بن أبي الْحسن بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وَبَين يَدَيْهِ طبق عَلَيْهِ من الْجَوَاهِر مَا شَاءَ الله فَسَأَلته فَقَالَ أتحفت بِهَذَا مِمَّا نثر على روح إِسْمَاعِيل الصَّابُونِي
وَحكى المقرىء مُحَمَّد بن عبد الحميد الأبيوردي الرجل الصَّالح عَن الإِمَام فَخر الْإِسْلَام أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ أَنه رأى فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ قيل لَهُ عد عقائد أهل الْحق
قَالَ فَكنت أذكرها إِذْ سَمِعت نِدَاء كَانَ مفهومي مِنْهُ أَنى أسمعهُ من الْحق تبارك وتعالى يَقُول ألم نقل إِن ابْن الصَّابُونِي رجل مُسلم
وقرأت أَيْضا من خطّ السكرِي حِكَايَة رُؤْيا رَآهَا الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الشقاني واستدعى مِنْهُ شيخ الْإِسْلَام أَن يَكْتُبهَا فَكتب يَقُول أَحْمد بن مُحَمَّد الحسنوي لَوْلَا امْتنَاع خروجي عَن طَاعَة الْأُسْتَاذ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام لوُجُوبهَا عَليّ لم أكن لأحكي شَيْئا من هَذِه الرُّؤْيَا هَيْبَة لَهَا لما فِيهَا مِمَّا لَا أستجيز ذكرهَا فرقا مِنْهَا ثمَّ ذكر زيارته لتربة الإِمَام مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة يَوْمًا وَأَنه طَابَ وقته عِنْدهَا فَرجع إِلَى بَيته ونام وَقت الهاجرة فَرَأى الْحق تبارك وتعالى فِي مَنَامه ذكر الإِمَام بِمَا قَالَ وَلم يحك ذَلِك ثمَّ عقب ذَلِك بِحَدِيث الْأُسْتَاذ الإِمَام وَذكر أَشْيَاء نسيت بَعْضهَا وَالَّذِي أذكر مِنْهَا أَنه قَالَ وَأما ابْن ذَلِك الْمَظْلُوم فَإِن لَهُ عندنَا قرى ونعمى وزلفى
إِلَى آخر مَا كَانَ مِنْهُ
ثمَّ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس كتبته وَحقّ الْحق لِحُرْمَتِهِ وَطَاعَة لأَمره
وقرأت من خطّ قديم مَعْرُوف أَنه حُكيَ عَن يَهُودِيّ أَنه قَالَ اغتممت لوفاة أبي نصر الصَّابُونِي وَقَتله فاستغفرت لَهُ ونمت فرأيته فِي الْمَنَام وَعَلِيهِ ثِيَاب خضر مَا رَأَيْت مثلهَا قطّ وَهُوَ جَالس على كرْسِي بَين يَدَيْهِ جمَاعَة كَثِيرَة من الْمَلَائِكَة وَعَلَيْهِم ثِيَاب خضر فَقلت يَا أستاذ أَلَيْسَ قد قتلوك قَالَ فعلوا بِي مَا رَأَيْت
فَقلت مَا فعل بك رَبك
قَالَ يَا أَبَا حوايمرد كلمة بِالْفَارِسِيَّةِ لمثلي يُقَال هَذَا غفر لي وَغفر لمن صلى عَليّ كَبِيرهمْ وصغيرهم وَمن يكون على طريقي
قلت أما أَنا فَلم أصل عَلَيْك
قَالَ لِأَنَّك لم تكن على طريقي
فَقلت إيش أفعل لأَكُون على طريقك فَقَالَ قل أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله
فَقلت ذَلِك ثمَّ قلت أَنا مَوْلَاك
قَالَ لَا أَنْت مولى الله
قَالَ فانتبهت فجَاء من عِنْده إِلَى قَبره وَذكر مَا رأى فِي الْمَنَام وَقَالَ أَنا مَوْلَاهُ وَأسلم عِنْد قَبره وَلم يَأْخُذ شَيْئا من أحد وَقَالَ إِنِّي غَنِي أسلمت لوجه الله لَا لوجه المَال
وَحكى أَبُو سهل بن هَارُون قَالَ قَالَ أَبُو بكر الصيدلاني وَكَانَ من الصَّالِحين كنت حَاضرا قَبره حِين جَاءَ الْيَهُودِيّ فَأسلم
وقرأت من مَضْمُون كتاب كتبه الإِمَام زين الْإِسْلَام من طوس فِي تَعْزِيَة شيخ الْإِسْلَام أبي عُثْمَان فصولا كتبت مِنْهَا هَذِه الْكَلِمَات اختصارا يَا لَيْلَة فَتْرَة الشَّرِيعَة ليتك ترى الإصباح وَيَا محنة أهل السّنة أنخت بكلكلك لَعَلَّه لَا براح وَيَا مِعْرَاج السَّمَاء لَيْت شعري كَيفَ حالك وَقد خلوت من صواعد دعوات مجْلِس شيخ الْإِسْلَام وَيَا ضلة الْإِسْلَام لَوْلَا أَنَّك مَحْكُوم لَك بالدوام لقلنا فنيت عَن كل النظام وَيَا أَصْحَاب المحابر حطوا رحالكُمْ فقد استتر بخلال التُّرَاب من كَانَ عَلَيْهِ إلمامكم وَيَا أَرْبَاب المنابر أعظم الله أجوركم
فَلَقَد مضى سيدكم وإمامكم
(وَقَالُوا الإِمَام قضى نحبه
…
وصيحة من قد نعاه علت)
(فَقلت فَمَا وَاحِد قد مضى
…
وَلكنه أمة قد خلت)
وَفِيه فِي فصل آخر أَلَيْسَ لم يَجْسُر مفتر أَن يكذب على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي وقته أليست السّنة كَانَت بمكانة منصورة والبدعة لفرط حشمته مقهورة أَلَيْسَ كَانَ دَاعيا إِلَى الله هاديا عباد الله شَابًّا لَا صبوة لَهُ ثمَّ كهلا لَا كبوة لَهُ ثمَّ شَيخا لَا هفوة لَهُ أَلَيْسَ دموع أُلُوف من الْمُسلمين كل مجْلِس بِذكرِهِ كَانَت تتبرج وَقُلُوبهمْ بتأثير وعظة كَانَت تتوهج ترى أَن الْمَلَائِكَة لم يؤمروا باستقباله والأنبياء وَالصديقين لم يستبشروا بقدومه عَلَيْهِم وإقباله
قلت وَلما انْقَلب إِلَى رَحْمَة الله كثرت فِيهِ الْمرَائِي والأشعار وَكَانَت حَاله كَمَا قيل
(لقد حسنت فِيك المراثي وَذكرهَا
…
كَمَا حسنت من قبل فِيك المدائح)
وَمن أحسن مَا قيل فِيهِ مَا كتبته بهراة فِي مرثيته للْإِمَام جمال الْإِسْلَام أبي الْحسن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الداوودي البوشنجي حَيْثُ يَقُول
(أودى الإِمَام الحبر إِسْمَاعِيل
…
لهفي عَلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْهُ بديل)
(بَكت السما وَالْأَرْض يَوْم وَفَاته
…
وَبكى عَلَيْهِ الْوَحْي والتنزيل)
(وَالشَّمْس وَالْقَمَر الْمُنِير تناوحا
…
حزنا عَلَيْهِ وللنجوم عويل)
(وَالْأَرْض خاشعة تبْكي شجوها
…
ويلي تولول أَيْن إِسْمَاعِيل)
(أَيْن الإِمَام الْفَرد فِي آدابه
…
مَا إِن لَهُ فِي الْعَالمين عديل)
(لَا تخدعنك مني الْحَيَاة فَإِنَّهَا
…
تلهي وتنسي والمنى تضليل)
(وتأهبن للْمَوْت قبل نُزُوله
…
فالموت حتم والبقاء قَلِيل)
هَذَا كَلَام عبد الغافر وَقد اشْتَمَل من تَرْجَمَة شيخ الْإِسْلَام على مَا فِيهِ مقنع وبلاغ
ذكره أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ أَيْضا وَأَطْنَبَ فِي وَصفه وَقَالَ زرت قَبره مَا لَا أحصيه كَثْرَة وَرَأَيْت أثر الْإِجَابَة لكل دُعَاء دَعوته ثمَّ
وَذكره الإِمَام الرَّافِعِيّ فِي كتاب الأمالي
وَقَالَ نشر الْعلم إملاء وتصنيفا وتذكيرا واستفاد مِنْهُ النَّاس على اخْتِلَاف طبقاتهم
قلت وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ مجمعا على دينه وسيادته وَعلمه لَا يخْتَلف عَلَيْهِ أحد من الْفرق
وَقد حدث عَنهُ الْبَيْهَقِيّ وَهُوَ من أقرانه وَقَالَ فِيهِ إِنَّه إِمَام الْمُسلمين حَقًا وَشَيخ الْإِسْلَام صدقا وَأهل عصره كلهم مذعنون لعلو شَأْنه فِي الدّين والسيادة وَحسن الِاعْتِقَاد وَكَثْرَة الْعلم وَلُزُوم طَريقَة السّلف
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْمَالِكِي أَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي مِمَّن شهِدت لَهُ أَعْيَان الرِّجَال بالكمال فِي الْحِفْظ وَالتَّفْسِير وَغَيرهمَا حدث عَن زَاهِر بن أَحْمد
السَّرخسِيّ وَأبي سعيد عبد الله بن مُحَمَّد الرَّازِيّ وَالْحسن بن أَحْمد المخلدي وَأبي بكر ابْن مهْرَان المقرىء وَأبي طَاهِر بن خُزَيْمَة وَأبي الْحُسَيْن الْخفاف وَعبد الرَّحْمَن بن أبي شريخ وَالْحَاكِم أبي عبد الله الْحَافِظ وَأبي بكر مُحَمَّد بن عبد الله الجوزقي وَغَيرهم
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَسمع مِنْهُ عَالم لَا يُحصونَ
قلت مِنْهُم عبد الْعَزِيز الكتاني وَعلي بن الْحسن بن صصرى وَأَبُو الْقَاسِم المصِّيصِي وَنصر الله الخشنامي وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ وَخلق آخِرهم أَبُو عبد الله الفراوي
وَتقدم فِي كَلَام عبد الغافر أَنه توفّي لأَرْبَع لَيَال مضين من الْمحرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَلَو لم يكن فِي تَرْجَمَة هَذَا الرجل إِلَّا مَا حكيناه من قَول الْبَيْهَقِيّ فِيهِ إِنَّه إِمَام الْمُسلمين حَقًا وَشَيخ الْإِسْلَام صدقا لكفى فِي الدّلَالَة على علو شَأْنه فَمَا ظَنك بِمَا تقدم من كَلَام أَئِمَّة عصره
وَبِه قَالَ زين الْإِسْلَام وَكتبه من طوس
وزين الْإِسْلَام الْمشَار إِلَيْهِ لَيْسَ هُوَ فِيمَا أَظن بالغزالي فَإِن الْغَزالِيّ لم يكن ولد هَذَا الزَّمَان وَيبعد أَن يكون كتب كتابا للتعزية فِيهِ