الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
384 - الْحسن بن عَليّ بن إِسْحَاق بن الْعَبَّاس الطوسي
الْوَزير الْكَبِير الْعَالم الْعَادِل أَبُو عَليّ الملقب نظام الْملك
وَزِير غالى الْمُلُوك فِي سَمعتهَا وغالب الضراغم وَكَانَت لَهُ النُّصْرَة مَعَ شدَّة منعتها وضاهى الْخُلَفَاء فِي عطائها وباهى الفراقد فَكَانَ فَوق سمائها
ملك طَائِفَة الْفُقَهَاء بإحسانه وسلك فِي سَبِيل الْبر مَعَهم سَبِيلا لم يعْهَد قبل زَمَانه هُوَ أشهر من بنى لَهُم الْمدَارِس وشيد أركانهم ولولاه خيف أَن يكون كالطلال الدارس
كَانَ جوادا يخجل لَدَيْهِ كل ذِي جبين وضاح ويتنافس على أريج ثنائه مسك اللَّيْل وكافور الصَّباح طمس ذكر من كُنَّا نسْمع فِي المكارم من الْمُلُوك خَبره وغرس فِي الْقُلُوب شجرات إحسانه المثمرة
دولته كلهَا فضل وأيامه جَمِيعهَا عدل وَوَقته وابل بالسماح مغدق ومجلسه بِجَمَاعَة الْعلمَاء صباح مشرق
كل يَوْم من أَيَّامه مِقْدَاره ألف سنة وكل معدلة من أَحْكَامه أنامت الْأَنَام فأمن كل واستطاب وسنه
لَو هدد الدَّهْر بعدله لما تعدى بصروفه وَلَو عرض نداه فِي كل نَاد من الْخُلَفَاء لعرف من بَينهم بمعروفه
إِن جلس بَين الْعلمَاء جلس وَعَلِيهِ سِيمَا الْوَقار وَله من التأدب مَعَهم مَا شهِدت بِهِ فِي التواريخ الْأَخْبَار
يتضاءل بَين الْعلمَاء ويتنازل وَإِن كَانَ منزله أعلا من نجم السَّمَاء
خلق أرق من النسيم ومحيا تعرف فِيهِ نَضرة النَّعيم
(تنبي طلاقة بشره عَن جوده
…
فيكاد يلقى النجح قبل لِقَائِه)
(وضياء وَجه لَو تَأمله امْرُؤ
…
صادي الجوانح لارتوى من مَائه)
وَإِن قعد للمظالم أَقَامَ بِالْكتاب وَالسّنة وأخاف فِي الله ببطشه كل ذِي يَد عَادِية تَغْدُو بعْدهَا النُّفُوس مطمئنة حَتَّى أقرَّت لَهُ بِالْعَدْلِ عُظَمَاء السلاطين واستقرت فِي أَيَّامه بالأمن النَّاس لَا يَخْشونَ نازلة المتعالين
وَإِن أَفَاضَ جوده أخجل الْغَمَام وأجزل كل عَطاء جزل لم تره النَّفس إِلَّا فِي آمال الْيَقَظَة أَو أَحْلَام الْمَنَام
(لَيْسَ التَّعَجُّب من مواهب مَاله
…
بل من سلامتها إِلَى أَوْقَاتهَا)
وَإِن ركب الهيجاء لم يكن لَهُ حَاجِب إِلَّا مواضي الصفاح وَلَا طَلِيعَة إِلَّا شهب الأسنة على رُءُوس الرماح
(وَلَا كتب إِلَّا المشرفية عِنْده
…
وَلَا رسل إِلَّا الْخَمِيس العرمرم)
(وَلم يخل من نصر لَهُ من لَهُ يَد
…
وَلم يخل من شكر لَهُ من لَهُ فَم)
(وَلم يخل من أَسْمَائِهِ عود مِنْبَر
…
وَلم يخل دِينَار وَلم يخل دِرْهَم)
يرفع لِوَاء الْإِسْلَام وَيسمع نوح الْحمام على أُمَم أنزل بهم الْحمام وَيقوم فيقعد
كل كمى ويرعف أنف كل مشرفي وسمهري
(على عاتق الْملك الْأَعَز نجاده
…
وَفِي يَد جَبَّار السَّمَوَات قائمه)
يُقَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا ويناضل فَلَا يدع فِي حَيّ الْأَعْدَاء حَيا ويبارز حَيْثُ تتأخر الْجِيَاد السنابك ويجاوز فَلَا تسمع إِلَّا من يَقُول وَمَا النَّاس إِلَّا هَالك وَابْن هَالك
(فِي جحفل ستر الْعُيُون غباره
…
فَكَأَنَّمَا يبصرن بالآذان)
(قد سودت روس الْجبَال شُعُورهمْ
…
فَكَأَن فِيهِ مسفة الْغرْبَان)
(إِن السيوف مَعَ الَّذين قُلُوبهم
…
كقلوبهم إِذا التقى الْجَمْعَانِ)
(يلقى الحسام على جَرَاءَة حَده
…
مثل الجبان بكف كل جبان)
أسنة مسنونة وَسنة مسنونة وَأَيَّام بعدله مَأْمُونَة وزمن بالنعماء مشحون وَفَوق الزَّمن السالف إِذا اعْتبرت السنون وَأجل وَكَيف وَفِي ذَلِك فَرد أَمِين ومأمون وكل أحد فِي زمن هَذَا أَمِين ومأمون
(فَلَا عقرب إِلَّا بخد مليحة
…
وَلَا جور إِلَّا فِي ولَايَة سَاق)
وَملك هُوَ نظامه وسلك هُوَ واسطته إِذا عدت أَيَّامه وإفك هُوَ ماحيه إِذا دجى ظلامه
بَطل شُجَاع وَرجل يخافه على صافناتها الْأَبْطَال وَفَوق سريرها الْمُلُوك وَفِي أجماتها السبَاع
مقدم العساكر ومقدامها وَأسد الممالك وضرغامها وَأسد الْأَبْطَال رَأيا وهمامها
لَا تضع الْحَرْب عِنْده أَوزَارهَا حَتَّى يضع العصاة أَوزَارهَا وَترجع إِلَى الله تَعَالَى رَجْعَة نفوس لَا تبالي ولى عَنْهَا شيطانها أَوزَارهَا
ولد نظام الْملك سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَ من أَوْلَاد الدهاقين الَّذين يعْملُونَ فِي الْبَسَاتِين بنواحي طوس فحفظه أَبوهُ الْقُرْآن وشغله فِي التفقه على مَذْهَب الشَّافِعِي
ثمَّ خرج من عِنْد أَبِيه إِلَى غزنة وخدم فِي الدِّيوَان السلطاني ورقت بِهِ الْأَحْوَال سفرا وحضرا
وخدم فِي الدَّوَاوِين بخراسان وغزنة واختص بِأبي عَليّ بن شَاذان وَزِير السُّلْطَان ألب رسْلَان فَلَمَّا حانت وَفَاة ابْن شَاذان أوصى ألب أرسلان بِهِ وَذكر لَهُ كفاءته وأمانته فنصبه مَكَانَهُ فِي الوزارة
وَلم يزل السعد يَخْدمه والأمور تجْرِي على وفْق مُرَاده وَاتفقَ فِي أَيَّامه من محَاسِن الْأَفْعَال وَنشر الْعدْل وَضبط الْأَحْوَال مَا سَارَتْ بِهِ الركْبَان وتناقلته الْأَلْسِنَة وَصَارَ بَابه محط الرّحال ومنتهى الآمال
وَأخذ فِي بِنَاء الْمَسَاجِد والمدارس والرباطات وَفعل أَصْنَاف الْمَعْرُوف بتنوع أقسامه وَاخْتِلَاف أَنْوَاعه واشتدت مَعَ ذَلِك وطأته وعظمت مكانته وتزايدت هيبته
إِلَى أَن انْقَضتْ دولة ألب أرسلان فَملك بعده السُّلْطَان الْكَبِير ملكشاه بتدبير نظام الْملك وكفايته فازدادت حرمته وتصاعدت مرتبته
وَقدم بَغْدَاد مرَارًا مَعَ السُّلْطَان وقوبل من الْخَلِيفَة بنهاية الإجلال والتعظيم وَبنى بِبَغْدَاد مدرسة ورباطا
وَتوجه مَعَ السُّلْطَان ملكشاه إِلَى الْغُزَاة بِبِلَاد الرّوم وَفتح عدَّة بِلَاد من ديار بكر وَرَبِيعَة والجزيرة وحلب ومنبج ثمَّ عَاد إِلَى خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر
وَجَرت أُمُوره على السداد نَافِذَة أُمُوره فِي أقطار الأَرْض إِلَيْهِ يرجع النَّاس بأمورهم وَهُوَ الْحَاكِم لَا كلمة لغيره ومجالسه معمورة بالعلماء
مأهولة بالأئمة والزهاد لم يتَّفق لغيره مَا اتّفق لَهُ من ازدحام الْعلمَاء عَلَيْهِ وتردادهم إِلَى بَابه وثنائهم على عدله وتصنيفهم الْكتب باسمه يحضر سماطه مثل أبي الْقَاسِم الْقشيرِي وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيرهم
وَذكر النقلَة أَنه لم يكن فِي زَمَانه أكفأ مِنْهُ فِي صناعَة الْحساب وصناعة الْإِنْشَاء ووصفوه بسداد الْأَلْفَاظ فيهمَا عَرَبِيَّة وفارسية
وَكَانَ من أخلاقه أَنه مَا جلس قطّ إِلَّا على وضوء وَلَا تَوَضَّأ إِلَّا وتنفل وَيقْرَأ الْقُرْآن وَلَا يتلوه مُسْتَندا إعظاما لَهُ ويستصحب الْمُصحف مَعَه أَيْنَمَا توجه وَإِذا أذن الْمُؤَذّن أمسك عَن كل شغل هُوَ فِيهِ وأجابه ويصوم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس
وَلَا يمْنَع أحدا من الدُّخُول عَلَيْهِ لَا وَقت الطَّعَام وَلَا غَيره إِذا جلس
وهجمت امْرَأَة عَلَيْهِ مرّة وَقت الطَّعَام وَمَعَهَا قَضِيَّة فزبرها بعض الْحجاب فحانت مِنْهُ التفاتة إِلَيْهِ فَلَقِيَهُ بالْكلَام الصعب وَقَالَ إِنَّمَا أريدك وأمثالك لإيصال مثل هَذِه وَأما المحتشمون فهم يوصلون نُفُوسهم
وَبنى مدرسة بِبَغْدَاد ومدرسة ببلخ ومدرسة بنيسابور ومدرسة بهراة ومدرسة بأصبهان ومدرسة بِالْبَصْرَةِ ومدرسة بمرو ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل
وَيُقَال إِن لَهُ فِي كل مَدِينَة بالعراق وخراسان مدرسة وَله بيمارستان بنيسابور ورباط بِبَغْدَاد
قلت وَشَيخنَا الذَّهَبِيّ زعم أَنه أول من بنى الْمدَارِس وَلَيْسَ كَذَلِك فقد كَانَت الْمدرسَة البيهقية بنيسابور قبل أَن يُولد نظام الْملك والمدرسة السعدية بنيسابور أَيْضا بناها الْأَمِير نصر بن سبكتكين أَخُو السُّلْطَان مَحْمُود لما كَانَ واليا بنيسابور ومدرسة ثَالِثَة بنيسابور بناها أَبُو سعد إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن الْمثنى الإستراباذي الْوَاعِظ الصُّوفِي شيخ الْخَطِيب ومدرسة رَابِعَة بنيسابور أَيْضا
بنيت للأستاذ أبي إِسْحَاق الإسفرايني وَقد قَالَ الْحَاكِم فِي تَرْجَمَة الْأُسْتَاذ لم يبن بنيسابور قبلهَا يَعْنِي مدرسة الْأُسْتَاذ مثلهَا
وَهَذَا صَرِيح فِي أَنه بني قبلهَا غَيرهَا وَقد أدرت فكري وَغلب على ظَنِّي أَن نظام الْملك أول من قدر المعاليم للطلبة فَإِنَّهُ لم يَتَّضِح لي هَل كَانَت الْمدَارِس قبله بمعاليم للطلبة أَو لَا وَالْأَظْهَر أَنه لم يكن لَهُم مَعْلُوم
ونقلت من خطّ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي خطْبَة الغياثي مَا قَالَه يصف نظام الْملك سيد الورى ومؤيد الدّين وَالدُّنْيَا ملاذ الْأُمَم مستخدم للسيف والقلم وَمن ظلّ ظلّ الْملك بيمن مساعيه ممدودا ولواء النَّصْر معقودا فكم بَاشر أوزار الْحَرْب وأدار رحى الطعْن وَالضَّرْب فَلَا يَده ارْتَدَّت وَلَا طلعته البهية أربدت وَلَا عزمه انثنى وَلَا حَده نبا قد سدت مسالك المهالك صوارمه وحصنت الممالك صرائمه وحلت شكائم العدى عَزَائِمه وتحصنت المملكة بنصله وتحسنت الدُّنْيَا بأفضاله وفضله وَعم ببره آفَاق الْبِلَاد وَنفى الغي عَنْهَا بالرشاد وجلى ظلام الظُّلم عدله وَكسر فقار الْفقر بذله وَكَانَت خطة الْإِسْلَام شاغرة وأفواه الخطوب إِلَيْهَا فاغرة
فَجمع الله بِرَأْيهِ الثاقب شملها وَوصل بيمن نقيبته حبلها وأصبحت الرعايا فِي رعايته وَادعَة وأعين الْحَوَادِث عَنْهَا هاجعة وَالدّين يزهى بتهلل أساريره وإشراق جَبينه وَالسيف يفخر فِي يَمِينه يرجوه الآيس البائس فِي أدراج أنينه ويركع لَهُ تَاج كل شامخ بعرنينه ويهابه اللَّيْث المزمجر فِي عرينه
انْتهى
وَهَذَا من هَذَا الإِمَام الْجَلِيل وَإِن لم يخل عَن بعض الْمُبَالغَة شَاهد عدل لعلو مِقْدَار نظام الْملك عِنْد هَذَا الحبر الَّذِي يحْتَج بكلماته المتقدمون والمتأخرون وَعنهُ انتشرت شَرِيعَة الله أصولا وفروعا
وَحكى الْأَمِير أَبُو نصر بن مَاكُولَا قَالَ حضرت مجْلِس نظام الْملك وَقد رمى بعض أَرْبَاب الْحَوَائِج رقْعَة إِلَيْهِ فَوَقَعت على دواته وَكَانَ مدادها كثيرا فنال المداد عمَامَته وثيابه فاسودت فَلم يقطب وَلم يتَغَيَّر وَمد يَده إِلَى الرقعة فَأَخذهَا وَوَقع عَلَيْهَا فتعجبت من حلمه فحكيت لأستاذ دَاره فَقَالَ الَّذِي جرى فِي بارحتنا أعجب كَانَ فِي نوبتنا أَرْبَعُونَ فراشا فَهبت ريح شديده أَلْقَت التُّرَاب على بساطه الْخَاص فَالْتمست أحدهم ليكنسه فَلم أَجِدهُ فاسودت الدُّنْيَا فِي عَيْني وَقلت أقل مَا يجْرِي صرفي وعقوبتهم فأظهرت الْغَضَب فَقَالَ نظام الْملك لَعَلَّ أسبابا لَهُم اتّفقت منعتهم من الْوُقُوف بَين أَيْدِينَا وَمَا يَخْلُو الْإِنْسَان من عذر مَانع وشغل قَاطع يصده عَن تأدية الْفَرْض وَمَا هم إِلَّا بشر مثلنَا يألمون كَمَا نألم ويحتاجون إِلَى مَا نحتاج إِلَيْهِ وَقد فضلنَا الله عَلَيْهِم فَلَا نجْعَل شكر نعْمَته مؤاخذتهم على ذَنْب يسير
قَالَ فعجبت من حلمه
ويحكى عَنهُ من هَذَا الْبَاب لطائف كَثِيرَة
قلت وَفِي هَذِه الْحِكَايَة أَيْضا دلَالَة على كَثْرَة مَا كَانَ فِيهِ من الحشمة لدلالتها على أَن نوبَة الفراشين عِنْده أَرْبَعُونَ نفسا فَإِن كَانَ يعْمل النوب ثَلَاثًا كعادة السلاطين فِي بِلَادنَا فَيدل على أَن لَهُ مائَة وَعشْرين فراشا وَإِن كَانَ يعملها نوبتين كعادة نواب السلطنة والأمراء الْكِبَار فَيدل على أَن لَهُ ثَمَانِينَ فراشا وَهَذَا أَمر عَظِيم فنائب الشَّام وَهُوَ أعظم نواب سُلْطَان الْإِسْلَام فِي هَذَا الزَّمَان لَيْسَ لَهُ غير سِتَّة عشر فراشا كل نوبَة ثَمَانِيَة هَذَا حَاله وَحَال من قبله من زمَان تنكز إِلَى الْآن لَا يزِيدُونَ على هَذَا الْقدر وَأَكْثَرهم ينقص عَنهُ وَكَانَ من قبل تنكز دونه
وَمِمَّا يدل أَيْضا على عَظمته وحشمته مَعَ ديانته مَا حُكيَ أَن الْأُسْتَاذ أَبَا الْقَاسِم الْقشيرِي دخل عَلَيْهِ مرّة فَوجدَ بَين يَدَيْهِ الجمدارية قد اصطفت ميمنة وميسرة وَكَانُوا ثَمَانِينَ جمدارا ملبسين أحسن الملابس وَكلهمْ مرد ملاح فقطب الْأُسْتَاذ ففهم نظام الْملك أَن الْأُسْتَاذ أنكر هَذِه الْحَالة فَقَالَ لَهُ يَا أستاذ مَا فِي هَؤُلَاءِ المماليك الثَّمَانِينَ إِلَّا من شِرَاؤُهُ فَوق الثَّمَانِينَ ألفا وَمَعَ ذَلِك وَالله مَا حللت سراويلي على حرَام قطّ وَلَكِن حُرْمَة الوزارة وَالْملك تَقْتَضِي هَذَا
فَهَذِهِ الْحِكَايَة تدل على أَن لَهُ إِمَّا مائَة وَسِتِّينَ جمدارا إِن كَانَ يعْمل نوبتين أَو أَكثر إِن كَانَ أَكثر من نوبتين وَإِن كَانَ هَذَا عدد الجمدارية وهم عبارَة عَن مماليك مردان يكونُونَ مَعَ الْمُلُوك فِي غَالب أَحْوَالهم فَمَا يكون عدد مماليكه الَّذين يعدهم للحرب وكل ذَلِك خَارج عَن أجناده المجندة فَإِن أُولَئِكَ مضافون إِلَى السُّلْطَان لَا إِلَيْهِ وَإِن كَانُوا فِي خدمته ومؤتمرين بأَمْره
وَقد كَانَت حَالَته تَقْتَضِي أَكثر من ذَلِك فَإِنَّهُ مكث فِي الوزارة ثَلَاثِينَ سنة وَلم تكن
وزارته وزارة بل فَوق السلطنة فَإِن السُّلْطَان جلال الدولة ملكشاه بن ألب أرسلان اتسعت ممالكه فَكَانَت تَحت ملكه بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر وبلاد الهياطلة وَبَاب الْأَبْوَاب وخراسان وَالْعراق وَالشَّام وَالروم والجزيرة فمملكته من كاشغر وَهِي أقْصَى مَدَائِن التّرْك إِلَى بَيت الْمُقَدّس طولا وَمن قرب قسطنطينية إِلَى بَحر الْهِنْد عرضا وَلم يكن مَعَ ذَلِك لملكشاه مَعَ نظام الْملك غير الِاسْم والأبهة والتنوع فِي اللَّذَّات وَكَانَ مَشْغُولًا بالصيد واللذة ونظام الْملك هُوَ الْآمِر الْمُتَصَرف لَا يجْرِي جليل وَلَا حقير إِلَّا بأَمْره مستبدا بذلك
وَيُقَال إِن نظام الْملك أول من فرق الإقطاعات على الْجند وَلم يكن عَادَة الْخُلَفَاء والسلاطين من لدن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَّا أَن الْأَمْوَال كلهَا تجبى إِلَى الدِّيوَان ثمَّ تفرق العطايا على الْأُمَرَاء والأجناد على حسب الْمُقَرّر لَهُم فَلَمَّا اتسعت مملكة نظام الْملك رأى أَن يسلم إِلَى كل مقطع قَرْيَة أَو أَكثر أَو أقل على قدر إقطاعه
قَالَ فَإِن فِيهِ أَنه إِذا تسلمها وَلَيْسَ لَهُ غَيرهَا عمرها واعتنى بهَا بِخِلَاف مَا إِذا شَمل الْكل ديوَان وَاحِد فَإِن الْخرق يَتَّسِع فَفعل ذَلِك فَكَانَ سَبَب عمَارَة الْبِلَاد وَكَثْرَة الغلات وتناقلته الْمُلُوك بعده واستمرت إِلَى الْيَوْم فِي بِلَاد الْإِسْلَام وَأما بِلَاد الْعَجم وممالك نظام الْملك كلهَا الْآن فَمَا أظنها على هَذَا الْوَجْه بل تَغَيَّرت أحوالها لِكَثْرَة التغيرات
وَحكى أَخُوهُ أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن عَليّ بن إِسْحَاق أَنه كَانَ بِمَكَّة وَأَرَادَ الْخُرُوج
إِلَى عَرَفَات فَأخْبرهُ رجل أَن إنْسَانا من الخراسانية مَاتَ بِبَعْض الزوايا وَأَنه انتفخ وَفَسَد وَلزِمَ الْقيام بِحقِّهِ
قَامَ فَمَكثت لذَلِك فرآني بعض من كَانَ يأتمنه نظام الْملك على أُمُور الْحَاج فَقَالَ لي مَا وقوفك هَا هُنَا وَالْقَوْم قد رحلوا فحكيت لَهُ الْقِصَّة فَقَالَ اذْهَبْ وَلَا تهتم لأمر هَذَا الْمَيِّت فَإِن عِنْدِي خمسين ألف ذِرَاع من الكرباس لتكفين الْمَوْتَى من جِهَة الصاحب نظام الْملك قَالَ وَكَانَ أخي نظام الْملك يملي الحَدِيث بِالريِّ فَلَمَّا فرغ قَالَ إِنِّي لست أَهلا لما أتولاه من الْإِمْلَاء لكني أُرِيد أَن أربط نَفسِي على قطار نقلة حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
قلت وَقد سمع الحَدِيث بأصبهان من مُحَمَّد بن عَليّ بن مهريزد الأديب وَأبي مَنْصُور شُجَاع بن عَليّ بن شُجَاع
وبنيسابور من الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي
وببغداد من أبي الْخطاب بن البطر وَغَيره
وأملى بِبَغْدَاد مجلسين أَحدهمَا بِجَامِع الْمهْدي بالرصافة وَالْآخر بمدرسته وَحضر إملاءه الْأَئِمَّة
وروى عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم نصر بن نصر العكبري وَعلي بن طراد الزَّيْنَبِي وَأَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مَنْصُور السَّمْعَانِيّ وَغَيرهم
قَالَ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل فِي الْفُنُون أَيَّامه الَّتِي شاهدناها تربي على كل أَيَّام سمعنَا بهَا وصدقنا بِمَا رَأَيْنَاهُ مَا سمعناه وَإِن كُنَّا قبل ذَلِك مستبعدين لَهُ ناسبين مَا ذكر فِي
التواريخ إِلَى نوع تَحْسِين من الْكَذِب فأبهرت الْعُقُول سيرته جودا وكرما وعدلا وإحياء لمعالم الدّين بنى الْمدَارِس ووقف الْوُقُوف ونعش من الْعلم وَأَهله مَا كَانَ خاملا مهملا فِي أَيَّام من قبله وَفتح طَرِيق الْحَج وعمره وَعمر الْحَرَمَيْنِ واستقام الحجيج وابتاع الْكتب بأوفر الْأَثْمَان وأدر الجرايات للخزان
وَكَانَت سوق الْعلم فِي أَيَّامه قَائِمَة وَالنعَم على أَهله دارة وَكَانُوا مستطيلين على صُدُور أَرْبَاب الدولة أرفع النَّاس فِي مَجْلِسه لَا يحجبون عَن بَابه بتوسل بهم النَّاس فِي حوائجهم
هَذَا بعض كَلَام ابْن عقيل
وَحكى عبد الله الساوجي أَن نظام الْملك اسْتَأْذن السُّلْطَان ملكشاه فِي الْحَج فَأذن لَهُ وَهُوَ إِذْ ذَاك بِبَغْدَاد فَعبر دجلة وعبروا بالآلات والأقمشة وَضربت الْخيام على شط دجلة
قَالَ فَأَرَدْت يَوْمًا أَن أَدخل عَلَيْهِ فَرَأَيْت بِبَاب الْخَيْمَة فَقِيرا يلوح عَلَيْهِ سِيمَا الْقَوْم فَقَالَ لي يَا شيخ أَمَانَة توصلها إِلَى الصاحب
قلت نعم
فَأَعْطَانِي رقْعَة مطوية فَدخلت بهَا وَلم أنظر فِيهَا حفظا للأمانة ووضعتها بَين يَدي الْوَزير فَنظر فِيهَا وَبكى بكاء شَدِيدا حَتَّى نَدِمت وَقلت فِي نَفسِي لَيْتَني نظرت فِيهَا فَإِن كَانَ مَا فِيهَا يسوءه لم أدفعها إِلَيْهِ
ثمَّ قَالَ لي يَا شيخ أَدخل عَليّ صَاحب هَذِه الرقعة
فَخرجت فَلم أَجِدهُ وطلبته فَلم أظفر بِهِ فَأخْبرت الْوَزير بذلك فَدفع إِلَيّ الرقعة فَإِذا فِيهَا رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لي (اذْهَبْ إِلَى الْحسن وَقل لَهُ أَيْن تذْهب إِلَى مَكَّة حجك هَا هُنَا أما قلت لَك أقِم بَين يَدي هَذَا التركي وأعن أَصْحَاب الْحَوَائِج من أمتِي) فَرجع نظام الْملك
وَكَانَ يَقُول لَو رَأَيْت ذَلِك الْفَقِير حَتَّى أتبرك بِهِ قَالَ فرأيته على شط دجلة وَهُوَ يغسل خريقات لَهُ فَقلت لَهُ إِن الصاحب يطلبك
فَقَالَ مَا لي وللصاحب إِنَّمَا كَانَت عِنْدِي أَمَانَة فأديتها
قَالَ ابْن الصّلاح الساوجي هَذَا كَانَ خيرا كثير الْمَعْرُوف يعرف بشيخ الشُّيُوخ
وَحكى الْفَقِيه أَبُو الْقَاسِم أَخُو نظام الْملك أَنه كَانَ عِنْده لَيْلَة على أحد جانبيه والعميد خَليفَة على الْجَانِب الآخر وبجنبه فَقير مَقْطُوع الْيُمْنَى
قَالَ فشرفني الصاحب بالمواكلة وَجعل يلحظ العميد خَليفَة كَيفَ يُلَاحظ الْفَقِير
قَالَ فتنزه خَليفَة من مواكلة الْفَقِير لما رَآهُ يَأْكُل بيساره فَقَالَ لخليفة تحول إِلَى هَذَا الْجَانِب
وَقَالَ للْفَقِير إِن خَليفَة رجل كَبِير فِي نَفسه مستنكف من مواكلتك فَتقدم إِلَيّ وَأخذ يواكله
وَحكي عَنهُ أَنه كَانَ بهمذان وَقدم عَلَيْهِ ابْنه مؤيد الْملك من بَلخ فَإِنَّهُ كَانَ استقدمه لينفذه إِلَى بَغْدَاد حِين زوجه فَدخل عَلَيْهِ ووقف بَين يَدَيْهِ سَاعَة وَقضى للنَّاس حوائجهم فَلَمَّا أذن الْمُؤَذّن لصَلَاة الظّهْر وتفرق النَّاس نظر إِلَى ابْنه واستدناه فَجعل يقبل الأَرْض وَيَدْنُو فضمه إِلَيْهِ وَقبل بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا بني توجه إِلَى بَيْتك إِلَى بَغْدَاد فِي ساعتك هَذِه
فودعه وَقبل يَده وَسَار من سَاعَته
والتفت نظام الْملك إِلَى من عِنْده وَقد تغرغرت عينه بالدموع وَقَالَ إِن عَيْش أحد البقالين أصلح من عيشي يخرج إِلَى دكانه غدْوَة وَيروح عَشِيَّة وَمَعَهُ مَا قسم لَهُ من الرزق فيجتمع هُوَ وَأَوْلَاده على طَعَامه وَيسر بقربهم مِنْهُ وحضورهم مَعَه وَهَذَا وَلَدي مَا رَأَيْته مُنْذُ ولد غير أَوْقَات يسيرَة وَقد نَشأ هَذَا المنشأ وَمَا يظْهر على مَا عِنْدِي من الحنو والشفقة فنهاري بَين أخطار وتكلف ومشاق وليلى بَين سهر وفكر تَارَة لتدبير الممالك والبلدان وَمن أرتب فِي كل صقع وَمَكَان وَمَا يخرج لكل وَاحِد من الْعَطاء وَالْإِحْسَان وَكَيف أرْضى هَذَا السُّلْطَان حَتَّى يمِيل إِلَيّ وَلَا يتَغَيَّر عَليّ وَبِأَيِّ أَمر أدفَع شَرّ من يقصدني فَمَتَى يكون لي زمَان ألتذ فِيهِ بنعمتي وأستدرك أفعالي بِمَا يَنْفَعنِي عِنْد لِقَاء رَبِّي وَبكى بكاء شَدِيدا
وَقَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الْملك الهمذاني قدم نظام الْملك إِلَى بَغْدَاد مرَّتَيْنِ وَكَانَ يباكر دَار السُّلْطَان وَيعود من الدِّيوَان إِذا أضحى النَّهَار فيخلو بِنَفسِهِ إِلَى وَقت
الظّهْر وَيُصلي فيجلس ويحضر النَّاس وَيقْرَأ بَين يَدَيْهِ جُزْء من الحَدِيث على شيخ كَبِير عالي السَّنَد ويكرمه ويجلسه إِلَى جَانِبه وَيتَكَلَّم الْفُقَهَاء فِي الْمسَائِل وَيقْعد نظام الْملك مطأطأ الرَّأْس وَهُوَ يسمع جَمِيع مَا يجْرِي فِي الْمجْلس وَيسْأل الْحَوَائِج فِي أثْنَاء ذَلِك الْوَقْت ويجيب عَنْهَا وينعم بالأموال الطائلة والهبات الجزيلة
وَيُقَال كَانَ يتَصَدَّق فِي بكرَة كل يَوْم بِمِائَة دِينَار
وَلم تَبْرَح أُمُوره على مَا شرحناه وَفَوق مَا وصفناه إِلَى أَن خرج مَعَ السُّلْطَان من بَغْدَاد إِلَى أَصْبَهَان فِي شهر ربيع الأول سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَأَقَامَ بهَا شهورا فَلَمَّا انْقَضى الْحر توجها إِلَى بَغْدَاد فِي شهر رَمَضَان وَقد تغير السُّلْطَان على نظام الْملك بِأُمُور مِنْهَا مَا هُوَ من محَاسِن نظام الْملك وَهُوَ تَعْظِيمه لأمر الْخَلِيفَة وَكَانَ نظام الْملك يتَقرَّب بذلك إِلَى الله تَعَالَى
وَلما دخل على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُقْتَدِي بِاللَّه أذن لَهُ فِي الْجُلُوس بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا حسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْك بِرِضا أَمِير الْمُؤمنِينَ عَنْك
وَكَانَ نظام الْملك يستبشر بِهَذَا ويفرح وَيَقُول أَرْجُو أَن الله تَعَالَى يستجيب دعاءه
وانضم إِلَى ذَلِك أَن تَاج الْملك أَبَا الْغَنَائِم استولى على قلب السُّلْطَان وتوصل إِلَى أَن حظي بالمنزلة الرفيعة عِنْده وَلم يكن للسُّلْطَان من الْقُدْرَة أَن يعْزل نظام الْملك لشدَّة اسْتِيلَاء نظام الْملك على السلطنة
فَلَمَّا انفصلوا عَن نهاوند وعسكروا بجانبها فِي يَوْم الْخَمِيس عَاشر شهر رَمَضَان وحان وَقت الْإِفْطَار اتّفق فِي ليلته قتل نظام الْملك