الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النِّسَاء فَأرْسل إِلَى إِبْرَاهِيم، عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ: مَا هَذِه الْمَرْأَة مِنْك؟ قَالَ: أُخْتِي وَخَافَ أَن يَقُول لَهُ هَذِه امْرَأَتي أَن يقْتله، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ أَهْوى إِلَيْهَا بِيَدِهِ فيبست إِلَى صَدره، فَقَالَ لَهَا: سَلِي إلهك أَن يُطلق عني فَقَالَت سارة أللهم إِن كَانَ صَادِقا فَأطلق لَهُ يَده، فأطلقها الله، قيل: فعل ذَلِك مَرَّات، فَلَمَّا رأى ذَلِك ردهَا إِلَى إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام، ووهب لَهَا هَاجر وَهِي جَارِيَة قبطية. قَوْله:(وَذَلِكَ فِي ذَات الله تَعَالَى) أَي: قَول إِبْرَاهِيم لسارة: أُخْتِي لرضا الله تَعَالَى، لِأَنَّهَا كَانَت أُخْته فِي الدّين وَلم يكن يَوْمئِذٍ مُسلم غَيره وَغير سارة وَلُوط، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّبْوِيب رد قَول من نهى أَن يَقُول الرجل لامْرَأَته: يَا أُخْتِي، فَمن قَالَ لامْرَأَته كَذَلِك وَهُوَ يَنْوِي مَا نَوَاه إِبْرَاهِيم، عليه الصلاة والسلام، فَلَا يضرّهُ شَيْء قَالَ أَبُو يُوسُف: إِن لم يكن لَهُ نِيَّة فَهُوَ تَحْرِيم، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: هُوَ ظِهَار إِذا لم يكن لَهُ نِيَّة، ذكره الْخطابِيّ، وَقَالَ بَعضهم: وَقيد البُخَارِيّ بِكَوْن قَائِل ذَلِك إِذا كَانَ مكْرها لم يضرّهُ، وَتعقبه بعض الشُّرَّاح بِأَنَّهُ لم يَقع فِي قصَّة إِبْرَاهِيم إِكْرَاه، وَهُوَ كَذَلِك. قلت: لَا تعقب على البُخَارِيّ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذكر قصَّة إِبْرَاهِيم الِاسْتِدْلَال على أَن من قَالَ ذَلِك فِي حَالَة الْإِكْرَاه لَا يضرّهُ، قِيَاسا على مَا وَقع فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام. قلت: قَوْله: وَهُوَ كَذَلِك، لَيْسَ كَذَلِك لِأَن إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام، كَانَ يتَحَقَّق أَن هَذَا الفرعون كَانَ يقتل من خَالفه فِيمَا يردهُ، وَكَانَ حَاله فِي ذَلِك الْوَقْت مثل حَال الْمُكْره، بل أقوى، لشدَّة كفر هَذ الفرعون وَشدَّة ظلمه وتعذيبه لمن يُخَالِفهُ بِأَدْنَى شَيْء فَكيف إِذا خَالفه من حَاله فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة؟ وَالله أعلم.
11 -
(بابُ الطَّلاقِ فِي الإغْلاقِ والكُرْهِ والسَّكْرَانِ والمَجْنُونِ وأمْرِهما والغَلَطِ والنِّسْيان فِي الطَّلَاقِ والشِّرْكِ وغيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الإغلاق أَي: الْإِكْرَاه، لِأَن الْمُكْره يغلق عَلَيْهِ فِي أمره. وَيُقَال: كَأَنَّهُ يغلق عَلَيْهِ الْبَاب ويضيق عَلَيْهِ حَتَّى يُطلق. وَقيل: لَا يُطلق التطليقات فِي دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ شَيْء، لَكِن يُطلق طَلَاق السّنة. وَفِي (الْمُحكم) وَغَيره: احتد فلَان فنشب فِي حِدته وغلق فِي (الْجَامِع) : غلق إِذا غضب غَضبا شَدِيدا، وَلما ذكر الْفَارِسِي فِي كِتَابه (مجمع الغرائب) قَول من قَالَ: الإغلاق الْغَضَب، قَالَ: هَذَا غلط لِأَن أَكثر طَلَاق النَّاس فِي الْغَضَب إِنَّمَا هُوَ الْإِكْرَاه، وَأخرج أَبُو دَاوُد حَدِيث عَائِشَة:(لَا طَلَاق وَلَا عتاق فِي إغلاق)، قَالَ أَبُو دَاوُد: الغلاق أَظُنهُ الْغَضَب، وَترْجم على الحَدِيث الطَّلَاق على غيظ، وَوَقع عِنْده بِغَيْر ألف فِي أَوله، وَحكى الْبَيْهَقِيّ أَنه روى بِالْوَجْهَيْنِ، فَوَقع عِنْد ابْن مَاجَه فِي هَذَا الحَدِيث: الإغلاق، بِالْألف، وَترْجم عَلَيْهِ: طَلَاق الْمُكْره، وَقَالَ ابْن المرابط: الإغلاق حرج النَّفس وَلَيْسَ يَقع على أَن مرتكبه فَارق عقله حَتَّى صَار مَجْنُونا فيدعى أَنه كَانَ فِي غير عقله، وَلَو جَازَ هَذَا لَكَانَ لكل وَاحِد من خلق الله عز وجل مِمَّن يجوز عَلَيْهِ الْحَرج أَن يَدعِي فِي كل مَا جناه أَنه كَانَ فِي حَال إغلاق فَتسقط عَنهُ الْحُدُود وَتصير الْحُدُود خَاصَّة لَا عَامَّة لغير الْحَرج، وَقَالَ ابْن بطال: فَإِذا ضيق على الْمُكْره وشدد عَلَيْهِ لم يَقع حكم طَلَاقه، فَكَأَنَّهُ لم يُطلق. وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : أَن الشّعبِيّ كَانَ يرى طَلَاق الْمُكْره جَائِزا، وَكَذَا قَالَه إِبْرَاهِيم وَأَبُو قلَابَة وَابْن الْمسيب وَشُرَيْح. وَقَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير. وَبِه أَخذ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وروى الْفرج بن فضَالة عَن عَمْرو بن شرَاحِيل أَن امْرَأَة أكرهت زَوجهَا على طَلاقهَا فَطلقهَا، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر فَأمْضى طَلاقهَا. وَعَن ابْن عمر نَحوه، وَكَذَا عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، وَأما من لم يره شَيْئا فعلي بن أبي طلب وَابْن عمر وَابْن الزبير وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَالْحسن بن أبي الْحسن وَعبد الله بن عَبَّاس وَعمر بن الْخطاب وَالضَّحَّاك. قَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ أَيْضا عَن طَاوُوس وَجَابِر بن زيد قَالَ: وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حيى وَالشَّافِعِيّ وَأبي سُلَيْمَان وأصحابهم، وَعَن إِبْرَاهِيم تَفْصِيل آخر، وَهُوَ أَنه: إِن ورى الْمُكْره لم يَقع، وإلَاّ وَقع. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِن أكرهه اللُّصُوص وَقع وَإِن أكرهه السُّلْطَان فَلَا، أخرجه ابْن أبي شيبَة. قَوْله:(والكره) بِضَم الْكَاف وسكوت الرَّاء فِي النّسخ كلهَا وَهُوَ بِالْجَرِّ ظَاهره أَنه عطف على قَوْله: (فِي الإغلاق) لَكِن هَذَا لَا يَسْتَقِيم إلَاّ إِذا فسر الإغلاق بِالْغَضَبِ كَمَا فسره أَبُو دَاوُد وَترْجم عَلَيْهِ بقوله: الطَّلَاق على غيظ. وَلَكِن فِي رِوَايَته الغلاق، بِدُونِ الْألف فِي أَوله. وَقد فسروه أَيْضا مَعَ وجود الْألف فِي أَوله بِالْغَضَبِ، وَلَكِن إِن قدر قبل الْكَاف مِيم لِأَنَّهُ
عطف عَلَيْهِ لفظ السَّكْرَان فيستقيم الْكَلَام وَيكون الْمَعْنى: بَاب حكم الطَّلَاق فِي الإغلاق وَحكم الْمُكْره والسكران إِلَى آخِره، فَهَذِهِ التَّرْجَمَة تشْتَمل على أَحْكَام وَلم يذكرهَا اكْتِفَاء بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذكره.
أما حكم الطَّلَاق فِي الْغَضَب فَإِنَّهُ يَقع، وَفِي رِوَايَة عَن الْحَنَابِلَة إِنَّه لَا يَقع، قيل: وَأَرَادَ البُخَارِيّ بذلك الرَّد على مَذْهَب من يرى أَن الطَّلَاق فِي الْغَضَب لَا يَقع، وَأما حكم الْإِكْرَاه فقد مر، وَأما طَلَاق السَّكْرَان هَل يَقع أم لَا؟ فَإِن النَّاس اخْتلفُوا فِيهِ، فَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّه لَا يَقع، عُثْمَان بن عَفَّان وَجَابِر بن زيد وَعَطَاء وطاووس وَعِكْرِمَة وَالقَاسِم وَعمر بن عبد الْعَزِيز، ذكره ابْن أبي شيبَة، وَزَاد ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَإِسْحَاق والمزني، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وَذهب مُجَاهِد إِلَى أَن طَلَاقه يَقع، وَكَذَا قَالَه مُحَمَّد وَالْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ وَمَيْمُون بن مهْرَان وَحميد بن عبد الرَّحْمَن وَسليمَان بن يسَار وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَسَالم بن عبد الله وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة، وَاخْتلف فِيهِ قَول الشَّافِعِي، فَأَجَازَهُ مرّة وَمنعه أُخْرَى، وألزمه مَالك الطَّلَاق والقود من الْجراح وَمن الْقَتْل وَلم يلْزمه النِّكَاح وَالْبيع، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَقُول السَّكْرَان وعقوده كلهَا ثَابِتَة كَفعل الصاحي إلَاّ الردَّة فَإِذا ارْتَدَّ لَا تبين امْرَأَته اسْتِحْسَانًا، قَالَ أَبُو يُوسُف: يكون مُرْتَدا فِي حَال سكره وَهُوَ قَول الشَّافِعِي إلَاّ إِنَّا لَا نَقْتُلهُ فِي حَال سكره وَلَا نستتيبه، وَأما الْمَجْنُون فالإجماع وَاقع على أَن طَلَاق الْمَجْنُون وَالْمَعْتُوه وَاقع، وقا لمَالِك: وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون الَّذِي يفِيق أَحْيَانًا يُطلق فِي حَال جُنُونه والمبرسم قد رفع عَنهُ الْقَلَم لغَلَبَة الْعلم بِأَنَّهُ فَاسد الْمَقَاصِد، وَأما حكم طَلَاق الغالط أَو النَّاسِي فَإِنَّهُ وَاقع، وَهُوَ قَول عَطاء وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَإِسْحَاق وَمَالك وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيين، وَعَن الْحسن: أَن النَّاسِي كالعامد إلَاّ أَن اشْترط فَقَالَ: إلَاّ أَن أنسي، وَأما المخطىء فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَا يَقع طَلَاقه، وَعند الْحَنَفِيَّة إِذا أَرَادَ رجل أَن يَقُول لامْرَأَته شَيْئا فَسبق لِسَانه، فَقَالَ: أَنْت طَالِق، يلْزمه الطَّلَاق.
قَوْله: (وَأَمرهمَا) أَي: أَمر السَّكْرَان وَالْمَجْنُون، أَي: فِي بَيَان أَمرهمَا من أقوالهما وأفعالهما هَل حكمهمَا وَاحِد أَو مُخْتَلف؟ على مَا يَجِيء. قَوْله: (والغلط وَالنِّسْيَان) أَي: وَفِي بَيَان الْغَلَط وَالنِّسْيَان الحاصلين فِي الطَّلَاق، أَرَادَ أَنه لَو وَقع من الْمُكَلف مَا يَقْتَضِي الطَّلَاق غَلطا أَو نِسْيَانا. قَوْله:(والشرك)، أَي؛ وَفِي بَيَان الشّرك لَو وَقع من الْمُكَلف مَا يَقْتَضِي الشّرك غَلطا أَو نِسْيَانا هَل يحكم عَلَيْهِ بِهِ؟ وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وَقع فِي كثير من النّسخ: وَالنِّسْيَان فِي الطَّلَاق والشرك بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء فَهُوَ خطأ وَالصَّوَاب فِي الشَّك، مَكَان الشّرك. قلت: سبقه بِهَذَا ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: وَقع فِي كثير من النّسخ. وَالنِّسْيَان فِي الطَّلَاق والشرك وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب: وَالشَّكّ مَكَان الشّرك، وَأما طَلَاق الْمُشرك فجَاء عَن الْحسن وَقَتَادَة وَرَبِيعَة أَنه لَا يَقع، وَنسب إِلَى مَالك وَدَاوُد، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه يُوقع كَمَا يَصح نِكَاحه وعتقه وَغير ذَلِك من أَحْكَامه. قَوْله:(وَغَيره) قَالَ بَعضهم: أَي: وَغير الشّرك مِمَّا هُوَ دونه. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَذَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: وَغير الْمَذْكُور من الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة نَحْو الْخَطَأ وَسبق اللِّسَان والهزل، وَقد ذكرنَا الْآن حكم الْخَطَأ وَسبق اللِّسَان، وَأما حكم الهازل فِي طَلَاقه ونكاحه ورجعته فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِهِ، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَوْله:(كنت هازلاً) وَلَا يدين أَيْضا فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، وَذَلِكَ لما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاث جدهن جد وهزلهن جد: النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَاعْلَم أَنه ذكر هَذِه الْأَشْيَاء وَلم يذكر مَا الْجَواب فِيهَا اكْتِفَاء بقوله.
لقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ ولِكُلِّ امْرىءٍ مَا نَوى
أَشَارَ بِهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي سبق ذكره فِي أول الْكتاب على اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ أَن الِاعْتِبَار فِي الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة النِّيَّة، لِأَن الحكم فِي الأَصْل إِنَّمَا يتَوَجَّه على الْعَاقِل الْمُخْتَار الْعَامِد الذاكر وَالْمكْره غير مُخْتَار والسكران غير عَاقل فِي سكره، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون فِي حَال جُنُونه، والغالط وَالنَّاسِي غير ذاكرين، وَقد ذكرنَا الْأَحْكَام فِيهَا مستقصاة.
وتلَا الشَّعْبِيُّ: { (2) لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} (الْبَقَرَة: 682)
أَي: قَرَأَ عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ هَذِه الْآيَة لما سُئِلَ عَن طَلَاق النَّاسِي والمخطىء، وَاحْتج بهَا على عدم وُقُوع طَلَاق النَّاسِي والمخطىء، وَجه الِاسْتِدْلَال بهَا ظَاهر.
وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إقْرَارِ المُوسْوِس
هُوَ عطف على قَوْله: الطَّلَاق فِي الإغلاق، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان مَا لَا يجوز من إِقْرَار الموسوس على صِيغَة الْفَاعِل وسوس توسوس نَفسه إِلَيْهِ، والوسوسة حَدِيث النَّفس وَلَا مُؤَاخذَة بِمَا يَقع فِي النَّفس.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لِلَّذِي أقَرَّ علَى نفْسِهِ أبِكَ جُنُونٌ؟
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي عدم وُقُوع طَلَاق الْمَجْنُون، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث أخرجه فِي المتحاربين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: أَتَى رجلٌ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِد فناداه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي زَنَيْت، فَأَعْرض عَنهُ حَتَّى ردده عَلَيْهِ أَربع مَرَّات، فَلَمَّا شهد على نَفسه أَربع شَهَادَات دَعَاهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أبك جُنُون؟ فَقَالَ: لَا
…
الحَدِيث، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله:(للَّذي أقرّ) أَي: الرجل الَّذِي أقرّ على نَفسه بِالزِّنَا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: أبك جُنُون؟ لِأَنَّهُ لَو كَانَ ثَبت عَنهُ أَنه مَجْنُون كَانَ أسقط الْحَد عَنهُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: بقَر حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شارِفَيَّ، فَطَفِقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ، فإذَا حَمْزَةُ قدْ ثَمِلَ مُحَمَرَةٌ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لأبي؟ فَعَرَفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وخَرَجْنَا معَهُ.
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الِاسْتِدْلَال بِأَن السَّكْرَان لَا يُؤَاخذ بِمَا صدر مِنْهُ فِي حَال سكره من طَلَاق وَغَيره، وَعلي هُوَ ابْن أبي طَالب، رضي الله عنه، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث قد مَضَت فِي غَزْوَة بدر فِي بَاب مُجَرّد عقيب: بَاب شُهُود الْمَلَائِكَة بَدْرًا. مطولا. قَوْله: (بقر) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْقَاف أَي: شقّ قَوْله: (خواصر) جمع خاصرة. قَوْله: (شارفي) تَثْنِيَة شَارف أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم وَالْفَاء الْمَفْتُوحَة وَالْيَاء مُشَدّدَة، والشارف بالشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وَهِي المسنة من النوق قَوْله:(فَطَفِقَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَي: شرع النَّبِي صلى الله عليه وسلم يلوم حَمْزَة بن عبد الْمطلب على فعله هَذَا قَوْله فَإِذا كلمة مفاجأة وَحَمْزَة مُبْتَدأ وَقد ثمل خَبره بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْمِيم أَي: قد أَخذه الشَّرَاب وَالرجل ثمل بِكَسْر الْمِيم أَيْضا، وَلكنه فِي الحَدِيث مَاض فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي قَوْلنَا: الرجل ثمل، صفة مشبهة فَافْهَم، ويروى: فَإِذا حَمْزَة ثمل، على صِيغَة الصّفة المشبهة فَافْهَم. قَوْله: (محمرة عَيناهُ) خبر بعد خبر وَيجوز أَن يكون حَالا فَحِينَئِذٍ تنصب محمرة، قَوْله:(فَخرج) أَي: النَّبِي صلى الله عليه وسلم من عِنْد حَمْزَة وَخَرجْنَا مَعَه. وَاعْترض الْمُهلب بِأَن الْخمر حِينَئِذٍ كَانَت مُبَاحَة، قَالَ: فبذلك سقط عَنهُ حكم مَا نطق بِهِ فِي تِلْكَ الْحَال، قَالَ: وبسب هَذِه الْقِصَّة كَانَ تَحْرِيم الْخمر، ورد عَلَيْهِ بِأَن الِاحْتِجَاج بِهَذِهِ الْقِصَّة إِنَّمَا هُوَ بِعَدَمِ مُؤَاخذَة السَّكْرَان. لما يصدر مِنْهُ، وَلَا يفْتَرق الْحَال بَين أَن يكون الشّرْب فِيهِ مُبَاحا أَولا، وبسبب هَذِه القسعة كَانَ تَحْرِيم الْخمر، غير صَحِيح، لِأَن قصَّة الشارفين كَانَت قبل أحد اتِّفَاقًا، لِأَن حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اسْتشْهد بِأحد وَكَانَ ذَلِك بَين بدر وَأحد عِنْد تَزْوِيج عَليّ بفاطمة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد ثَبت فِي (الصَّحِيح) أَن جمَاعَة اصطحبوا الْخمر يَوْم أحد واستشهدوا فِي ذَلِك الْيَوْم، فَكَانَ تَحْرِيم الْخمر بعد أحد لهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح.
وَقَالَ عُثْمانُ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طلاقٌ
أَي: قَالَ عُثْمَان بن عَفَّان أَمِير الْمُؤمنِينَ: لَيْسَ لمَجْنُون وَلَا لسكران طَلَاق، يَعْنِي: لَا يَقع طلاقهما، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبان بن عُثْمَان عَنهُ بِلَفْظ: كَانَ لَا يُجِيز طَلَاق السَّكْرَان وَالْمَجْنُون، وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يُجِيز ذَلِك جتى حَدثهُ أبان بِهَذَا.
قَالَ ابنُ عبّاس: طَلَاقُ السَّكْرَانِ والمُسْتَكْرَهِ ليْسَ بجَائِزٍ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: عَن هشيم عَن عبد الله بن طَلْحَة الْخُزَاعِيّ عَن أبي يزِيد الْمَدِينِيّ عَن عِكْرِمَة
عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: لَيْسَ لسكران وَلَا لمضطهد طَلَاق، يَعْنِي المغلوب المقهور والمضطهد بضاد مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ طاء مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء ثمَّ دَال مُهْملَة. قَوْله:(لَيْسَ بجائز) لَيْسَ باقع.
وَقَالَ عُقْبَةُ بنُ عامِر: لَا يَجُوزُ طَلاقُ المُوَسْوِس
عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف: ابْن عَامر بن عبس الْجُهَنِيّ من جُهَيْنَة ابْن زيد بن سود بن أسلم بن عَمْرو بن الحاف ابْن قضاعة، وَقَالَ أَبُو عمر: سكن عقبَة بن عَامر مصر وَكَانَ واليا عَلَيْهَا وابتنى بهَا دَارا، وَتُوفِّي فِي آخر خِلَافه مُعَاوِيَة قلت: ولي مصر من قبل مُعَاوِيَة سنة أَربع وَأَرْبَعين، ثمَّ عَزله بِمسلمَة بن مخلد، وَكَانَ لَهُ دَار بِدِمَشْق بِنَاحِيَة قنطرة سِنَان من بَاب تومما، وَذكر خَليفَة بن خياط قتل أَبُو عَامر عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ يَوْم النهروان شَهِيدا، وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، قَالَ أَبُو عمر: هَذَا غلط مِنْهُ، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: شهد صفّين مَعَ مُعَاوِيَة وتحول إِلَى مصر وَتُوفِّي آخر خِلَافه مُعَاوِيَة وَدفن بالمقطم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ الشريف الْمقري الفرضي الفصيح، هُوَ كَانَ الْبَرِيد إِلَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَن، بِفَتْح دمشق، وَوصل إِلَى الْمَدِينَة فِي سَبْعَة أَيَّام وَرجع مِنْهَا إِلَى الشَّام فِي يَوْمَيْنِ وَنصف بدعائه عِنْد قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم، بذلك، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يجوز طَلَاق الموسوس لِأَن الوسوسة حَدِيث النَّفس، وَلَا مُؤَاخذَة بِمَا يَقع فِي النَّفس.
وَقَالَ عَطاءٌ: إذَا بَدَأ بالطّلَاق فلهُ شَرْطُهُ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (إِذا بَدَأَ بِالطَّلَاق) يَعْنِي إِذا أَرَادَ أَن يُطلق وَبَدَأَ (فَلهُ شَرطه) أَي فَلهُ أَن يشْتَرط ويعلق طَلاقهَا على شَرط، يَعْنِي: لَا يلْزم أَن يكون الشَّرْط مقدما على الطَّلَاق، بل يَصح أَن يُقَال: أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار، كَمَا فِي الْعَكْس، وَنقل عَن الْبَعْض أَنه لَا ينْتَفع بِشَرْطِهِ.
وَقَالَ نافِعٌ: طَلَّقَ رجُلٌ امْرَأتهُ البَتَّةَ إِن خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْن عُمَر: إِن خَرَجَتْ فقَدْ بتّتْ مِنْهُ، وإنْ لمْ تَخْرُجْ فلَيْسَ بشَيْءٍ.
أَي: قَالَ نَافِع مولى ابْن عمر لَهُ: مَا حكم رجل طلق امْرَأَته الْبَتَّةَ يَعْنِي: بَائِنا إِن خرجت من الدَّار؟ فَأجَاب ابْن عمر: إِن خرجت وَقع طَلَاقه بَائِنا، وَإِن لم تخرج لَا يَقع شَيْء، لِأَنَّهُ تَعْلِيق بِالشّرطِ فَلَا يتنجز إلَاّ عِنْد وجود الشَّرْط. قَوْله:(الْبَتَّةَ) نصب على المصدرية من بته بَيته ويبته بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا، والبت الْقطع، وَيُقَال: لَا أَفعلهُ بتة، وَلَا أَفعلهُ الْبَتَّةَ، لكل أَمر لَا رَجْعَة فِيهِ، وَيُقَال: طَلقهَا ثَلَاثًا بتة، أَي قَاطِعَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَت النُّحَاة: قطع همزَة الْبَتَّةَ بمعزل عَن الْقيَاس، وَقَالَ بَعضهم فِي دَعْوَى أَنَّهَا تقال بِالْقطعِ نظر، فَإِن ألف الْبَتَّةَ ألف وصل قطعا، وَالَّذِي قَالَه أهل اللُّغَة الْبَتَّةَ: الْقطع، وَهُوَ تَفْسِيرهَا بمرادفها لِأَن المُرَاد أَنَّهَا تقال بِالْقطعِ قلت النُّحَاة لم يَقُولُوا الْبَتَّةَ الْقطع فَحسب، وَإِنَّمَا قَالُوا: قطع همزَة الْبَتَّةَ، بتصريح نِسْبَة الْقطع إِلَى الْهمزَة قَوْله:(فقد بتت) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: انْقَطَعت عَن الزَّوْج بِحَيْثُ لَا رَجْعَة فِيهَا، ويروى: فقد بَانَتْ. قَوْله: (وَإِن لم تخرج) أَي: وَإِن لم يحصل الشَّرْط فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أفْعَلْ كَذا وكَذا فامْرأتي طالِقٌ ثَلَاثا عمَّا يسْأَل قَالَ وعقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حينَ حلَفَ بتِلْكَ اليَمِينِ، فإنْ سَمَّى أَََجَلًا أرادَهُ وعَقَدَ علَيْهِ قَبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِي دينِهِ وأمانَتِهِ.
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ: صور الْمَسْأَلَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا تَعْلِيق يتنجز عِنْد وجود الشَّرْط غير أَن الزُّهْرِيّ زَاد فِيهَا قَوْله: يسْأَل عَمَّا قَالَ
…
إِلَى آخِره. قَوْله: (جعل ذَلِك فِي دينه) يَعْنِي: يدين بَينه وَبَين الله تَعَالَى.
وَقَالَ إبْراهِميمُ: إنْ قَالَ: لَا حاجَةَ لِي فِيكَ، نِيّتُهُ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: إِن قَالَ رجل لامْرَأَته: لَا حَاجَة لي فِيك نِيَّته. أَي تعْتَبر فِيهِ نِيَّته، فَإِن قصد طَلَاقا طلقت، وإلَاّ فَلَا. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص هُوَ ابْن غياث عَن إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم فِي رجل قَالَ لامْرَأَته: لَا حَاجَة لي فِيك، قَالَ: نِيَّته.
وطَلَاقُ كُلِّ قوْمٍ بلِسانِهِمْ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم: طَلَاق كل قوم من عَرَبِيّ وعجمي جَائِز بلسانهم، وروى ابْن أبي شيبَة عَن ابْن إِدْرِيس وَجَرِير، فَالْأول: عَن مطرف، وَالثَّانِي: عَن مُغيرَة كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: طَلَاق العجمي بِلِسَانِهِ جَائِز، وَقَالَ صَاحب (الْمُحِيط) : الطَّلَاق بِالْفَارِسِيَّةِ المتعارفة أَرْبَعَة: أَحدهَا: لَو قَالَ لَهَا: هشتم ترا، أَو بهشتم ترا أززني، روى ابْن رستم فِي (نوادره) عَن أبي حنيفَة: لَا يكون طَلَاقا إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَن مَعْنَاهُ يؤول إِلَى معنى التَّخْلِيَة وَلَفظ التَّخْلِيَة لَا يَصح إلَاّ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظ الثَّانِي: لَو قَالَ؛ بله كردم، وَاللَّفْظ الثَّالِث: لَو قَالَ: اي كشادة كردم، يَقع راجعيا بِلَا نِيَّة. وَاللَّفْظ الرَّابِع: لَو قَالَ: دست باز داشتم، قيل: يكون رَجْعِيًا، وَقيل: بَائِنا، وَلَو قَالَ: جهار رَاه برتو كشاده است، لَا يَقع وَإِن نوى. وَلَو قَالَ بالتركي:(بو شادم سني بر طَلَاق) تقع وَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَلَو قَالَ:(إيكي طَلَاق) يَقع ثتنان، وَلَو قَالَ:(أوج طَلَاق) يَقع ثَلَاث.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذا قَالَ؛ إِذا حَمَلْتِ فأنْتِ طالِقٌ ثَلاثا، يَغْشَاها عنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِن اسْتَبانَ حَمْلُها فقَدْ بانَتْ مِنْهُ.
أَي: قَالَ قَتَادَة بن دعامة: إِذا قَالَ رجل لامْرَأَته: إِذا حملت فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا، يَغْشَاهَا أَي؛ يُجَامِعهَا فِي كل طهر مرّة لَا مرَّتَيْنِ لاحْتِمَال أَنه بِالْجِمَاعِ الأول صَارَت حَامِلا، فَطلقت بِهِ. وَقَالَ ابْن سِيرِين: يَغْشَاهَا حَتَّى تحمل، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة نَحوه.
وَقَالَ الحَسَنُ: إِذا قَالَ: إلْحَقِي بأهْلِكِ، نيّتُهُ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِذا قَالَ لامْرَأَته: إلحقي بأهلك تعْتَبر نِيَّته أَرَادَ أَنه كِنَايَة يعْتَبر فِيهِ قَصده إِن نوى الطَّلَاق وَقع وإلَاّ فَلَا. وروى عبد الرَّزَّاق بِلَفْظ: هُوَ مَا نوى.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ: الطّلَاقُ عنْ وطَرِ والعَتاقُ مَا أرِيدَ بهِ وَجْهُ الله تَعَالَى
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: الطَّلَاق عَن حَاجَة أَرَادَ بِهِ أَنه لَا يُطلق امْرَأَته إلَاّ عِنْد الْحَاجة مثل النُّشُوز، وَكلمَة: عَن، تتَعَلَّق بِمَحْذُوف أَي: الطَّلَاق لَا يَنْبَغِي وُقُوعه إلَاّ عِنْد الْحَاجة، والوطر بِفتْحَتَيْنِ، قَالَ أهل اللُّغَة: لَا يَبْنِي مِنْهُ فعل. قَوْله: وَالْعتاق أُرِيد بِهِ وَجه الله، يَعْنِي: الْعتاق لله فَهُوَ مَطْلُوب دَائِما.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِن قَالَ: مَا أنْتِ بامْرَأتِي نِيّتُهُ، وإنْ نَوَى طلَاقا فهوَ مَا نَوَى
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ: إِن قَالَ رجل لامْرَأَته: مَا أَنْت بامرأتي تعْتَبر نِيَّته، فَإِن نوى طَلَاقا فَهُوَ مَا نوى، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَيْسَ بِطَلَاق، وَقَالَ اللَّيْث: هِيَ كذبة.
وَقَالَ علِيٌّ: ألَمْ تَعْلَمَ أنَّ القلَمَ رُفِعَ عنْ ثَلاثَةٍ: عنِ المَجْنُونِ حتّى يُفِيقَ. وعنِ الصَّبيِّ حتّى يُدْرِكَ وعنِ النَّائِمِ حتّى يَسْتَيْقِظ
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ألم تعلم؟ يُخَاطب بِهِ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذَلِكَ أَن عمر أَتَى بمجنونة قد زنت وَهِي حُبْلَى، فَأَرَادَ أَن يرجمها، فَقَالَ عَليّ لَهُ: ألم تعلم
…
إِلَى آخِره، وَذكر بِصِيغَة جزم لِأَنَّهُ حَدِيث ثَابت، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: رفع الْقَلَم
…
الحَدِيث، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) مَرْفُوعا من حَدِيث ابْن وهب عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: مر على عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بمجنونة، وَفِيه فَقَالَ عَليّ: أَو مَا تذكر أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الْمَجْنُون المغلوب على عقله، عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم؟ قَالَ: صدقت) وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن جريج عَن الْقَاسِم بن يزِيد عَن عَليّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن الصَّغِير وَعَن الْمَجْنُون وَعَن النَّائِم) قَوْله: (حَتَّى يدْرك) أَي: حَتَّى يبلغ، وَفِي (الْفَتَاوَى الصُّغْرَى) لأبي يَعْقُوب بن يُوسُف الجصاصي: إِن الْجُنُون الطَّبَق عَن أبي يُوسُف أَكثر السّنة وَفِي رِوَايَة عَنهُ أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة، وَفِي رِوَايَة سَبْعَة أشهر، وَالصَّحِيح ثَلَاثَة أَيَّام. وَاخْتلفُوا فِي طَلَاق الصَّبِي، فَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن: يلْزم إِذا عقل وميز، وَحده عِنْد أَحْمد أَن يُطيق الصّيام ويحصي، وَعند عَطاء إِذا بلغ اثْنَتَيْ عشر سنة، وَعَن مَالك رِوَايَة إِذا ناهز الِاحْتِلَام.
وَقَالَ عليٌّ وكُلُّ الطَّلَاقِ جائِزٌ إلاّ طَلاقَ المَعْتُوهُ
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، وَذكره أَيْضا بِصِيغَة الْجَزْم لِأَنَّهُ ثَابت، وَوَصله الْبَغَوِيّ فِي (الجعديات) عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النحعي عَن عَابس بن ربيعَة: أَن عليا قَالَ: كل طَلَاق جَائِز إلاّ طَلَاق الْمَعْتُوه، وَالْمَعْتُوه، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا: وَهُوَ النَّاقِص الْعقل فَيدْخل فِيهِ الطِّفْل وَالْمَجْنُون والسكران. وَقد روى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا مَرْوَان بن أبي مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ عَن عَطاء بن عجلَان عَن عِكْرِمَة بن خَالِد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (كل طَلَاق جَائِز إلَاّ طَلَاق الْمَعْتُوه والمغلوب على عقله) . قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلَاّ من حَدِيث عَطاء بن عجلَان، وَهُوَ ضَعِيف ذَاهِب الحَدِيث، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَغَيرهم: إِن طَلَاق الْمَعْتُوه المغلوب على عقله لَا يجوز إلَاّ أَن يكون معتوها يفِيق الأحيان فيطلق فِي حَال إِفَاقَته. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين هَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ، وَعَطَاء بن عجلَان لَيْسَ لَهُ عِنْد التِّرْمِذِيّ إلَاّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَلَيْسَ لَهُ فِي بَقِيَّة الْكتاب السِّتَّة شَيْء، وَهُوَ حَنَفِيّ بَصرِي يكنى أَبَا مُحَمَّد، وَيعرف بالعطار، اتَّفقُوا على ضعفه. قَالَ ابْن معِين وَالْفَلَّاس: كَذَّاب، وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَالْبُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، زَاد أَبُو حَاتِم جدا، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. قَوْله:(وكل طَلَاق)، ويروى:(وكل الطَّلَاق)، بِالْألف وَاللَّام. قَوْله:(جَائِز) أَي: وَاقع.
9625 -
حدّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا هَشامٌ حدَّثنا قَتادَةُ عنْ زُرَارَة بنِ أوْفَى عنِ أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إنَّ الله تجاوَزَ عَن أمّتي مَا حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَها مَا لمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ.
(انْظُر الحَدِيث 8252 وطرفه)
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن يكون بَينه وَبَين حَدِيث عقبَة بن عَامر الْمَذْكُور فِي أَخْبَار بَاب التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَهُوَ قَوْله: لَا يجوز طَلَاق الموسوس، وَقد أعلم أَن الوسوسة من أَحَادِيث النَّفس، فَإِذا تجَاوز الله عَن عَبده مَا حدثت بِهِ نَفسه يدْخل فِيهِ طَلَاق الموسوس أَنه لَا يَقع.
وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وزرارة بِضَم الزَّاي وخفة الرَّاء الأولى ابْن أوفى على وزن أفعل من الْوَفَاء العامري قَاضِي الْبَصْرَة.
والْحَدِيث مضى فِي الْعتْق فِي: بَاب الْخَطَأ وَالنِّسْيَان فِي الْعتَاقَة وَالطَّلَاق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن مسعر عَن قَتَادَة
…
إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن الحَدِيث أخرجه الْجَمَاعَة وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا) بِالْفَتْح على المفعولية، وَذكر المطرزي عَن أهل اللُّغَة أَنهم يَقُولُونَهُ بِالضَّمِّ يُرِيدُونَ بِغَيْر اخْتِيَارهَا. قلت قَوْله: بِالضَّمِّ، لَيْسَ بجيد، بل الصَّوَاب بِالرَّفْع، وَلَا تعلق لَهُ بِأَهْل اللُّغَة بل الْكل سَائِغ فِي اللُّغَة: حدثت نَفسِي بِكَذَا، وحدثتني نَفسِي بِكَذَا. قَوْله:(مَا لم تعْمل)، أَي: فِي العمليات (أَو تَتَكَلَّم) فِي القوليات. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: من عزم على ترك وَاجِب أَو فعل محرم وَلَو بعد عشْرين سنة مثلا عصى فِي الْحَال. وَأجَاب بِأَن المُرَاد بِحَدِيث النَّفس مَا لم يبلغ إِلَى حد الْجَزْم وَلم يسْتَقرّ. أما إِذا عقد قلبه بِهِ وَاسْتقر عَلَيْهِ فَهُوَ مُؤَاخذَة بذلك الْجَزْم، نعم لَو بَقِي ذَلِك الخاطر وَلم يتْركهُ يسْتَقرّ لَا يؤاخذه خُذ بِهِ بل يكْتَسب لَهُ بِهِ حَسَنَة. وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن هَذَا من خَصَائِص هَذِه الْأمة، وَأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة كَانُوا يؤاخذون بذلك، وَقد اخْتلف أَيْضا: هَل كَانَ ذَلِك يُؤَاخذ بِهِ فِي أول الْإِسْلَام؟ ثمَّ نسخ وخفف ذَلِك عَنْهُم، أَو هُوَ تَخْصِيص وَلَيْسَ بنسخ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ الله} (الْبَقَرَة: 482) فقد قَالَ غير وَاحِد من الصَّحَابَة، مِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَابْن عَسَاكِر: إِنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) وَاعْلَم أَن المُرَاد بالْكلَام كَلَام اللِّسَان لِأَن الْكَلَام حَقِيقَة، وَقَول ابْن الْعَرَبِيّ المُرَاد بِهِ الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَإِن
القَوْل الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمَوْجُود بِالْقَلْبِ الْمُوَافق للْعلم، مَرْدُود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَه تعصبا لما حكى عَن مذْهبه من وُقُوع الطَّلَاق بالعزم وَإِن لم يتَلَفَّظ، وَلَيْسَ لأحد خلاف أَنه إِذا نوى الطَّلَاق بِقَلْبِه وَلم يتَلَفَّظ بِهِ أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْخطابِيّ عَن الزُّهْرِيّ وَمَالك: أَنه يَقع بالعزم، وَحَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ عَن رِوَايَة أَشهب عَن مَالك فِي الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالنّذر أَنه يَكْفِي فِيهِ عزمه وجزمه فِي قلبه بِكَلَامِهِ النَّفْسِيّ، وَهَذَا فِي غَايَة الْبعد ونقضه الْخطابِيّ على قَائِله بالظهار وَغَيره، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على أَنه لَو عزم على الظِّهَار لم يلْزمه حَتَّى يتَلَفَّظ بِهِ، وَلَو حدث نَفسه بِالْقَذْفِ لم يكن قَاذِفا، وَلَو حدث نَفسه فِي الصَّلَاة لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة. وَقد حرم الله الْكَلَام فِي الصَّلَاة، فَلَو كَانَ حَدِيث النَّفس فِي معنى الْكَلَام لكَانَتْ صلَاته تبطل، وَقد قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لأجهز جيشي وَأَنا فِي الصَّلَاة، وَمِمَّنْ قَالَ: إِن طَلَاق النَّفس لَا يُؤثر عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَجَابِر بن زيد وَقَتَادَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَاسْتدلَّ بِهِ جمَاعَة أَنه إِذا كتب بِالطَّلَاق وَقع لِأَن الْكِتَابَة عمل، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَأحمد بن حَنْبَل، وَشرط فِيهِ مَالك الْإِشْهَاد على الْكِتَابَة، وَجعله الشَّافِعِي غَايَة إِن نوى بِهِ الطَّلَاق وَقع وإلَاّ فَلَا، وَفِي (الْمُحِيط) : إِذا كتاب طَلَاق امْرَأَته فِي كتاب أَو لوح أَو على حَائِض أَو أَرض وَكَانَ مستبينا وَنوى بِهِ الطَّلَاق يَقع، وَإِن لم يكن مستبينا أَو كتب فِي الْهَوَاء وَالْمَاء لَا يَقع، وَإِن نوى.
وَقال قَتَادَةُ: إِذا طَلَّقَ فِي نفْسِهِ فلَيْسَ بِشَيْءٍ
وَقع هَذَا فِي بعض النّسخ قبل الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهنا أنسب كَمَا لَا يخفى على الفطن، وَوَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قتاد وَالْحسن قَالَا: من طلق سرا فِي نَفسه فَلَيْسَ طَلَاقه ذَلِك بِشَيْء.
0725 -
حدّثنا أصْبَغُ أخْبرنا ابنُ وهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شهَاب قَالَ: أَخْبرنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جابِرٍ أنَّ رجُلاً مِن أسْلَم أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهْوَ فِي المَسْجِدِ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ زَنَى، فأعْرَضَ عنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِي أعْرَضَ، فَشَهِدَ علَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهادَاتٍ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ بِك جُنُونٌ؟ هَلْ أحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فأمَرَ بِهِ أنْ يُرْجَمَ بالمُصَلَّى، فَلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحَجَارَةُ جَمَزَ حتَّى أُدْرِكَ بالحَرَّةِ فَقُتِلَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَالْمَجْنُون، فَإِن الرجل الَّذِي قتل لَو كَانَ مَجْنُونا لم يعْمل بِإِقْرَارِهِ.
وإصبغ هُوَ ابْن الْفرج بِالْجِيم أَبُو عبد الله الْمصْرِيّ يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن المتَوَكل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن يحيى وَفِي الرَّجْم عَن ابْن السَّرْح وَغَيره.
قَوْله: (أَن رجلا) هُوَ مَاعِز بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالزاي ابْن مَالك الْأَسْلَمِيّ، مَعْدُود فِي الْمَدَنِيين ونسبته إِلَى أسلم قَبيلَة. قَوْله:(فَتنحّى) قَالَ الْخطابِيّ: تفعل من نحى إِذا قصد الْجِهَة، أَي: الَّتِي إِلَيْهَا وَجهه ونحى نَحوه، وَيُقَال: قصد شقَّه الَّذِي أعرض إِلَيْهِ. قَوْله: (فَشهد على نَفسه أَربع شَهَادَات) المُرَاد بهَا أَربع أقارير.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: جَاءَ مَاعِز بن مَالك إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِن الْأَبْعَد زنى، فَقَالَ لَهُ: ويل لَك، مَا يدْريك من الزِّنَا. فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج، ثمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَة فَقَالَ مثل ذَلِك، فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج، ثمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَة فَقَالَ ذَلِك فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج. ثمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَة، فَقَالَ مثل ذَلِك، قَالَ: أدخلت وأخرجت؟ قَالَ: نعم، فَأمر بِهِ أَن يرْجم. وَسَنذكر الْخلاف فِيهِ بَين الْأَئِمَّة. وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَأحمد من حَدِيث هِشَام بن سعد: أَخْبرنِي يزِيد بن نعيم بن هزال عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ مَاعِز بن مَالك فِي حجر أبي فَأصَاب جَارِيَة من الْحَيّ. فَقَالَ لَهُ أبي: ائْتِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبرهُ بِمَا صنعت لَعَلَّه يسْتَغْفر لَك، وَإِنَّمَا يُرِيد بذلك رَجَاء أَن يكون لَهُ مخرج، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي زَنَيْت فأقم عَليّ كتاب الله عز وجل، فَأَعْرض عَنهُ إِلَى أَن أَتَاهُ الرَّابِعَة، قَالَ: هَل باشرتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: هَل جامعتها. قَالَ: نعم. فَأمر بِهِ فرجم. فَوجدَ مس الْحِجَارَة فَخرج
يشْتَد فَلَقِيَهُ عبد بن أنيس فَنزع لَهُ بوظيف بعير فَقتله، وَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هلا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّه يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ. وَزَاد فِيهِ أَحْمد: قَالَ هِشَام فَحَدثني يزِيد بن نعيم عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِين رَآهُ يَا هزال {لَو كنت سترته لَكَانَ خيرا لَك مِمَّا صنعت بِهِ. قَالَ فِي (التَّنْقِيح) إِسْنَاده صَالح وَهِشَام بن سعد روى لَهُ مُسلم وَكَذَلِكَ روى ليزِيد بن نعيم. قلت: يزِيد بن نعيم بن هزال وَيزِيد من رجال مُسلم كَمَا ذكرنَا ونعيم مُخْتَلف فِي صحبته وهزال هُوَ ابْن دياب بن يزِيد بن كُلَيْب الْأَسْلَمِيّ روى عَنهُ ابْنه وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر حَدِيثا وَاحِدًا، قَالَ أَبُو عمر مَا أَظن لَهُ غَيره، وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: يَا هزال لَو سترته بردائك.
قَوْله: (هَل بك جُنُون) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليتَحَقَّق حَاله، فَإِن الْغَالِب أَن الْإِنْسَان لَا يصر على مَا يَقْتَضِي قَتله مَعَ أَن لَهُ طَرِيقا إِلَى سُقُوط الْإِثْم بِالتَّوْبَةِ. قَوْله:(هَل أحصنت؟) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: هَل تزوجت قطّ؟ قَوْله: (بالمصلى) وَهُوَ الْموضع الَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهِ الأعياد وعَلى الْمَوْتَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالْأَكْثَر على أَنه مصلى الْجَنَائِز وَهُوَ بَقِيع الفرقد. قَوْله: (فَلَمَّا أذلقته الْحِجَارَة) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وباللام وَالْقَاف أَي أقلقته يَعْنِي: بلغ مِنْهُ الْجهد حَتَّى قلق، وَيُقَال: أَي أَصَابَته بحدها فعقرته، وذلق كل شَيْء حَده. قَوْله:(جمز) بِالْجِيم وَالْمِيم والزاء أَي: أسْرع هَارِبا من الْقَتْل، يُقَال: جمز يجمز جمزا من بَاب ضرب يضْرب. قَوْله: (حَتَّى أدْرك) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بِالْحرَّةِ) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، وَهِي أَرض ذَات حِجَارَة سود خَارج الْمَدِينَة. قَوْله:(فَقتل) على صِيغَة الْمَجْهُول.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام:
الأول: فِيهِ فَضِيلَة مَاعِز حَيْثُ لم يرجع عَن إِقْرَاره بِالزِّنَا حَتَّى رجم، وَقَالَ فِي حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه الْآن لفي أَنهَار الْجنَّة ينغمس فِيهَا، وَفِي حَدِيث أخرجه أَحْمد عَن أبي ذَر فِي قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره قَالَ: يَا أَبَا ذَر} ألم تَرَ إِلَى صَاحبكُم؟ غفر لَهُ وَأدْخل الْجنَّة.
الثَّانِي: أَنه لَا يجب حد الزَّانِي على الْمُعْتَرف بِالزِّنَا حَتَّى يقر بِهِ على نَفسه أَربع مَرَّات، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَالْحكم بن عتيبة وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد فِي الْأَصَح وَإِسْحَاق، وَاحْتَجُّوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بقوله:(فَشهد على نَفسه أَربع شَهَادَات) وَقَالَ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَعُثْمَان البتي وَالْحسن بن حَيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَأَبُو ثَوْر: إِذا أقرّ الزَّانِي بِالزِّنَا مرّة وَاحِدَة يجب عَلَيْهِ الْحَد، وَلَا يحْتَاج إِلَى مرَّتَيْنِ أَو أَكثر، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِحَدِيث الغامدية، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لأنيس: أغد يَا أنيس فارجمها، وَكَانَت اعْترفت مرّة وَاحِدَة، وَأجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَنَّهُ قد يجوز أَن يكون أنيس قد كَانَ على الِاعْتِرَاف الَّذِي يُوجب الْحَد على الْمُعْتَرف مَا هُوَ بِمَا علمهمْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فِي مَاعِز وَغَيره، وَقيل أَيْضا: إِن الرَّاوِي قد يختصر الحَدِيث فَلَا يلْزم من عدم الذّكر عدم الْوُقُوع، على أَنه قد ورد فِي بعض طرق حَدِيث الغامدية أَنه ردهَا أَربع مَرَّات، أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) فَإِن قلت: الْإِقْرَار حجَّة فِي الشَّرْع لرجحان جَانب الصدْق على جَانب الْكَذِب، وَهَذَا الْمَعْنى عِنْد التّكْرَار والتوحيد سَوَاء. قلت: هَذَا هُوَ الْقيَاس، وَلَكنَّا تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ أَنه رد ماعزا أَربع مَرَّات. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون رده أَربع مَرَّات لكَونه اتهمه بِأَنَّهُ لَا يدْرِي مَا الزِّنَا؟ قلت: روى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه: أَن مَاعِز بن مَالك الْأَسْلَمِيّ أَتَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي قد ظلمت نَفسِي وزنيت، وَإِنِّي أُرِيد أَن تطهرني فَرده، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي قد زَنَيْت، فَرده الثَّانِيَة، فَأرْسل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، إِلَى قومه فَقَالَ: أتعلمون بعقله بَأْسا تنكرون مِنْهُ شَيْئا؟ فَقَالُوا: مَا تعلمه إلَاّ وَفِي الْعقل من صالحينا فِيمَا نرى، فَأَتَاهُ الثَّالِثَة فَأرْسل إِلَيْهِم أَيْضا فَسَأَلَهُمْ عَنهُ فأخبروه أَنه لَا بَأْس بِهِ وَلَا بعقله، فَلَمَّا كَانَت الرَّابِعَة حفر لَهُ حُفْرَة
…
الحَدِيث، فقد غفل الْكرْمَانِي عَن هَذَا الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: الْإِقْرَار بالأربع لم يكن على سَبِيل الْوُجُوب بِدَلِيل أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: أغد يَا أنيس على امْرَأَة هَذَا، فَإِن اعْترفت فارجمها، وَلم يشْتَرط عددا، وَقد مر الْجَواب الْآن عَن حَدِيث أنيس وَكَيف لَا يشْتَرط الْعدَد، وَقد ورد فِي حَدِيث أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لماعز: إِنَّك قد قلتهَا أَربع مَرَّات، وَفِي لفظ لَهُ عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّك شهِدت على نَفسك أَربع مَرَّات، وَفِي لفظ لِابْنِ أبي شيبَة: أَلَيْسَ أَنَّك قلتهَا أَربع مَرَّات؟ فرتب الرَّجْم على الْأَرْبَع، وإلَاّ فَمن الْمَعْلُوم أَنه قَالَهَا أَربع مَرَّات.
الثَّالِث: أَن الْإِحْصَان شَرط فِي الرَّجْم لقَوْله صلى الله عليه وسلم: (هَل أحصنت) والإحصان على نَوْعَيْنِ: إِحْصَان الرَّجْم وإحصان الْقَذْف. أما إِحْصَان الرَّجْم فَهُوَ فِي الشَّرْع عبارَة عَن اجْتِمَاع صِفَات اعتبرها لوُجُوب الرَّجْم وَهِي سَبْعَة: الْعقل وَالْبُلُوغ، وَالْحريَّة، والاسلام، وَالنِّكَاح الصَّحِيح، وَالدُّخُول فِي النِّكَاح الصَّحِيح. وَأما إِحْصَان الْقَذْف فخمسة: الْعقل، والبلوع وَالْحريَّة، وَالْإِسْلَام، والعفة عَن الزِّنَا. وَشرط أَبُو حنيفَة الْإِسْلَام فِي الْإِحْصَان لقَوْله صلى الله عليه وسلم: من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن. رَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم: من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَيْسَ الْإِسْلَام بِشَرْط فِي الْإِحْصَان لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين. قُلْنَا: كَانَ ذَلِك بِحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة فَصَارَ مَنْسُوخا بهَا، ثمَّ نسخ الْجلد فِي حق الزَّانِي الْمُحصن.
الرَّابِع: أَنه صلى الله عليه وسلم لم يجمع فِي مَاعِز بَين الْجلد وَالرَّجم، وَقَالَ الشّعبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَأحمد فِي رِوَايَة: يجلد الْمُحصن ثمَّ يرْجم، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الصَّحَابَة. مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب وَأبي بن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وَغَيرهم، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر: أَن رجلا زنى فَأمر بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فجلد، ثمَّ أخبر أَنه كَانَ قد أحصن فَأمر بِهِ فرجم، رَوَاهُ أَب دَاوُد والطَّحَاوِي، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَعبد الله بن الْمُبَارك وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْأَصَح: حد الْمُحصن الرَّجْم فَقَط لحَدِيث مَاعِز. فَإِن قلت: روى عبَادَة بن الصَّامِت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا: الْبكر يجلد وينفى، وَالثَّيِّب يجلد ويرجم، رَوَاهُ مُسلم وَغَيره. قلت: حَدِيث عبَادَة مَنْسُوخ بِحَدِيث العسيف، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: فَإِن اعْترفت فارجمها
…
الحَدِيث، وَهَذَا آخر الْأَمريْنِ، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة مُتَأَخِّرَة الْإِسْلَام وَلم يتَعَرَّض فِيهِ للجلد، وَاسْتدلَّ الأصوليون أَيْضا على تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا وَلم يجلده، وَآيَة الْجلد شَامِلَة للمحصن وَغَيره.
الْخَامِس: فِيهِ: الاستفسار عَن حَال الَّذِي اعْترف فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لماعز: (هَل أحصنت؟) وَجَاء فِي حَدِيثه أَيْضا: هَل جامعتها وَهل باشرتها، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَأقبل فِي الْخَامِسَة، فَقَالَ: أنكحتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ حَتَّى غَابَ ذَلِك مِنْك فِي ذَلِك مِنْهَا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: كَمَا يغيب المرود فِي المكحلة والرشاء فِي الْبِئْر؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَهَل تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نعم، أتيت مِنْهَا حَرَامًا مثل مَا أَتَى الرجل من امْرَأَته حَلَالا
…
الحَدِيث.
وَفِي حَدِيث مَاعِز يُسْتَفَاد أَحْكَام أُخْرَى غير مَا ذكرنَا هُنَا.
مِنْهَا: أَن السّتْر فِيهِ مَنْدُوب لقَوْل النَّبِي صلى الله عليه وسلم لهزال لما أرسل ماعزا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ: لَو سترته بثوبك لَكَانَ خير لَك، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن يزِيد بن نعيم عَن أَبِيه، وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: من ستر مُسلما ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَمِنْهَا: أَنه صلى الله عليه وسلم أخر الْحَد إِلَى أَن يتم الْإِقْرَار أَربع مَرَّات. وَمِنْهَا: أَن على الإِمَام أَن يرادد الْمقر بِالزِّنَا بقوله: لَعَلَّك قبلت أَو مسست، وَفِي لفظ البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي: لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت. قَالَ: لَا. قَالَ: أفنلتها؟ قَالَ: نعم.
وَمِنْهَا: أَن المرجوم يصلى عَلَيْهِ، كَمَا روى البُخَارِيّ على مَا سَيَأْتِي فِي كتاب الْمُحَاربين: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، فَذكر قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره، ثمَّ أَمر بِهِ فرجم، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خيرا، وَصلى عَلَيْهِ. فَإِن قلت: قيل للْبُخَارِيّ قَوْله: وَصلى عَلَيْهِ، قَالَه غير معمر، قَالَ: لَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن المتَوَكل وَالْحسن بن عَليّ كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الْحسن بن عَليّ بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن يحيى وَمُحَمّد بن رَافع ونوح بن حبيب، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَقَالُوا كلهم فِيهِ: وَلم يصل عَلَيْهِ. قلت: أُجِيب بِأَن معنى قَوْله: فصلى عَلَيْهِ، دَعَا لَهُ، وَبِهَذَا تتفق الْأَخْبَار، وَلَكِن يُعَكر على هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّة الزبيرِي عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي بكر عَن أبي أَيُّوب عَن أبي أُمَامَة بن سهل الْأنْصَارِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى الظّهْر يَوْم رجم مَاعِز، فطول فِي الْأَوليين حَتَّى كَاد النَّاس يعجزون من طول الصَّلَاة، فَلَمَّا انْصَرف وَمر بِهِ فرجم فَلم يصل حَتَّى رَمَاه عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلحي بعير فَأصَاب رَأسه فَقتله، وَصلى عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالنَّاس فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر: حَدثنِي ثِقَة من أهل الْبَصْرَة عَن أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على مَاعِز بن مَالك وَلم ينْه عَن الصَّلَاة عَلَيْهِ. قلت: ضعفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) بِأَن فِيهِ مَجَاهِيل. فَإِن قلت:
أخرج أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس: أَن مَاعِز بن مَالك أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّه زنى، فَأمر بِهِ فرجم وَلم يصل عَلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : إِسْنَاده صَحِيح. قلت: أخرجه النَّسَائِيّ مُرْسلا، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَإِن رِوَايَة الْإِثْبَات مُقَدّمَة لِأَنَّهَا زِيَادَة علم.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا يفعل بالمرجوم كَمَا يفعل بِسَائِر الْمَوْتَى لما روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) فِي كتاب الْجَنَائِز حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن أبي حنيفَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ:(لما رجم مَاعِز قَالُوا: يَا رَسُول الله {مَا نصْنَع بِهِ؟ قَالَ: اصنعوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بموتاكم من الْغسْل والكفن والحنوط وَالصَّلَاة عَلَيْهِ) .
وَمِنْهَا: أَنه يحْفر للمرجوم، لما رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَتَاهُ رجل يُقَال إِنَّه زنى، فَأَعْرض عَنهُ ثمَّ ثنى ثمَّ ثلث ثمَّ ربع فَأمرنَا فَحَفَرْنَا لَهُ فرجم. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : أما الْحفر للمرجوم والمرجومة فَفِيهِ مَذَاهِب للْعُلَمَاء، قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنْهُم: لَا يحْفر لوَاحِد مِنْهُمَا. وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو حنيفَة فِي رِوَايَة: يحْفر لَهما، وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة وأصحابنا: لَا يحْفر للرجل سَوَاء ثَبت زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أم بِالْإِقْرَارِ، وَأما الْمَرْأَة فَفِيهَا ثَلَاثَة أوجه لِأَصْحَابِنَا: أَحدهَا: يسْتَحبّ الْحفر إِلَى صدرها ليَكُون أستر لَهَا. وَالثَّانِي: لَا يسْتَحبّ وَلَا يكره بل هُوَ إِلَى خيرة الإِمَام. وَالثَّالِث: وَهُوَ الْأَصَح: إِن ثَبت زنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ اسْتحبَّ، وَإِن ثَبت بِالْإِقْرَارِ فَلَا يُمكنهَا الْهَرَب إِن رجعت فَإِن قلت: فِي حَدِيث أبي ذَر الْمَذْكُور الْحفر، وَجَاء فِي حَدِيث أبي سعيد أخرجه مُسلم: أَن رجلا من أسلم
…
الحَدِيث. وَفِيه: فَمَا وثقناه وَلَا حفرنا لَهُ قلت: قَالُوا: إِن المُرَاد فِي قَوْله: وَلَا حفرنا لَهُ، يَعْنِي: حُفْرَة عَظِيمَة.
وَمِنْهَا: دَرْء الْحَد عَن الْمُعْتَرف إِذا رَجَعَ كَمَا ورد فِي حَدِيث مَاعِز، أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ:(جَاءَ مَاعِز الْأَسْلَمِيّ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّه قد زنى) الحَدِيث، وَفِي آخِره: هلا تركتموني؟ يَعْنِي حِين ولى ماعزها هَارِبا من ألم الْحِجَارَة، وَأخْبر بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ذَلِك.
وَمِنْهَا: أَن المرجوم والمقتول فِي الْحُدُود والمحاربة وَغَيرهم يصلى عَلَيْهِم، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا يُصَلِّي أحد على المرجوم وَقَاتل نَفسه، وَأَبُو يُوسُف مَعَه فِي قَاتل النَّفس، وَقَالَ قَتَادَة: لَا يُصَلِّي على ولد الزِّنَا.
وَمِنْهَا: أَن الإِمَام وَأهل الْفضل يصلونَ على المرجوم كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيرهم، خلافًا لبَعض الْمَالِكِيَّة.
وَمِنْهَا: أَن التَّلْقِين للرُّجُوع يسْتَحبّ لِأَن حذ الزِّنَا لَا يحْتَاط لَهُ بالتحرير والتنقير عَنهُ بل الِاحْتِيَاط فِي دَفعه، وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤا الْحُدُود عَن الْمُسلمين مَا اسْتَطَعْتُم فَإِن كَانَ لَهُ مخرج فَخلوا سَبيله، فَإِن الإِمَام لَو يخطىء فِي الْعَفو خير لَهُ من أَن يخطىء فِي الْعقُوبَة) . وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ، وَأخرج ابْن مَاجَه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إدفعوا الْحُدُود مَا وجدْتُم لَهُ مدفعا) . وَفِي سَنَده إِبْرَاهِيم بن الْفضل وَهُوَ ضَعِيف. وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تعافوا الْحُدُود فِيمَا بَيْنكُم فَمَا بَلغنِي من حد فقد وَجب) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُخْتَار التمار عَن أبي مطر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: (إدرؤا الْحُدُود) ومختار هُوَ ابْن نَافِع ضَعِيف، وروى ابْن عدي من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إدرؤا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ، وأقيلوا الْكِرَام عثراتهم إلَاّ فِي حد من حُدُود الله) .
1725 -
حدّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِي قَالَ: أخبَرَني أبُو سلَمةَ بنُ عبْدِ الرحْمانِ وسعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أتَى رجُلٌ مِنْ أسْلَمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهْوَ فِي المَسْجِدِ فَنادَاهُ فَقَالَ: يَا رسولَ الله} إنَّ الآخِرَ قَدْ زَنَى، يَعْنِي نَفْسَهُ، فأعْرَضَ عنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وجِهِهِ الَّذِي أعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إنَّ الآخرَ قَدْ زَنَى، فأعْرضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وجْهِهِ الَّذِي أعْرَضَ قِبَلَهُ، فَقَالَ لهُ ذالِكَ، فأعْرَضَ عنهُ فَتَنَحَّى لهُ الرَّابِعَةَ، فَلمَّا شَهِدَ علَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ