الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْكَافِرُونَ (87)} لوقوع التَّعطُّف كالآية السَّابقة، وقد جاء مع الانسجام ما يعرف في علم البيان بالاستعارة المكنيَّة، وذلك في قوله:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} فقد استعير الرَّوح، وهو تنسيم الرِّيح للفرج الَّذي يعقب الشِّدَّة.
والبديع أو البيان الَّذي يأتي مع الانسجام، إنَّما هو كالواسطة في العقد، وكالشَّذْرة في القلادة يفصل بها نظم الذَّهَب.
عطف أحد اللَّفظين المتجاورين في المعنى على الآخر
قد يعطف أحد اللَّفظين المتقاربين في المعنى على الآخر بقصد التَّأكيد، ومنه قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
…
(86)} فالبثُّ والحزن بينهما تجاور في المعنى، ولعلَّه كرَّره للتَّأكيد على شدَّة الخطب النَّازل به عليه السلام، ومنه في التَّنزيل قوله تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
…
(146)} [آل عمران] وقوله تعالى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)} [طه].
عَبْرَة وعِبْرَة
قَوْلُ أولاد يعقوب لأبيهم لمَّا غلبه الحزنُ: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)} لم يكن قولاً ليِّناً مترفَّقاً فيه مع أبيهم كما يجب، مع ما فيه من دلالة على إشفاقهم على أبيهم، ولهم قول غليظ سابق سجَّله القرآن الكريم، فقد قالوا في معزلٍ:{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)} ، ونحن نعلم أنَّ الله تعالى أمر أن نقول للنَّاس حسناً، فقال سبحانه: {وَقُولُوا
…
لِلنَّاسِ حُسْنًا
…
(83)} [البقرة]، فما بالك بالقول للوالدين!
ونعلم أنَّ الله تعالى نهى الولد عن أمرين، وأمره بثلاثة: نهاه عن إظهار أدنى شواهد التَّضجُّر والتَّبرُّم أمام الوالدين أو في غيبتهما، فقال:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ونهاه عن زجرهما، فقال:{وَلَا تَنْهَرْهُمَا} وهذه الآية إنَّما سيقت لاحترام الوالدين وتوقيرهما ومعرفة قدرهما، والتَّحذير من عقوقهما.
وأمر لهما بالقول الكريم الجميل المتلطَّف فيه: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء] وبخفض الجناح لهما ذلَّاً وتواضعاً ورحمةً: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء]، وبالدُّعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء]
واعلم أنَّ الله تعالى أخبرنا عن سيِّدنا يحيى عليه السلام، فقال:{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} [مريم] وعن سيِّدنا عيسى عليه السلام، فقال حكاية عنه:{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)} [مريم].
وقد رأينا فِتْيَةً من أهل زماننا جبَّارين يرفعون أصواتهم لا أقول عند وإنَّما على آبائهم وأمَّهاتهم، وكأنَّهم يجهلون أنَّ الله تعالى قد أمر بالإحسان إلى مَنْ كان مِنْ أهلِ وِدِّهما، فكيف بالإحسان لهما! ألم يجعل الله تعالى حقَّ الوالدين في مرتبة تالية لحقِّه سبحانه، فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
…
(23)} [الإسراء] وقرن شكره بشكرهما، فقال:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان]
واعلم أنَّ والديك مهما بالَغْتَ في برِّهما فلن تَفِيَ بشكرهما؛ فلو أنَّ إنساناً أحسن إليك مرَّة، فهل كنت تنسى أنَّ له يداً عليك لا توفَّى؟ فكيف بمن أحسن إليك الحياة مرَّة بعد مرَّة، وله عليك أيادٍ بيضاء لا تُدْرَك ولا تُدَانَى، فكيف لك أنْ تجزي أَمَنَّ