الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} ، ونَسَبَ ما وقع من إخوته إلى الشَّيطان، تأدُّباً معهم، ولم يكتف، بل قَسَمَ النَّزغ بينه وبينهم، مع أنَّه لم يشاركهم في شيء إظهاراً لعذرهم، وهذا فيه إشارة إلى تحقُّق تأويل يعقوب عليه السلام من إتمام النِّعمة والعلم على يُوسُفَ عليه السلام {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بخَلْقِهِ {الْحَكِيمُ (100)} في تدبيره وصنعه.
سَبْقُ ما يقتضي التَّقديم
ورد قول الله تعالى: {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} في سور ة الأنعام ثلاث مرّات في ختام ثلاث آيات، وورد قوله تعالى:{عَلِيمٌ حَكِيمٌ} في سورة يُوسُفَ ثلاث مرّات في ختام ثلاث آيات أيضاً، ويلاحظ تقدُّم لفظ حكيم على عليم في سورة الأنعام، وتأخُّره في سورة يُوسُفَ، فما الحكمة؟
التَّقديم والتَّأخير يكونان بحسب الأهميَّة، والأهميَّة لا يراد بها الأفضليَّة، فقد يتأخَّر الفاضل ويتقدَّم المفضول، كما في قوله تعالى:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التّين] فقد تأخَّر القَسَمُ بالبلد الأمين (مكّة) وهو الأفضل، وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
…
(40)} [الحجّ] ويلاحظ تأخُّر المساجد، وهي الأفضل.
وإنَّما المراد بالأهميَّة مراعاة الوجوه البلاغيَّة والمقاصد البيانيَّة، فلا يتقدَّم لفظٌ على لفظٍ في آية ولا يتأخّر في آية أخرى عبثاً، وإنَّما يكون مقصوداً ومراداً، فالمعاني القرآنية مؤاخية للألفاظ بحيث لا يمكن أن يتقدَّم لفظٌ على لفظ ويؤدي معناه.
ففي سور ة الأنعام، قال تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)} [الأنعام] ومن نَظَرَ نَظَرَ اللَّبيب
الحَصِيف اتَّضح له أنَّ الآية تتحدَّث أوَّلاً عن حكمة الله تعالى في إيتاء إبراهيم ـ عليه السلام ـ حجَّته على قومه ورفعه درجات، وتتحدَّث ثانياً عن علم الله تعالى أنَّ إبراهيم أهل لذلك.
وقال في سورة الأنعام: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} [الأنعام] والمتأمّل في الآية يعلم أنَّها تتحدَّث أوّلاً عن حكمة الله تعالى في خلق الإنس والجنّ، وسنَّته في الهداية والإضلال، وعلمه ثانياً بمن يستحقُّ الخلود في النَّار.
وقال في سورة الأنعام: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)} [الأنعام] والمتدبّر في الآية يعلم أنَّها تتحدَّث أوّلاً عن حكمته سبحانه في إلغاء أحكام ابتدعها أهل الجاهليَّة على ما أرادوا، وإبطال ما شرعوه من حلال وحرام على ما اعتادوا، وعلمه ثانياً بكذبهم وما يستحقّونه من جزاء.
أمّا في سورة يُوسُفَ، فقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
…
إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} والنّاظر في الآية يعلم أنَّها تتحدَّث أوّلاً عن عِلْم الله بأنَّ يُوسُفَ يستحقّ الاجتباء، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
…
(124)} [الأنعام]، وأنَّ الله تعالى يعلّمه بعلمه من تأويل الأحاديث، وتتحدَّث ثانياً عن حكمته سبحانه حيث يضع الأمور في مواضعها.
وقال تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي