الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وممَّا يدلُّ على تستُّره على اسم الملك قوله بعد ذلك: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} لا إلى الملك، أو لعلَّه أخفى اسم الملك لظنِّه أنَّ هذه الرُّؤيا لا تتعلَّق بالملك وحده، وإنَّما تعمُّ النَّاس، ولذلك عَمَّم، فقال:{لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)} مكانَك وشأنك، فيكون ذلك سبباً لخروجك من السِّجن.
وكرَّر (لعلَّ) الَّتي تفيد الرَّجاء، فهو يرجو أن يرجع بتعبير الرّؤيا إلى الملك؛ لينال عنده منزلة، فهذا معنى قوله:{لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} فالنَّاس الملك أوَّلهم، وقوله:{لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)} جاء تتميماً للمعنى وتقريراً له، وهو توقُّع النَّاس ورجاؤهم في معرفة تعبير هذه الرّؤيا وتأويلها، فالكلام إذا تكرَّر تقرَّر.
تأويل يوسف ـ عليه السلام ـ رؤيا الملك
فلمَّا سَمِعَ يُوسُفُ منه الرُّؤيا أجابه إلى طلبه على الفَوْر دون قيد ولا شرط، فالعِلْم لا يُكْتَمُ، والعَالم لا يصيرُ جاهلاً، والكريم لا يصيرُ بخيلاً، فأوَّل له البقرات السِّمان والسُّنبلات الخضر سنين مخصبة، والبقرات العجاف والسُّنبلات اليابسات سنين مُجْدِبة.
وأنَّ عليهم أنْ يواظبوا على الزِّراعة في السِّنين السَّبع المخْصِبة، ويدَّخروا فيها ليواجهوا خَطَرَ السِّنين المُجْدِبة، ثمَّ تنقضي السُّنون المجدبة التي تأتي على ما ادَّخروا، ويعقبُها عامُ رَخَاءٍ وخير وبركة، وهو العام الخامس عشر.
فقال ـ عليه السلام ـ على وجه النُّصح والإرشاد: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} متوالية بجدٍّ واجتهاد، وهي السُّنون السَّبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السِّمان والسُّنبلات الخضر. وقوله:{تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} هو من إطلاق الخبر بمعنى الأمر، فالمعنى: ازرعوا سبع سنين دأباً، بدليل قوله بعد ذلك:{فَذَرُوهُ} .
{فَمَا حَصَدْتُمْ} من الزَّرع {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} لئلَّا يُسَوِّسَ، واحتفظوا به في سنابله لتأكلوه في تلك السّنين {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)} إلَّا ما أردتم أكله، فادرُسُوهُ واتركوا الباقي في سُنْبله، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} وهي السُّنون السَّبع المُجْدِبة المرموز لها بالبقرات العِجَاف والسُّنبلات اليابسات.
{يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} : مجاز عقلي؛ لأنَّ السّنين لا تَأْكُلُ، وإنَّما يأكل النَّاس ما ادَّخروه فيها، أي تأكلون فيها ممَّا ادَّخرتُم من الحبوب المتروكة في سنابلها أيام الرَّخاء {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)} أي إلَّا القليل الَّذي تدَّخرونه وتخبِّئونه للزِّراعة والاقتصاد.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} خصيبٌ {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} بالمَطَرِ {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} ما يُعْصَرُ، مثل: الزَّيتون، والسِّمْسِم، ونحو ذلك. وهذا العام لم تتضمَّنه الرُّؤيا!
وبهذا يكون يُوسُفُ ـ عليه السلام ـ قد دبَّر شؤون أهل مصر الاقتصاديَّة، فهو لم يقتصر على تأويل الرُّؤيا، بل علَّمهم ما يصنعون، وبيَّن لهم ما يعملون، ودبَّر لهم المخرج ممَّا عسى به يُصابُون.
وممَّا تجدُر الإشارة إليه أنَّ يُوسُفَ مِن كَرَمِ أخلاقه، ونُبْل شُعُورِه لم يُعَاتِب السَّاقِي لعدم قيامه بما كان طَلَبَ منه، ولم يطلب منه تأكيد ذكره عند الملك، إذ ما بعد الشِّدَّة إلَّا الفَرَج، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشَّرح] فاللَّيل إذا اشتدَّ ظلامُه أوشكَ الفجرُ أن ينبلجَ نورُه، والشِّدَّة إذا تَنَاهَتْ لم يَعْقُبْها إلَّا الفَرَجُ، والمصائبُ إذا تَوَالتْ تَولَّتْ، وإنَّ الفرج مع الكرب، وإنَّ النَّصر مع الصَّبر، والله ـ لا ريب ـ يُحْدِثُ بعد العُسْرِ ميْسَرةً.
فإذا ما ضاقتْ بك الأيَّام واستحكمت حلقاتُها؛ فأبشر بالفرج، فلا يعقب