الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسَّلام ـ بعد إغراقهم كان رغداً واسعاً حسناً بإيمان المؤمنين وخصب الأرض"
(1)
.
مَا رَأَى رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النَّقِيَّ (الدَّقيق المنقَّى)
!
قوله {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)} فيه حُسْنُ تدبير عظيم من يُوسُفَ ـ عليه السلام ـ، فقد أمرهم أن يتركوا الحبَّ في سُنْبلِه، لادِّخار القمح لهم، وادِّخار حطام السَّنابل من التِّبن وعصيف البُرِّ لسوائمهم وبهائمهم.
ومن الجدير معرفته أنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقام في المدينة المنوَّرة عشر سنين ولم يشبع من طعام بُرّ ثلاث ليال متوالية حتَّى فارق الدُّنيا، قالت عائشة رضي الله عنها:"مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُنْذُ قَدِمَ الْمدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِض"
(2)
ويظهر أنَّ البُرَّ في المدينة كان قليلاً، وكان الأغلب الشَّعير، ومع هذا لم يشبع ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خبز الشَّعير حتَّى لحق بالله، أخرج البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ:" خَرَجَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ "
(3)
وقد صحَّ أنَّ النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رأى النَّقيَّ، أي خبز الدَّقيق الحُوَّارَى النَّظيف الأبيض المسمَّى الدَّرْمَك، المُنَقَّى دقيقُهُ، فلم يكن يعرف المناخل ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يوم بُعِثَ حتَّى لقي الله تعالى، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم، فقد كان أغلب طعامهم الشَّعير غير المنخول، ففي كتاب (الأطعمة) وتحت باب (ما كان النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه يأكلون) ورد أنَّ أبا حَازِمٍ سأل سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وقال له:
" هَلْ أَكَلَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النَّقِيَّ؟ فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأَى رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النَّقِيَّ
(1)
البقاعي "نظم الدّرر"(ج 5/ص 543).
(2)
البخاري " صحيح البخاري"(م 4/ج 7/ص 180) كتاب الرّقاق.
(3)
البخاري " صحيح البخاري"(م 3/ج 6/ص 205) كتاب الأطعمة.
مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ الله حَتَّى قَبَضَهُ الله، قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأَى رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُنْخُلًا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ الله حَتَّى قَبَضَهُ الله، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟! قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ، وَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ
(1)
، فَأَكَلْنَاهُ "
(2)
وقد أشكل على البعض كيف أنَّ النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطوي الأيام ذات العدد جوعاً، وهو بين أصحابه، ومنهم من يملك الأموال الجسام، كأمثال: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرّحمن بن عوف، وغيرهم كثيرـ رضي الله عنهم! وكيف يُوصَفُ النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، وقد ثبت أنَّه لم يكن معوزاً ولا محتاجاً، فقد ساق ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الهدي مائة بدنة في السَّنة الَّتي حجَّ بها، ونحر منها بيده الشَّريفة ثلاثاً وستين بدنة، ثمَّ أعطى عليّاً فنحر ما بقي منها، وقسّمها على المساكين، فقد أخرج مسلم من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ: "
…
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ"
(3)
والجواب أنَّ عدم شبعهم لم يكن على كلِّ حالة ووجه، ولم يكن عن عوز وضيق، ولكنَّهم كانوا يؤثرون تارَة، وتارَة لكراهة الشَّبع والتَّوسُّع في المأكل والمشرب، وعلى هذه الخليقة كانت خلائق الصَّحابة رضي الله عنهم.
وحديث عائشة رضي الله عنها فيه قيود، فقولها:"مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ" فيه أنَّ الشَّبع المنفي بقيد المدينة، فاستثنت بذلك ما كان قبل الهجرة، وقولها:"مِنْ طَعَامِ بُرٍّ " فيه استثناء لأنواع الأطعمة الأخرى، وقولها:"ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا" نَفَت الشَّبع على التَّوالي لا مطلقاً.
* * *
(1)
بَلَلْنَاهُ وليَّنَّاه بالماء.
(2)
البخاري "صحيح البخاري"(م 3/ج 6/ص 204) كتاب الأطعمة.
(3)
مسلم " صحيح مسلم بشرح النّووي "(م 4/ج 7/ص 191).