الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع: في أحوال الرواية؛ وفيه مباحث:
1-
رواية الحديث بالمعنى:
اعلم أنه قد رخص في سوق الحديث بالمعنى، دون سياقه على اللفظ، جماعة منهم: علي، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأبو هريرة رضي الله عنهم ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم منهم إمام الأئمة الحسن البصري ثم الشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة نقل ذلك عنهم في كتب سيرهم بأخبار مختلفة الألفاظ، وقال ابن سيرين:"كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة" وكذلك اختلفت ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من يرويه تاما ومنهم من يأتي بالمعني، ومنهم من يورده مختصرًا وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعا إذا لم يخالف المعنى، وكلهم لا يتعمد الكذب، وجميعهم يقصد الصدق، ومعنى ما سمع فلذلك وسعهم وكانوا يقولون:"إنما الكذب على من تعمده" وقد رُوِيَ عن عمران بن مسلم، قال رجال للحسن: يا أبا سعيد إنما تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقا، وأجود تحبيرًا، وأفصح به لسانا منه إذا حدثنا به. فقال:"إذا أصيب المعنى فلا بأس بذلك" وقد قال النضر بن شميل: "كان هشيم لحانا فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة -يعني بالإعراب- وكان النضر بن شميل نحويًّا، وكان سفيان يقول: "إذا رأيتم يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس، فاعلم أنه يقول: اعرفوني" قال: وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه
فقال له يحيى: يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى، قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد!.
وفي شرح التقريب1 للحافظ السيوطي في النوع السادس والعشرين، في الفرع الرابع منه، ما نصه مع بعض اختصار:"إن لم يكن الراوي عالما بالألفاظ، خبيرًا بما يحيل معانيها لم تجز له الرواية، لما سمعه بالمعنى بلا خلاف، بل يتعين اللفظ الذي سمعه فإن كان عالمًا بذلك فقالت طائفة من أهل الحديث والفقه والأصول: لا يجوز إلا بلفظه، وإليه ذهب ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي من الحنفية، ورُوِيَ عن ابن عمر وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف، منهم الأئمة الأربعة: يجوز بالمعنى في جميع ذلك إذا قطع بأداء المعنى؛ لأن ذلك هو الذي يشهد به أحوال الصحابة والسلف، ويدل عليه رواياتهم اللفظة الواحدة بألفاظ مختلفة، وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن منده في: "معرفة الصحابة" والطبراني في: "الكبيرة" من حديث عبد الله بن سليمان بن أكثم الليثي قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني إذا سمعت منك الحديث لا أستطيع أن أرويه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفًا فقال: "إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس" فذكرت ذلك للحسن فقال: "لولا هذا ما حدثنا! " وقد استدل الشافعي لذلك بحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" 2. وروى البيهقي عن مكحول قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على وأثلة بن الأسقع فقلنا له: "حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه وهم ولا تزيد ولا نسيان! " فقال: "هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا فقلنا: نعم وما نحن بحافظين له جدًّا إنا نريد الواو والألف وننقص فقال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظا، وإنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن لا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة؟ حسبكم إذا حدثنا كم بالحديث على المعنى".
1 ص61.
2 أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي وغيرهم من حديث أبي وغيره.
وأسند أيضًا في: "المدخل" عن جابر بن عبد الله قال حذيفة: "إنا قوم عرب نورد الحديث فنقدم ونؤخر" وأسند أيضًا عن شعيب بن الحجاب قال: "دخلت أنا، وعبدان على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد الرجل يحدث بالحديث فيزيد فيه، أو ينقص منه" قال: "إنما الكذب من تعمد ذلك".
وأسند أيضًا عن جرير بن حازم، قال:"سمعت الحسن يحدث بأحاديث الأصل واحد والكلام مختلف" وأسند عن ابن عمون قال: "كان الحسن وإبراهيم والشعبي يأتون بالحديث على المعاني" وأسند عن أويس قال: "سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال: هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث وإذا أصيب معنى الحديث فلم يحل به حراما، ولم يحرم حلالا فلا بأس" ونقل ذلك سفيان عن عمرو بن دينار وأسند عن وكيع قال: "إن لم يكن المعنى واسعًا فقد هلك الناس". ا. هـ. "ذكره السيد مرتضى في شرح الإحياء".
وقال الحكيم الترمذي قدس الله سره في كتابه: "نوادر الأصول":
الأصل الثامن والستون والمائتان: في سرد رواية الحديث بالمعنى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم1: "نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلغه كما سمع منا فإنه رب مبلغ هو أوعى له من سامع" ثم رواه عن زيد بن ثابت، وجبير بن مطعم قال الترمذي قدس سره اقتضى العلماء الأداء، وتبليغ العلم فلو كان اللازم لهم أن يؤدوا تلك الألفاظ التي بلغت أسماعهم بأعيانها بلا زيادة، ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير كانوا يستودعونها الصحف كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقران فكان إذا نزل الوحي دعا الكاتب فكتبه مع ما توكل الله له يجمعه، وقرآنه فقال2:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . وقال3: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فكان الوحي محروسا بكتبه ولو كانت هذه الأحاديث سبيلها
1 راجع تخريج هذا الحديث في ص48.
2 سورة القيامة الآية: 17.
3 سورة يوسف الآية 12، 63.
هكذا لكتبها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل جاءنا عن أحد منهم أنه فعل ذلك؟ وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيفة فأذن له، وأما سائر الأخبار فإنهم تلقوها منه حفظًا وأدوها حفظًا فكانوا يقدمون ويؤخرون، وتختلف ألفاظ الرواية فيما لا يتغير معناه فلا ينكر ذلك منهم، ولا يرون بذلك بأسًا.
ثم أسند الترمذي قدس سره عن أبي هريرة وعبد الله بن أكيمة مرفوعًا جواز ذلك إذا لم يحرم حلال ولم يحل حرام وأصيب المعنى كما تقدم قيل ثم قال الترمذي: "فمن أراد أن يؤدي إلى من بعده حديثًا قد سمعه جاز له، أن يغير لفظه ما لم يتغير المعنى". ا. هـ.
وقال الإمام ابن فارس في جزئه في المصطلح في الكلام على من كان من الرواة يتورع في أداء اللفظ الملحون ويكتب عليه "كذا" ما مثاله: "هذا التثبت حسن لكن أهل العلم قد يتساهلون إذا أدوا المعنى، ويقولون: لو كان أداء اللفظ واجبا حتى لا يغفل منه حرف لأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإثبات ما يسمعون منه كما أمرهم بإثبات الوحي الذي لا يجوز تغيير معناه ولا لفظه فلما لم يأمرهم بإثبات ذلك دل على أن الأمر في التحديث أسهل وإن كان أداء ذلك اللفظ الذي سمعه أحسن". ا. هـ.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "وأما الرواية بالمعنى فالخلاف فيها شهير، والأكثر على الجواز أيضًا ومن أقوى حججهم الإجماع على شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به. فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى فجوازه باللغة العربية أولى، وقيل: إنما يجوز في المفردات دون المركبات، وقيل: إنما يجوز لمن يستحضر اللفظ ليتمكن من التصرف فيه، وقيل: إنما يجوز لمن كان يحفظ الحديث فنسي لفظه، وبقي معناه مرتسمًا في ذهنه فله أن يرويه بالمعنى لمصلحة تحصيل الحكم منه بخلاف من كان مستحضرًا للفظه وجميع ما تقدم يتعلق بالجواز وعدمه، ولا شك أن الأولى إيراد الحديث بألفاظه دون التصرف فيه قال القاضي عياض: "ينبغي سد باب الرواية بالمعني لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن كما وقع لكثير من الرواة قديمًا وحديثًا والله الموفق".