الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
24-
بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي:
قال الإمام ولي الله الدهلوي قدس سره تحت هذا العنوان في الحجة البالغة ما نصه1: "اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب، وإبراهيم والزهري، وفي عصر مالك وسفيان، وبعد ذلك يكرهون الخوص بالرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدا. وكان أكبرهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. سئل عبد الله بن مسعود عن شيء فقال: إني لأكره أن أحل لك شيئا حرمه الله عليك، أو أحرم ما أحله الله لك، وقال معاذ بن جبل: يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فإنه لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سرد وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل، وقال ابن عمر لجابر بن زيد إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت، وأهلكت، وقال أبو النصر لما قدم أبو سلمة البصرة أتيته أنا، والحسن فقال للحسن: أنت الحسن؟ ما كان أحد بالبصرة أحب إلى لقاء منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول أو كتابًا منزلا. وقال ابن المنكدر: إن العالم يدخل فيما بين الله وبين عبادة، فليطلب لنفسه المخرج، وسئل الشعبي: كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير، وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول. وقال الشعبي: ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ به وما قالوه برأيهم فألقه في الحش "أخرج هذه الآثار عن آخرها الدارمي".
"فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام وكتابه الصحف والنسخ،
1 ص118.
حتى قل من يكون أهل الرواية إلا كان له تدوين أو صحيفة أو نسخة من حاجتهم، لموقع عظيم، فطاف من أدرك من عظائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان وجمعوا الكتب، وتتبعوا النسخ وأمعنوا في التفحص غريب الحديث، ونوادر الأثر فاجتمع باهتمام أولئك من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحد قبلهم، ويتسر لهم ما لم يتيسر لأحد قبلهم، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيء كثير حتى كان يكثر من الأحاديث عندهم مائة طريق فما فوقها فكشف بعض الطرق ما استتر في بعضها الآخر، وعرفوا محل كل حديث من الغرابة والاستفاضة وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديث صحيحة كثيرة لم تظهر على أهل الفتوى من قبل قال الشافعي: لأحمد أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا "حكاه ابن الهمام" وذلك لأنه كم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلد خاصة كأفراد الشاميين والعراقيين أو أهل بيت خاصة كنسخة بريد عن أبي بردة عن أبي موسى، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو كان الصحابي مقلا خاملا لم يحمل عنه إلا شرذمة قليلون فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامة أهل الفتوى، واجتمعت عندهم آثار فقهاء كل بلد من الصحابة والتابعين، وكان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديث بلده وأصحابه، وكان من قبلهم يعتمدون في معرفة أسماء الرجال ومراتب عدالتهم على ما يخلص إليهم من مشاهدة الحال، وتتبع القرائن وأمعنت هذه الطبقة في هذا الفن، وجعلوه شيئًا مستقلًّا بالتدوين والبحث، وناظروا في الحكم بالصحة وغيرها فانكشف عليهم بهذا التدوين والمناظرة ما كان خافيًا من حال الاتصال والانقطاع، وكان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث كما ذكره أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة، وكان أهل هذه الطبقة يروون أربعين ألف حديث فما يقرب منها بل صح عن البخاري أنه اختصر صحيحة من
ستة آلاف حديث. وعن أبي داود أنه اختصر سننه من خمسة آلاف حديث، وجعل أحمد مسنده ميزانًا يعرف به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما وجد فيه ولو بطريق واحد منه! فله وإلا فلا أصل له، فكان رءوس هؤلاء عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وأبو بكر بن أبي شيبة، ومسدد وهناد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن واهويه، والفضل بن دكين وعلي المديني وأقرانهم، وهذه الطبقة هي الطراز الأول من طبقات المحدثين فرجع المحققون منهم بعد إحكام فن الرواية، ومعرفة مراتب الأحاديث إلى الفقه فلم يكن عندهم من الرأي أن يجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يَرَون من الأحاديث والآثار المناقضة في كل مذهب من تلك المذاهب فأخذوا يتبعون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين والمجتهدين على قواعد أحكموها في نفوسهم وأنا أبينها في كلمات يسيرة.
"كان عندهم أنه إذا وجد في المسألة قرآن ناطق فلا يجوز التحول إلى غيره، وإذا كان القرآن محتملًا لوجوه فالسنة قاضية عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان مستفيضًا دائرًا بين الفقهاء أو يكون مختصًّا بأهل بلد أو أهل بيت أو بطريق خاصة، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به، ومتى كان في المسألة حديث فلا يتبع فيها خلاف أثر من الآثار، ولا اجتهاد أحد من المجتهدين وإذا فرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث ولم يجدوا في المسألة حديثًا أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم ولا بلد دون بلد كما كان يفعل من قبلهم فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المقنع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علمًا وأورعهم ورعًا أو أكثرهم ضبطًا أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شئيًا يستوي فيه قولان فهي مسألة ذات قولين فإن عجزوا عن ذلك أيضًا تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب إذا كانتا متقاربتين بادي الرأي لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن ما يخلص إلى الفهم ويثلج به الصدر كما أنه ليس ميزان
التواتر عدد الرواة، ولا حالهم ولكن اليقين الذي يعقبه في قلوب الناس. وكانت هذه الأصول مستخرجه عن صنيع الأوائل وتصريحاتهم، وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا؛ فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وعن شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه:"إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به. ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تتقدم فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، وعن عبد الله بن مسعود قال أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هنالك وإن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون ولا يقل إني أخاف وإني أرى1 فإن الحرام بين والحلال بين، وبين ذلك أمور مشتبهة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وكان ابن عباس إذا سئل عن الأمر، فإن كان في القرآن أخبر به
1 رواه بنحو هذا الطبراني في الأوسط عن عمر، وأخرجه الشيخان وأصحاب السنن من حديث النعمان بن بشير بلفظ: الحلال بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس. وله تتمة.
وإن لم يكن في القرآن، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به، وإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه.
عن ابن عباس أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فلان، عن قتاده قال حدث ابن سيرين رجلًا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: قال فلان كذا وكذا
…
فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: قال فلان كذا وكذا عن الأوزاعي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب، ولم تمض فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمش قال كان إبراهيم يقول: يقوم1 عن يساره، فحدثته عن سميع الزيات عن ابن عباس2 أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامه عن يمينه، فأخذ به. عن الشعبي: جاءه رجل يسأله عن شيء فقال: كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا، قال: أخبرني أنت برأيك، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ أخبرته عن ابن مسعود ويسألني عن رأيي! وديني عندي آثر من ذلك! والله لأن أتغنى بأغنية3 أحب إليَّ من أن أخبرك برأيي. "أخرج هذه الآثار كلها الدارمي".
وأخرج الترمذي عن أبي السائب، قال: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر4 رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أبو حنيفة: "هو مثله" قال الرجل: فإنه قد روى عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثله، قال: رأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا وقال أقول لك قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: قال إبراهيم؟! ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا!! عن عبد الله بن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 أي المتقدى عن يسار الإمام. ا. هـ.
2 أخرجه الشيخان وأصحاب السنن.
3 الأغنية: واحدة الأغاني. ا. هـ.
4 الإشعار: أن يضرب في صفحة سنام الهدى من الجانب الأيمن بحديد حتى يتلطخ بالدم ظاهرًا. ا. هـ.
"وبالجملة فلما مهدوا الفقه على هذه القواعد، فلم تكن مسألة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم، والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثًا مرفوعًا متصلًا أو مرسلًا أو موقوفًا، صحيحًا أو حسنًا أو صالحًا للاعتبار، أو وجدوا أثرًا من آثار الشيخين، أو سائر الخلفاء وقضاءة الأمصار، وفقهاء البلدان، أو استنباطًا من عموم، أو إيماء أو اقتضاء، فيسر الله لهم العمل بالنسبة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأنًا وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة، وأتمهم فقهًا أحمد بن محمد بن حنبل ثم إسحاق بن راهويه، وكان ترتيب الفقه على هذا الوجه يتوقف على جمع شيء كثير من الأحاديث والآثار.
"ثم أنشأ الله تعالى قرنًا آخر، فرأوا أصحابهم قد كفوا مئونة جمع الأحاديث، وتمهيد الفقه على أصلهم فتفرغوا لفنون أخرى، كتمييز الحخديث الصحيح المجمع عليه بين كبراء أهل الحديث كزيد بن هارون، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد، وإسحاق، وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم، وكالحكم على كل حديث بما يستحقه، وكالشاذة والفاذة من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم يخرجوها من جهتها الأوائل، مما فيه اتصال أو علو سند أو رواية فقيه عن فقيه أو حافظ عن حافظ، ونحو ذلك من المطالب العلمية، وهؤلاء هم: البخاري ومسلم وأبو داود وعبد الله بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي والخطيب والديلمي وابن عبد البر وأمثالهم. وكان أوسعهم علمًا عندي، وأنفعهم تصنيفًا وأشهرهم ذكرًا رجال أربعة، متقاربون في العصر:
أولهم: أبو عبد الله البخاري، وكان غرضه تجريد الأحاديث الصحاح المستفيضة المتصلة من غيرها، واستنباط الفقه والسيرة والتفسير منها، فصنف جامعه الصحيح، ووفى بما شرط. وبلغنا أن رجلًا من الصالحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول: مالك اشتغلت بفقه محمد بن إدريس وتركت كتابي؟ قال: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: صحيح البخاري. ولعمري! إنه نال من الشهرة والقبول درجة لا يرام فوقها.
وثانيهم: مسلم النيسابوي توخى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة، مما يستنبط منه السنة، وأراد تقريبها إلى الأذهان، وتسهيل الاستنباط منها، فرتب ترتيبًا جيدًا وجمع طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتن، وتشعب الأسانيد أصرح ما يكون، وجمع بين المختلفات، فلم يدع لمن له معرفة لسان العرب عذرًا في الإعراض عن السنة إلى غيرها.
وثالثهم: أبو داود السجستاني، وكان همته جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم، وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار، فصنف سننه، وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل. قال أبو داود:"ما ذكرت في كتابي حديثًا أجمع الناس على تركه" وما كان منها ضعيفًا صرح بضعفه، وما كان فيه علة بينهما بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن. وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليه ذاهب، ولذلك صرح الغزالي وغيره بأن كتابه كافٍ للمجتهد.
ورابعهم: أبو عيسى الترمذي، وكأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بينا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب، فجمع كلتا الطريقتين وزاد عليهما بيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، فجمع كتابًا جامعًا، واختصر طرق الحديث اختصارًا لطيفًا، فذكر واحدًا، وأومأ إلى ما عداه، وبين أمر كل حديث من أنه صحيح أو حسن أو ضعيف أو منكر وبين وجه الضعف، ليكون الطالب على بصيرة من أمره، فيعرف ما يصلح للاعتبار عما دونه. وذكر أنه مستفيض أو غريب. وذكر مذاهب الصحابة وفقهاء الأمصار، وسمى من يحتاج إلى التسمية، وكنى من يحتاج إلى الكنية، ولم يدع خفاء لمن هو من رجال العلم؛ ولذلك يقال: إنه كاف للمجتهد، مغن للمقلد.
"وكان بازاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان وبعدهم قوم لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، ويقولون: على الفقه بناء الدين، فلا بد من إشاعته، ويهابون رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرافع إليه، حتى قال الشعبي: على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، فإن كان
فيه زيادة أو نقصان، كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال إبراهيم: أقول: قال عبد الله وقال علقمة أحب إلينا. وكان ابن مسعود إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربد1 وجهه وقال: هكذا أو نحوه. وقال عمر حين بعث رهطًا من الأنصار إلى الكوفة: إنكم تأتون الكوفة فتأتون قومًا لهم أزيز2 بالقرآن، فيأتونكم فيقولون: قد أصحاب محمد، فيأتونكم، فيسألونكم عن الحديث، فأفلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عون: كان الشعبي إذا جاءه شيء اتقى، وكان إبراهيم يقول ويقول "أخرج هذه الآثار الدارمي".
"فوقع تدوين الحديث والفقه أو المسائل من حاجتهم بموقع من وجه آخر، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقول علماء البلدان وجمعها والبحث عنها، واتهموا أنفسهم في ذلك، وكانوا اعتقدوا في أتمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق، وكان قلوبهم أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال علقمة: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟ وقال أبو حنيفة: إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة أفقه من ابن عمر؛ وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم، و "كل ميسر لما خلق له" 3 و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون} 4 فمهدوا الفقه على قاعدة التخريج، وذلك أن يحفظ كل أحد كتاب من هو لسان أصحابه وأعرفهم بأقوال القومن وأصحهم نظرًا في الترجيح، فيتأمل في كل مسألة وجه الحكم، فكلما سئل عن شيء أو احتاج إلى شيء، رأي فيما يحفظه من تصريحات أصحابه، فإن وجد الجواب فيها، وإلا نظر إلى عموم كلامهم، فأجراه على هذا الصورة أو إشارة ضمنية لكلام، فاستنبط منها، وربما كان لبعض الكلام إيمان أو اقتضاء يفهم المقصود، وربما كان للمسألة المصرح بها نظير يحمل عليها، وربما نظروا في علة الحكم المصرح به بالتخريج أو باليسر والحذف، فأداروا حكمه على غير المصرح به، وربما كان له
1 تربد: تغير.
2 أي صوت بالبكاء.
3 أخرجه الشيخان في الصحيحين.
4 المؤمنون، الآية:54.