الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث التحيل على إسقاط حكم أو قلبه
…
21-
بحث التحيل على إسقاط أو قلبه:
روى أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" وفي رواية: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها" أي أذابوها قال الخطابي: "في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه".
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "وجه الدلالة ما أشار إليه الإمام أحمد أن اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم، أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها، على وجه لا يقال في الظاهر إنهم انتفعوا بالشحم، فجملوه وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك لئلا يكون الانتفاع في الظاهر بعين المحرم ثم مع كونهم احتالوا بحيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله تعالى على لسان رسوله على هذا الاستحلال نظرًا إلى المقصود، وأن حكمه التحريم لا تختلف سواء كان جامدًا أو مائعًا، وبدل الشيء يقوم مقامه ويسد مسده فإذا حرم الله الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة فعلم أنه لو كان التحريم معلقًا بمجرد اللفظ، وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود إلى الشيء المحرم، وحقيقته لم يستحقوا اللعنة لوجهين.
أحدهما: أن الشحم خرج بجمله عن أن يكون شحمًا، وصار ودكًا، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا، إلى أن يصير بيعًا عند من يستحل ذلك، فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة:"دراهم بدراهم دخلت بينها حريرة" فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين بلا حيلة البتة لا في شرع ولا عقل ولا عرف بل المفسدة، ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ومن رسوله، ويتوعده أشد توعد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه مع قيام تلك المفسدة وزيادتها تبعث الاحتيال في مقته ومخادعة الله ورسوله هذا لا يأتي به شرع، فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب المراقي يترابى المترابيان على رأسه فيا لله العجب أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتياط والخداع، فهل صار هذا الذئب العظيم -الذي هو من أكبر الكبائر عند الله- حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال، تالله كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبث إلى الطيب، ومن المفسدة إلى المصلحة
وجعله محبوبًا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له؟ وإن كان الاحتيال يبلغ هذا المبلغ، فإنه عند الله عز وجل ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة، وإنه من أقوى دعائم الدين، وأوثق عراه وأجل أصوله. ويا لله العجب كيف تزول مفسدة التحليل التي أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعن فاعله مرة بعد أخرى بتسليف شرطه وتقديمه على صلب العقد وإخلاء صلب العقد من لفظه، وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه وأي غرض للشارع، وأي حكمة في تقديم الشرط وتسليفه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلًّا، وهل كان عقد التحليل مسخوطًا لله ورسوله بحقيقته ومعناه أم لعدم حقيقة مقارنة الشرط له وحصول نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول نكاح التحليل، وهكذا الحيل الربوبة فإن الربا لم يكن حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت، وبأي لفظ عبر عنها فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له.
الوجه الثاني: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه. ويلزم من راعي الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك؛ فلما لعنوا على استحلال الثمن، وإن لم ينص على تحريمه، علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة. ونظير هذا أن يقال لرجل: لا تقرب مال اليتيم، فيبيعه ويأخذ ثمنه، ويقول: لم أقرب ماله! وكمن يقول لرجل: لا تشرب من هذا النهر فيأخذ بيديه ويشرب من كفيه، ويقول: لم أشرب منه وبمنزلة من يقول: لا تضرب زيدًا فيضربه فوق ثيابه، ويقول إنما ضربت ثيابه، وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم، ولو استعملها المريض لكان مرتكبًا لنفس ما نهاه عنه الطبيب كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض فيدقه، ويعمل منه هريسة، ويقول: لم آكل اللحم وهذا المثال مطابق العامة الحيل الباطلة في الدين، ويا لله العجب أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين صريحًا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلًا بل دخولها كخروجها؟ ولهذا
لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها، ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك البتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن جدي أو عودًا من حطب، أدخلوه محللًا للربا، ولما تفطن المحتالون إلى أن هذه المسألة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودة بوجه، وأن دخولها كخروجها تهاونوا بها ولم يبالوا بكونها مما يتحول عادة، أو لا يتحول ولا يبالي بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا واقع من أرباب الحيل وهذا لما علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة، وقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل كأي يتس اتفق في باب محلل النكاح، وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له لا تسلم على صاحب بدعة فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل له اذهب فاملأ هذه الجرة فذهب وملأها ثم تركها على الحوض، وقال: لم يقل ائتني بها، وكمن قال لوكيله بع هذه السلعة فباعها بدرهم، وهي تساوي مائة، ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع، ويلزم به الموكل وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع، وكمن أعطاء رجلًا ثوبًا فقال: والله لا ألبسه لما فيه من المنة فباعه، وأعطاه ثمنه فقبله وكمن قال: والله لا أشرب هذا الشراب فجعله عقيدًا أو ثرد فيه خبزًا وأكله، ويلزم من وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد من فعل ذلك بالخمر، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن من الأمة من يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال:"لتشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف، والقينات يخسف الله بهم ويجعل منهم القردة والخنازير" رواه أحمد وأبو داود.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعًا وموقوفًا من حديث ابن عباس: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه، والسحت بالهدية والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح والربا بالبيع" وهذا حق فإن استحلال الربا
باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع، وحقيقتها حقيقة الربا. ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه. فهب أن المرابي لم يسمه ربا، وسماه بيعًا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها، وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحل من استحل المسكر من غير عصير العنب، وقال: لا اسميه خمرًا وإنما هو نبيذ كما يستحلها طائفة إذا مزجت، ويقولون: خرجت بالمزج عن اسم الخمر كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق، وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدًا، ويقول: هذه عقيد لا خمر، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا الاسم ولا الصورة، وأما استحلال السحت باسم الهدية فهو أظهر من أن يذكر كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما فإن المرتشي ملعون هو والراشي لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعًا أنهما لا يخرجان عن اللعنة، وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له اطلاع على الحيل أنها رشوة، وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسًا وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر، وأما استحلال الزنا بالنكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له أن تقيم معه ولا أن تكون زوجته وإنما غرضه أن يقضي منها وطره ويأخذ جعلا على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته، وقد علم الله ورسوله والملائكة والروح والمرأة أنه محلل لا ناكح1، وأنه ليس بزوج وإنما هو تيس مستعار2 للضراب. فيا لله العجب أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا. نعم هذا زنا بشهود من البشر، وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرح به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم أنه إنما يريد أن يحلها، والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له، هذا زنا قال: ليس بزنا، بل نكاح.
كما أن المرابي إذا قيل له هذا ربا، قال: بل هو بيع، ولو أوجب تبدل الأسماء والصور
1 في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي والترمذي من حديث ابن مسعود وقال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، قال الترمذي حديث حسن صحيح.
2 تسميته بالتيس المستعار هو في سن ابن ماجه من حديث عقبة بن مالك مرفوعًا.
تبدل الأحكام والحقائق، لفسدت الديانات، وبدلت الشرائع واضمحل الإسلام. هذا ملخص ما أفاده في هذه المسألة الإمام ابن القيم في:"إعلام الموقعين"1 وذكر رحمه الله أيضًا فيه حكم الحيلة في إسقاط الزكاة إذا كان في يده نصاب بأن يبيعه، أو يهبه قبل الحول ثم يشتريه فقال: "هذه حيلة محرمة باطلة، ولا يسقط ذلك عنه فرض الله الذي فرضه، وأوعد بالعقوبة الشديدة من ضيعة وأهمله، فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة، وقد استقرت سنة الله سبحانه في خلقه شرعًا وقدرًا على معاقبة العبد بنقيض قصده كما حرم القاتل الميراث وورث المطلقة في مرض الموت، وكذلك الفار العبد من الزكاة لا يسقطها عنه فراره ولا يعان على قصد الباطل فيتم مقصودة ويسقط مقصود الرب سبحانه وتعالى. وكذلك عامة الحيل أنى يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع، وكذلك المجامع في نهار رمضان إذا تغدى أو شرب الخمر أولًا ثم جامع قالوا لا تجب عليه الكفارة، وهذا ليس بصحيح فإن ضمه إلى إثم الجماع إثم الأكل، والشرب لا يناسب التخفيف عنه بل يناسب تغليظ الكفارة عليه فسبحان الله هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مفطر قبله أو للجناية على زمن الصوم الذي لم يجعله الله محلا للوطء وانقلبت كراهة الشرع له محبة، ومنعه إذنا هذا من المحال، فتأمل كيف تتضمن الحيل المحرمة مناقضة الدين وإبطال الشرائع، ويا لله العجب! أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور فتعالى شارع هذه الشريعة الفائقة على كل شريعة أن يشرع فيها الحيل التي تسقط فرائضه وتحل محارمه وتبطل حقوق عباده وتفتح للناس أبواب الاحتيال، وأنواع المكر والخداع، وأن يبيح التوصل بالأسباب المشروعة إلى الأمور المحرمة المنوعة، وقد أخبر الله سبحانه عن عقوبة المحتالين على حل ما حرمه عليهم، وإسقاط ما فرضه عليهم في غير موضع من كتابه قال أبو بكر
1 ص107 ج3.
الآجرى -وقد ذكر بعض الحيل الربوية التي يفعلها الناس- لقد مسخت اليهود قردة بدون هذا، ولقد صدق إذا أكل حوت صيد يوم السبت، أهون عند الله وأقل جرمًا من أكل الربا الذي حرمه الله بالحيل والمخادعة، ولكن قال الحسن: عجل لأولئك عقوبة تلك الأكلة الوخيمة وأرجئت عقوبة هؤلاء فهذه العظائم والمصائب الفاضحات لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح فكيف بم يعلم السر وأخفى، وإذا وازن اللبيب بين حيلة أصحاب السبت والحيل التي يتعاطاها أرباب الحيل في كثير من الأبواب ظهر له التفاوت، ومراتب المفسدة التي بينها وبين هذه الحيل فإذا عرف قدر الشرع وعظمة الشارع وحكمته وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح عبادة تبين له حقيقة الحال وقطع بأن الله سبحانه تنزه وتعالى أن يسوغ لعبادة نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال. ا. هـ.
وكما بسط رحمه الله الكلام في ذلك في: "إعلام الموقعين" أطنب فيه أيضًا في كتابه: "إغائة اللهفان" اهتمامًا بهذا الموضوع، ومما جاء فيه قوله1 ومن مكايده -يعني الشيطان- التي كاد بها الإسلام، وأهله الحيل والمكر والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه فإن الرأي رأيان رأي يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به، ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار فهو الذي ذموه وأنكروه، وكذلك الحيل نوعان نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي فهذا النوع محمود ظالمًا والظالم مظلومًا والحق باطلًا والباطل حقًّّّّا فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض. قال الإمام أحمد رحمه الله لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم
1 ص183 طبع بمصر.