المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده: - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث

[جمال الدين القاسمي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌خطبة الكتاب:

- ‌الباب الأول: في التنويه بشأن الحديث وفيه مطالب

- ‌ شرف علم الحديث:

- ‌ فضل راوي الحديث:

- ‌ الأمر النبوي برواية الحديث وإسماعه:

- ‌ حث السلف على الحديث:

- ‌ إجلال الحديث وتعظيمه والرهبة من الزيغ عنه:

- ‌ فضل المحامي عن الحديث والمحيي للسنة:

- ‌ أجر المتمسك بالسنة إذا اتبعت الأهواء وأوثرت الدنيا:

- ‌ بيان أن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع:

- ‌ ما روي أن الحديث من الوحي:

- ‌ أيادي المحدثين البيضاء على الأمة وشكر مساعيهم:

- ‌الباب الثاني: في معنى الحديث وفيه مباحث

- ‌ماهية الحديث والخبر والأثر

- ‌ بيان الحديث القدسي:

- ‌ ذكر أول من دون الحديث:

- ‌ بيان أكثر الصحابة حديثا وفتوى:

- ‌ ذكر صدور التابعين في الحديث وألفتيا:

- ‌الباب الثالث: في بيان علم الحديث؛ وفيه مسائل

- ‌ ماهية علم الحديث؛ رواية ودراية وموضوعه وغايته:

- ‌ المقصود من علم الحديث:

- ‌ حد المسند والمحدث والحافظ:

- ‌الباب الرابع: في معرفة أنواع الحديث وفيه مقاصد

- ‌ بيان المجموع من أنواعه:

- ‌ بيان الصحيح:

- ‌بيان الصحيح لذاته والصحيح لغيره

- ‌ تفاوت رتب الصحيح:

- ‌ أثبت البلاد في الحديث الصحيح في عهد السلف:

- ‌ أقسام الصحيح:

- ‌ معنى قولهم أصح شيء في الباب كذا:

- ‌ أول من دون الصحيح:

- ‌ بيان أن الصحيح لم يستوعب في مصنف:

- ‌ بيان أن الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا اليسير:

- ‌ ذكر من صنف في أصح الأحاديث:

- ‌بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث المباركة

- ‌ بيان الحديث الحسن ذكر ماهيته:

- ‌ بيان الحسن لذاته ولغيره:

- ‌ ترقي الحسن لذاته إلى الصحيح بتعدد طرقه:

- ‌ بيان أول من شهر الحسن:

- ‌ معنى قول الترمذي: "حسن صحيح

- ‌ الجواب عن جمع الترمذي بين الحسن والغرابة على اصطلاحه:

- ‌ مناقشة الترمذي في بعض ما يصححه أو يحسنه:

- ‌ بيان أن الحسن على مراتب:

- ‌ بيان كون الحسن حجة في الأحكام:

- ‌ قبول زيادة راوي الصحيح والحسن:

- ‌بيان ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوى والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول

- ‌ بيان الضعيف ماهية الضعيف وأقسامه:

- ‌ تفاوت الضعيف:

- ‌ بحث الضعيف إذا تعددت طرقه:

- ‌ذكر قول مسلم رحمه الله إن السراوى عن الضعفاء غاش آثم جاهل

- ‌ تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه:

- ‌ تحذير الإمام مسلم من روايات القصاص والصالحين:

- ‌ ذكر المذاهب في الأخذ بالضعيف واعتماد العمل به في الفضائل:

- ‌ الجواب عن رواية بعض كبار الأئمة عن الضعفاء:

- ‌ ما شرطه المحققون لقبول الضعيف:

- ‌تزييف درع الموسوسين في المتفق على ضعفه

- ‌ ترجيح الضعيف على رأي الرجال:

- ‌ بحث الدواني في الضعيف:

- ‌ مسائل تتعلق بالضعيف:

- ‌ ذكر أنواع تشترك في الصحيح والحسن والضعيف:

- ‌ ذكر أنواع تختص بالضعيف:

- ‌ ذكر مناقشة الفريق الأول لما ذكره أهل المذهب الثاني:

- ‌ ذكر المذهب الثالث في المرسل ممن اعتدل في شأنه وفصل فيه:

- ‌ بيان أكثر من تُروى عنهم المراسيل والموازنة بينهم:

- ‌ ذكر مرسل الصحابة:

- ‌ مراتب المرسل:

- ‌ بحث قول الصحابي من السنة كذا وقوله أمرنا بكذا ونهينا عن كذا:

- ‌ الكلام على الخبر المتواتر وخبر الآحاد:

- ‌ بيان أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل:

- ‌ الكلام على الحديث الموضوع وفيه مباحث:

- ‌الباب الخامس: في الجرح والتعديل وفيه مسائل

- ‌ بيان طبقات السلف في ذلك:

- ‌ بيان أن جرح الضعفاء من النصيحة:

- ‌ بحث تعارض الجرح والتعديل:

- ‌ بيان أن تجريح بعض رجال الصحيحين لا يعبأ به:

- ‌ الناقلون المبدعون:

- ‌ الناقلون المجهولون:

- ‌ قول الراوي حدثني الثقة أو من لا يتهم هل هو تعديل له

- ‌ما وقع في الصحيحين وغيرهما من نحو: اين فلان، أو ولد فلان

- ‌ قولهم: عن فلان أو فلان وهما عدلان

- ‌ من لم يذكر في الصحيحين أو أحدهما لا يلزم منه جرحه:

- ‌ اقتصار البخاري على رواية من روايات إشارة إلى نقد في غيرها:

- ‌ ترك رواية البخاري لحديث لا يوهنه:

- ‌ بيان أن من روى له حديث في الصحيح لا يلزم صحة جميع حديثه:

- ‌ما كان من روى المناكير ضعيف

- ‌ متى يترك حديث المتكلم فيه:

- ‌ جواز ذكر الراوي بلقبه الذي يكرهه للتعريف وأنه ليس بغيبة له:

- ‌ الاعتماد في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب المصنفة في ذلك:

- ‌ بيان عدالة الصحابة أجمعين:

- ‌بيان معنى الصحابي

- ‌ تفاضل الصحابة:

- ‌الباب السادس: في الإسناد؛ وفيه مباحث

- ‌ فضل الإسناد:

- ‌ معنى السند والإسناد والمسند والمتن:

- ‌ أقسام تحمل الحديث:

- ‌بحث وحيز في الإجازة، ومعنى قولهم: أجزت له كذا بشرطه

- ‌ أقدم إجازة عثرت عليها:

- ‌ هل قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا بمعنى واحد أم لا

- ‌ قول المحدث وبه قال حدثنا:

- ‌ الرمز بـ: "ثنا" و"نا" و"أنا" و"ح

- ‌ عادة المحدثين في قراءة الإسناد:

- ‌ الإتيان بصيغة الجزم في الحديث الصحيح والحسن دون الضعيف:

- ‌ متى يقول الراوي "أو كما قال

- ‌السر في تفرقة البخارى بين قوله: حديثا فلان، وقال لى فلان

- ‌ سر قولهم في خلال ذكر الرجال: يعني ابن فلان أو هو ابن فلان:

- ‌ قولهم: دخل حديث بعضهم في بعض:

- ‌ قولهم: "أصح شيء في الباب كذا

- ‌ قولهم: "وفي الباب عن فلان

- ‌ أكثر ما وجد من رواية التابعين بعضهم عن بعض:

- ‌ هل يشترط في رواية الأحاديث السند أم لا:

- ‌ فوائد الأسانيد المجموعة في الأثبات:

- ‌ ثمرة رواية الكتب بالأسانيد في الأعصار المتأخرة:

- ‌ بيان أن تحمل الأخبار على الكيفيات المعروفة من ملح العلم لا من صلبه وكذا استخراج الحديث من طرق كثيرة:

- ‌ توسع الحفاظ رحمهم الله تعالى في طبقات السماع:

- ‌ بيان الفرق بين المخرج "اسم فاعل" والمخرج "اسم مكان

- ‌ سر ذكر الصحابي في الأثر ومخرجه من المحدثين:

- ‌الباب السابع: في أحوال الرواية؛ وفيه مباحث:

- ‌ رواية الحديث بالمعنى:

- ‌ جواز رواية بعض الحديث بشروطه:

- ‌ سر تكرار الحديث في الجوامع والسنن والمسانيد:

- ‌5- ذكر الخلاف في الاستشهاد بالحديث على اللغة والنحو وكذلك بكلام الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم:

- ‌الباب الثامن: في‌‌ آداب المحدثوطالب الحديث وغير ذلك؛ وفيه مسائل

- ‌ آداب المحدث

- ‌ آداب طالب الحديث:

- ‌ ما يفتقر إليه المحدث:

- ‌ما يستحب للمحدث عند التحديث

- ‌ بيان طرق درس الحديث:

- ‌ أمثلة من لا تقبل روايته ومنهم من يحدث لا من أصل مصحح:

- ‌ الأدب عند ذكره تعالى وذكر رسوله والصحابة والتابعين:

- ‌ الاهتمام بتجويد الحديث:

- ‌الباب التاسع: في كتب الحديث؛ وفيه فوائد

- ‌ بيان طبقات كتب الحديث:

- ‌ بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة الحافظ ابن حجر في التدريب:

- ‌ بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة السيوطي في الجامع الكبير والجامع الصغير:

- ‌بيان ما اشتمل على الصحيح فقظ أو مع غيره من هذه الكتب المرموز بها

- ‌ الرجوع إلى الأصول الصحيحة

- ‌ إذا كان عند العالم الصحيحان:

- ‌ هل يجوز الاحتجاج في الأحكام بجميع ما في هذه الكتب من غير توقف أم لا? وهل تعذر التصحيح في الأزمان المتأخرة أم لا

- ‌ الاهتمام بمطالعة كتب الحديث:

- ‌ ذكر أرباب الهمة الجليلة في قراءتهم كتب الحديث في أيام قليلة:

- ‌ قراءة البخاري لنازلة الوباء:

- ‌الباب العاشر: في فقه الحديث

- ‌ بيان أقسام ما دون في علم الحديث:

- ‌ بيان كيفية تلقي الأمة الشرع من النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌ بيان أن السنة حجة على جميع الأمة وليس عمل أحد حجة عليها:

- ‌ العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم:

- ‌ لزوم الإفتاء بلفظ النص مهما أمكن:

- ‌ حرمة الإفتاء بضد لفظ النص:

- ‌ رد ما خالف النص أو الإجماع:

- ‌ تشنيع المتقدمين على من يقول العمل على الفقه لا على الحديث:

- ‌ رد الإمام السندي الحنفي رحمه الله على من يقول ليس لمثلنا أن يفهم الحديث:

- ‌ رد الإمام السندي رحمه الله أيضًا على من يقرأ كتب الحديث لا للعمل:

- ‌ التحذير من التعسف في رد الأحاديث إلى المذاهب:

- ‌الترهيب من عدم توقير الحديث وهجر من يعرض عنه والغضب لله في ذلك

- ‌ما ينفى من قول أحد عند قول النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ ما يقوله من بلغه حديث كان يعتقد خلافه:

- ‌ما روى عن السلف في الرجوع إلى حديث

- ‌ حق الأدب فيما لم تدرك حقيقة من الأخبار النبوية:

- ‌ بيان إمرار السلف الأحاديث على ظاهرها:

- ‌ قاعدة الإمام الشافعي رحمه الله في مختلف الحديث:

- ‌ فذلكة وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض:

- ‌ بحث الناسخ والمنسوخ:

- ‌بحث التحيل على إسقاط حكم أو قلبه

- ‌ بيان أسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع:

- ‌ بيان أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء:

- ‌ بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي:

- ‌ بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده:

- ‌ فتوى الإمام تقي الدين أبي العباس فيمن تفقه على مذهب:

- ‌ بيان معرفة الحق بالدليل:

- ‌ بيان أن معرفة الشيء ببرهانه طريقة القرآن الكريم:

- ‌ بيان أن من المصالح هذه المذاهب المدونة وفوائد مهمة من أصل التخريج على كلام الفقهاء وغير ذلك:

- ‌ بيان وجوب موالاة الأئمة المجتهدين وأنه إذا وجد لواحد منهم قول صح الحديث بخلافة فلا بد له من عذر في تركة وبيان العذر:

- ‌الخاتمة في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثري:

- ‌ سبيل الترقي في علوم الدين:

- ‌ قاعدة المحققين في مسائل الدين وعلماء الفرق:

- ‌ وصية الغزالي في معاملة المتعصب:

- ‌ بيان من يسلم من الأغلاط:

- ‌تتمة في مقصدين:

- ‌فهرس:

الفصل: ‌ بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده:

كلامان، لو اجتمعا على هيئة القياس الاقتراني أو الشرطي، أنتجا جواب المسألة؛ وربما كان في كلامهم ما هو معلوم بالمثال والقسمة، غير معلوم بالحد الجامع المانع، فيرجعون إلى أهل اللسان، ويتكلفون في تحصيل ذاتياته، وترتيب حد جامع مانع له، وضبط مبهمه، وتمييز مشكله، وربما كان كلامهم محتملًا بوجهين، فينظرون في ترجيح أحد المحتملين، وربما يكون تقريب الدلائل خفيًّا، فيبينون ذلك؛ وربما استدل بعض المخرجين من فعل أئمتنهم وسكوتهم ونحو ذلك، فهذا هو التخريج، ويقال له: القول المخرج لفلان كذا على مذهب فلان أو على أصل فلان، أو على قول فلان، وجواب المسألة كذا وكذا، ويقال لهؤلاء: المجتهدون في المذهب، وعنى هذا الاجتهاد على هذا الأصل من قال: من حفظ المبسوط كان مجتهدًا! أي: وإن لم يكن له علم برواية أصلًا، ولا بحديث واحد، فوقع التخريج في كل مذهب وكثر، فأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسد إليهم القضاء والإفتاء، واشتهر تصانيفهم في الناس، ودروسوا درسًا ظاهرًا انتشر في أقطار الأرض. ولم يزل ينشر كل حين، وأي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين". ا. هـ.

ص: 344

25-

‌ بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده:

قال الإمام أبو زيد الدبوسي رحمه الله تعالى في تقويم الأدلة: "كان الناس في الصدر الأول أعني: الصحابة والتابعين والصالحين يبنون أمورهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة، ثم بأقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصح بالحجة؛ فكان الرجل يأخذ بقول عمر في مسألة، ثم يخالفه بقول علي في مسألة أخرى. وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة أنهم وافقوا مرة، وخالفوه أخرى، بحسب ما تتضح لهم الحجة، ولم يكن المذهب في الشريعة عمريًّا، ولا علويًّا، بل النسبة كانت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا قرونًا أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم، فلما ذهبت

ص: 344

التقوى عن عامة القرن الرابع، وكسلوا عن طلب الحجج، جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم، فصار بعضهم حنفيًّا، وبعضهم مالكيًّا، وبعضهم شافعيًّا، ينصرون الحجة بالرجال، ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب، ثم كان قرن بعدهم اتبع عالمه كيف ما أصابه بلا تمييز، حتى تبدلت السنن بالبدع، فضل الحق بين الهوى". ا. هـ.

وقال العلامة الدهلوي في الحجة البالغة، في باب حكاية حال الناس قبل المائة الرابعة وبعدها1:"اعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجتمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه. قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: إن الكتب والمجموعات محدثة، والقول بمقالات الناس، والفتيا بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله، والحكاية له من كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس قديمًا على ذلك في القرنين الأول والثاني". ا. هـ.

قال الدهلوي قدس سره: "وبعد القرنين، حدث فيهم شيء من التخريج، غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له، والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع، بل كان فيهم العلماء والعامة، وكان من خبر العامة أنهم كانوا في المسائل الإجماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع، وكانوا يتعلمون من الوضوء والغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم، فيمشون حسب ذلك، وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفت وجدوا من غير تعيين مذهب، وكان من خبر الخاصة أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث، فيخلص إليهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح قد عمل به بعض الفقهاء، ولا عذر لتارك العمل به، أو أقوال متظاهرة لجمهورة الصحابة والتابعين، مما لا يحسن مخالفتها، فإن لم يجد -أي أحدهم- في المسألة ما يطمئن به قلبه، لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح، ونحو ذلك، رجع إلى كلام بعض من مضى من الفقهاء، فإن وجد قولين اختار

1 ص122.

ص: 345

أوثقهما؟ سواء كان من أهل المدينة أو من أهل الكوفة، وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحًا، ويجتهدون في المذهب، وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أصحابهم فيقال: فلان شافعي، وفلان حنفي، وكان صاحب الحديث أيضًا قد ينسب إلى أحد المذهب لكثرة موافقته له، كالنسائي والبيهقي، ينسبان إلى الشافعي، فكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهد، ولا يمسى الفقيه إلا مجتهد، ثم بعد هذه القرون، كان ناس آخرون ذهبوا يمينًا وشمالًا وحدث فيهم أمور، منها الجدل والخلاف في علم الفقه. وتفصيله على ما ذكره الغزالي أنه لما انقرض عهد الخلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافة إلى قوم تولوهم بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، فكانوا إذا طلبوا هربوا أو أعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة عليهم، مع إعراضهم، فاشرأبوا بطلب العلم توصلًا إلى نيل العز، ودرك الجاه، فأصبح الفقهاء، بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين، أذلة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله. وقد كان من قبلهم قد صنف ناس في علم الكلام، وأكثروا القال والقيل، والإيراد والجواب، وتمهيد طرق الجدل. فوقع ذلك منهم بموقع من قبل أن كان من الصدور والملوك من مالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمه الله، فترك الناس الكلام وفنون العلم وأقبلوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة رحمه الله على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن، لسنا ندري ما الذي قدر الله تعالى فيما بعدها من الأعصار، انتهى حاصله. ومنها: أنهم أطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدروهم دبيب النمل، وهم لا يشعرون. وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، فإنهم لما وقعت المزاحمة في الفتوى، كان كل من أفتى

ص: 346

بشيء نوقض في فتواه ورد عليهم، فلم ينقطع الكلام إلا بمصير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة. وأيضًا جوز القضاة، فإن القضاة لما جار أكثرهم، ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة فيه، ويكون شيئًا قد قيل من قبل. وأيضًا جهل رءوس الناس، واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث، ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهرًا في أكثر المتأخرين، وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره، وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيهًا. ومنها: أن أقبل أكثرهم على التعمقات في كل فن، فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال، ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ثم خرج من ذلك إلى التاريخ: قديمه وحديثه.

ومنهم من تفحص من نوادر الأخبار وغرائبها، وإن دخلت في حد الموضوع. ومنهم من أكثر القال والقيل في أصول الفقه، واستنبط كل لأصحابه قواعد جدلية، فأورد فاستقصى، وأجاب وتفصى، وعرف، وقسم، فحرر، طول الكلام تارة، وتارة اختصر.

ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصورة المستبعدة التي من حقها أن لا يتعرض لها عاقل، وبفحص العمومات والإيماءات من كلام المخرجين فمن دونهم، مما لا يرتضي استماعه عالم ولا جاهل. وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق، قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك، وانتصر كل رجل لصاحبه: فكما أعقبت تلك ملكًا عضوضًا، ووقائع صماء عمياء، فكذلك أعقبت هذه جهلًا واختلاطًا وشكوكًا ووهمًا ما لها من إرجاء. فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف، لا يميزون الحق من الباطل، ولا الجدل من الاستنباط.

فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقول الفقهاء، قويها وضعيفها، من غير تمييز، وسردها بشقشقة شدقيه. والمحدث من عد الأحاديث، صحيحها وسقيمها، وهذها كهذ الأسمار بقولة لحييه. ولا أقول ذلك كليًّا مطردًا، فإن لله طائفة من عباده، لا يضرهم من خذلهم، وهم حجة الله في أرضه، وإن قلوا1.

"ولم يأت قرن بعد ذلك إلا هو أكثر فتنة، وأوفر تلقيدًا، وأشد انتزاعًا للأمانة

1 يشير إلى الحديث عند أحمد والشيخين عن معاوية مرفوعًا: "لا تزل طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس".

ص: 347

من صدور الرجال، حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأن يقولوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 1 وإلى الله المشتكى، وهو المستعان، وبه الثقة وعليه التكلان" انتهى كلام ولي الله الدهلوي، وقد سبقه إلى كشف هذه الأسرار الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات المكية حيث قال في الباب الثامن عشر وثلاثمائة في معرفة منزل نسخ الشريعة المحمدية وغير المحمدية، بالأغراض النفسية -عافانا الله وإياكم من ذلك ما نصه بعد أبيات صدر بها هذا الباب:

"اعلم -وقفنا الله وإياك- أيها الولي الحميم، والصفي الكريم، أنا روينا في هذا الباب عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا أصاب من عرضه، فجاء إليه يستحله من ذلك، فقال له: يابن عباس! إنني قد نلت منك، فاجعلني في حل من ذلك. فقال: أعوذ بالله أن أحل ما حرم الله! إن الله قد حرم أعراض المسلمين، فلا أحله، ولكن غفر الله لك. فانظر: ما أعجب هذا التصريف، وما أحسن العلم. ومن هذا الباب خلف الإنسان على ما أبيح له فعله أن لا يفعله، أو يفعله، ففرض الله تحلة الإيمان، وهو من باب الاستدراج والمكر الإلهي، إلا لمن عصمة الله بالتنبيه عليه، فما ثم شارع إلا الله تعالى، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه} 2 ولم يقل له: "بما رأيت".

بل عاتبه سبحانه وتعالى، لما حرم على نفسه باليمين، في قضية عائشة وحفصة3، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ؟ 4 فكان هذا ما أرته نفسه. فهذا يدلك أن قوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّه} أنه ما يوحى به إليه، لا ما يره في رأيه. فلو كان الدين بالرأي لكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم أولى من رأي كل ذي رأي، فإذا كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رأته نفسه فكيف رأي من ليس بمعصوم؟ ومن الخطأ أقرب إليه من الإصابة؟ فدل أن الاجتهاد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو في طلب

1 سورة الزخرف الآية: 22.

2 سورة النساء الآية 104.

3 أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي في التفسير والأيمان والنذور والأشربة وغيرها.

4 سورة التحريم الآية: 1.

ص: 348

الدليل على تعيين الحكم في المسألة الواقعة، لا في تشريع حكم في النازلة. فإن ذلك شرع لم يأذن به الله. ولقد أخبرني القاضي عبد الوهاب الأسدي الإسكندري بمكة المشرفة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال: رأيت رجلًا من الصالحين بعد موته في المنام، فسألته ما رأيت؟ فذكر أشياء؛ منها: قال: ولقد رأيت كتبًا موضوعة، وكتبًا مرفوعة، فسألت ما هذه الكتب المرفوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الحديث. فقلت: وما هذه الكتاب الموضوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الرأي، حتى يسأل عنها أصحابها. فرأيت الأمر فيه شدة.

اعلم -وفقنا الله وإياك- أن الشريعة، هي المحجة الواضحة البيضاء، محجة السعداء، وطريق السعادة، من مشي عليها نجا، ومن تركها هلك، قال1 رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} 2 خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض خطًّا، وخط خطوطًا على جانبي الخط، يمينًا وشمالًا، ثم وضع صلى الله عليه وسلم إصبعه على الخط، وقال تاليًا:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وأشار إلى تلك الخط المستقيم. ولقد أخبرني بمدينة "سلا" -مدينة بالمغرب على شاطئ البحر المحيط، يقال لها: منقطع التراب، ليس وراءها أرض- رجل من الصالحين الأكابر من عامة الناس، قال: رأيت في النوم محجة بيضاء مستوية، عليها نور سهلة، ورأيت عن يمين تلك المحجة وشمالها خنادق وشعابًا وأودية، كلها شوك، لا تسلك لضيقها، وتوعر مسالكها، وكثرة شوكها، والظلمة التي فيها، ورأيت جميع الناس يخطبون فيها خبط عشواء، ويتركون المحجة البيضاء السهلة، وعلى المحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفر قليل معه يسير وهو ينظر إلى من خلفه، وإذا في الجماعة متأخر عنها، لكنه عليها، الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن قرقور المحدث، كان سيدًا فاضلًا في الحديث، اجتمعت بابنه، فكان يفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول له: ناد في الناس بالرجوع إلى الطريق، فكان ابن قرقور يرفع صوته ويقول

1 أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن.

2 سورة الأنعام: 153.

ص: 349

في ندائه، ولا من داع، ولا من متداع:"هلموا إلى الطريق هلموا" قال: فلا يجيبه أحد، ولا يرجع إلى الطريق أحد.

واعلم أنه لما غلبت الأهواء على النفوس، وطلبت العلماء المراتب عند الملوك، تركوا المحجة البيضاء وجنحوا إلى التأويلات البعيدة لينفذوا أغراض الملوك فيما لهم فيه هوى نفس ليستندوا في ذلك إلى أمر شرعي مع كون الفقيه ربما لا يعتقد ذلك، ويفتي به، وقد رأينا منهم جماعة على هذا من قضاتهم، وفقهائهم ولقد أخبرني الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب -وقد وقع بيني وبينه في مثل هذا كلام- فنادى بمملوك وقال: جئني بالحرمدان فقلت: ما شأن الحرمدان قال: أنت تنكر على ما يجري في بلدي، ومملكتي من المنكرات والظلم وأنا والله أعتقد مثل ما تعتقد أنت فيه من أن ذلك كله منكر، ولكن والله يا سيدي ما منه منكر إلا بفتيا فقيه، وخط يده عندي بجواز ذلك فعليهم لعنة الله، ولقد أفتاني فقيه هو فلان -وعين لي أفضل فقيه عنده في بلده في الدين والتقشف- بأنه لا يجب عليَّ صوم شهر رمضان هذا بعينه، بل الواجب على شهر في السنة، والاختيار لي فيه أي شهر شئت من شهور السنة، قال السلطان فلعنته في باطني، ولم أظهر له ذلك -وهو فلان فسماه لي- رحم الله جمعيهم.

"فليعلم أن الشيطان قد مكنه الله من حضرة الخيال، وجعل له سلطانا فيها فإذا رأى أن الفقيه يميل إلى هوى يعرف أنه لا يرضى عند الله زين له سوء عمله بتأويل غريب، يمهد له فيه، وجها يحسنه في نظره ويقول له: إن الصدر الأول قد دانوا الله بالرأي، وقاس العلماء في الأحكام واستنبطوا العلل للأشياء فطردوها، وحكموا في المسكوت عنه بما حكموا به في المنصوص عليه، للعلة الجامعة بينهما، والعلة من استنباطه فإذا مهد له هذا السبيل جنح إلى نيل هواه، وشهوته بوجه شرعي في زعمه فلا يزال هكذا فعله في كل ماله أو لسلطانه فيه هو نفس ويرد الأحاديث النبوية، ويقول لو أن هذا الحديث يكون صحيحًا وإن كان صحيحًا يقول لو لم يكن له خبر آخر يعارضه، وهو ناسخ له لقال به الشافعي إن كان هذا الفقيه شافعيًّا -أو قال به أبو حنيفة- إن كان الرجل حنفيًّا وهكذا قول أتباع هؤلاء

ص: 350

الأئمة كلهم، ويرون أن الحديث والأخذ به مضلة وأن الواجب تقليد هؤلاء الأئمة وأمثالهم فيما حكموا به، وإن عارضت أقوالهم الأخبار النبوية، فالأولى الرجوع إلى أقاويلهم وترك الأخذ بالأخبار والكتاب والسنة فإن قلت لهم قد روينا عن الشافعي رحمه الله أنه قال: إذا أتاكم الحديث يعارض قولي فاضربوا بقولي الحائط، وخذوا بالحديث فإن مذهبي الحديث، وقد روينا عن أبي حنيفة أنه قال لأصحابه: حرام على كل من أفتى بكلامي ما لم يعرف دليلي، وما روينا شيئًا من هذا عن أبي حنيفة إلا من طريق الحنفيين، ولا عن الشافعي إلا من طريق الشافعية، وكذلك المالكية والحنابلة فإذا ضايقهم في مجال الكلام هربوا وسكنوا، وقد جرى لنا هذا معهم مرارًا بالمغرب وبالمشرق فما منهم أحد على مذهب من يزعم أنه على مذهبه فقد انتسخت الشريعة بالأهواء، وإن كانت الأخبار الصحاح موجودة مسطرة في الكتب الصحاح، وكتب التواريخ بالتجريح والتعديل موجودة والأسانيد محفوظة مصونة من التغيير والتبديل، ولكن إذا ترك العمل بها، واشتغل الناس بالرأي ودانوا أنفسهم بفتاوى المتقدمين مع معارضة الأخبار الصحاح لها فلا فرق بين عدمها ووجودها إذا لم يبق لها حكم عندهم، وأي نسخ أعظم من هذا، وإذا قلت لأحدهم في ذلك شيئًا يقول لك هذا هو المذهب، وهو والله كاذب فإن صاحب المذهب قال له إن عارض الخبر كلامي فخذ بالحديث، واترك كلامي في الحش فإن مذهبي الحديث. فلو أنصف لكان على مذهب الشافعي من ترك كلام الشافعي للحديث المعارض فالله يأخذ بيد الجميع" انتهى كلام الشيخ الأكبر قدس سره.

ص: 351