المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه: - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث

[جمال الدين القاسمي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌خطبة الكتاب:

- ‌الباب الأول: في التنويه بشأن الحديث وفيه مطالب

- ‌ شرف علم الحديث:

- ‌ فضل راوي الحديث:

- ‌ الأمر النبوي برواية الحديث وإسماعه:

- ‌ حث السلف على الحديث:

- ‌ إجلال الحديث وتعظيمه والرهبة من الزيغ عنه:

- ‌ فضل المحامي عن الحديث والمحيي للسنة:

- ‌ أجر المتمسك بالسنة إذا اتبعت الأهواء وأوثرت الدنيا:

- ‌ بيان أن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع:

- ‌ ما روي أن الحديث من الوحي:

- ‌ أيادي المحدثين البيضاء على الأمة وشكر مساعيهم:

- ‌الباب الثاني: في معنى الحديث وفيه مباحث

- ‌ماهية الحديث والخبر والأثر

- ‌ بيان الحديث القدسي:

- ‌ ذكر أول من دون الحديث:

- ‌ بيان أكثر الصحابة حديثا وفتوى:

- ‌ ذكر صدور التابعين في الحديث وألفتيا:

- ‌الباب الثالث: في بيان علم الحديث؛ وفيه مسائل

- ‌ ماهية علم الحديث؛ رواية ودراية وموضوعه وغايته:

- ‌ المقصود من علم الحديث:

- ‌ حد المسند والمحدث والحافظ:

- ‌الباب الرابع: في معرفة أنواع الحديث وفيه مقاصد

- ‌ بيان المجموع من أنواعه:

- ‌ بيان الصحيح:

- ‌بيان الصحيح لذاته والصحيح لغيره

- ‌ تفاوت رتب الصحيح:

- ‌ أثبت البلاد في الحديث الصحيح في عهد السلف:

- ‌ أقسام الصحيح:

- ‌ معنى قولهم أصح شيء في الباب كذا:

- ‌ أول من دون الصحيح:

- ‌ بيان أن الصحيح لم يستوعب في مصنف:

- ‌ بيان أن الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا اليسير:

- ‌ ذكر من صنف في أصح الأحاديث:

- ‌بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث المباركة

- ‌ بيان الحديث الحسن ذكر ماهيته:

- ‌ بيان الحسن لذاته ولغيره:

- ‌ ترقي الحسن لذاته إلى الصحيح بتعدد طرقه:

- ‌ بيان أول من شهر الحسن:

- ‌ معنى قول الترمذي: "حسن صحيح

- ‌ الجواب عن جمع الترمذي بين الحسن والغرابة على اصطلاحه:

- ‌ مناقشة الترمذي في بعض ما يصححه أو يحسنه:

- ‌ بيان أن الحسن على مراتب:

- ‌ بيان كون الحسن حجة في الأحكام:

- ‌ قبول زيادة راوي الصحيح والحسن:

- ‌بيان ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوى والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول

- ‌ بيان الضعيف ماهية الضعيف وأقسامه:

- ‌ تفاوت الضعيف:

- ‌ بحث الضعيف إذا تعددت طرقه:

- ‌ذكر قول مسلم رحمه الله إن السراوى عن الضعفاء غاش آثم جاهل

- ‌ تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه:

- ‌ تحذير الإمام مسلم من روايات القصاص والصالحين:

- ‌ ذكر المذاهب في الأخذ بالضعيف واعتماد العمل به في الفضائل:

- ‌ الجواب عن رواية بعض كبار الأئمة عن الضعفاء:

- ‌ ما شرطه المحققون لقبول الضعيف:

- ‌تزييف درع الموسوسين في المتفق على ضعفه

- ‌ ترجيح الضعيف على رأي الرجال:

- ‌ بحث الدواني في الضعيف:

- ‌ مسائل تتعلق بالضعيف:

- ‌ ذكر أنواع تشترك في الصحيح والحسن والضعيف:

- ‌ ذكر أنواع تختص بالضعيف:

- ‌ ذكر مناقشة الفريق الأول لما ذكره أهل المذهب الثاني:

- ‌ ذكر المذهب الثالث في المرسل ممن اعتدل في شأنه وفصل فيه:

- ‌ بيان أكثر من تُروى عنهم المراسيل والموازنة بينهم:

- ‌ ذكر مرسل الصحابة:

- ‌ مراتب المرسل:

- ‌ بحث قول الصحابي من السنة كذا وقوله أمرنا بكذا ونهينا عن كذا:

- ‌ الكلام على الخبر المتواتر وخبر الآحاد:

- ‌ بيان أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل:

- ‌ الكلام على الحديث الموضوع وفيه مباحث:

- ‌الباب الخامس: في الجرح والتعديل وفيه مسائل

- ‌ بيان طبقات السلف في ذلك:

- ‌ بيان أن جرح الضعفاء من النصيحة:

- ‌ بحث تعارض الجرح والتعديل:

- ‌ بيان أن تجريح بعض رجال الصحيحين لا يعبأ به:

- ‌ الناقلون المبدعون:

- ‌ الناقلون المجهولون:

- ‌ قول الراوي حدثني الثقة أو من لا يتهم هل هو تعديل له

- ‌ما وقع في الصحيحين وغيرهما من نحو: اين فلان، أو ولد فلان

- ‌ قولهم: عن فلان أو فلان وهما عدلان

- ‌ من لم يذكر في الصحيحين أو أحدهما لا يلزم منه جرحه:

- ‌ اقتصار البخاري على رواية من روايات إشارة إلى نقد في غيرها:

- ‌ ترك رواية البخاري لحديث لا يوهنه:

- ‌ بيان أن من روى له حديث في الصحيح لا يلزم صحة جميع حديثه:

- ‌ما كان من روى المناكير ضعيف

- ‌ متى يترك حديث المتكلم فيه:

- ‌ جواز ذكر الراوي بلقبه الذي يكرهه للتعريف وأنه ليس بغيبة له:

- ‌ الاعتماد في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب المصنفة في ذلك:

- ‌ بيان عدالة الصحابة أجمعين:

- ‌بيان معنى الصحابي

- ‌ تفاضل الصحابة:

- ‌الباب السادس: في الإسناد؛ وفيه مباحث

- ‌ فضل الإسناد:

- ‌ معنى السند والإسناد والمسند والمتن:

- ‌ أقسام تحمل الحديث:

- ‌بحث وحيز في الإجازة، ومعنى قولهم: أجزت له كذا بشرطه

- ‌ أقدم إجازة عثرت عليها:

- ‌ هل قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا بمعنى واحد أم لا

- ‌ قول المحدث وبه قال حدثنا:

- ‌ الرمز بـ: "ثنا" و"نا" و"أنا" و"ح

- ‌ عادة المحدثين في قراءة الإسناد:

- ‌ الإتيان بصيغة الجزم في الحديث الصحيح والحسن دون الضعيف:

- ‌ متى يقول الراوي "أو كما قال

- ‌السر في تفرقة البخارى بين قوله: حديثا فلان، وقال لى فلان

- ‌ سر قولهم في خلال ذكر الرجال: يعني ابن فلان أو هو ابن فلان:

- ‌ قولهم: دخل حديث بعضهم في بعض:

- ‌ قولهم: "أصح شيء في الباب كذا

- ‌ قولهم: "وفي الباب عن فلان

- ‌ أكثر ما وجد من رواية التابعين بعضهم عن بعض:

- ‌ هل يشترط في رواية الأحاديث السند أم لا:

- ‌ فوائد الأسانيد المجموعة في الأثبات:

- ‌ ثمرة رواية الكتب بالأسانيد في الأعصار المتأخرة:

- ‌ بيان أن تحمل الأخبار على الكيفيات المعروفة من ملح العلم لا من صلبه وكذا استخراج الحديث من طرق كثيرة:

- ‌ توسع الحفاظ رحمهم الله تعالى في طبقات السماع:

- ‌ بيان الفرق بين المخرج "اسم فاعل" والمخرج "اسم مكان

- ‌ سر ذكر الصحابي في الأثر ومخرجه من المحدثين:

- ‌الباب السابع: في أحوال الرواية؛ وفيه مباحث:

- ‌ رواية الحديث بالمعنى:

- ‌ جواز رواية بعض الحديث بشروطه:

- ‌ سر تكرار الحديث في الجوامع والسنن والمسانيد:

- ‌5- ذكر الخلاف في الاستشهاد بالحديث على اللغة والنحو وكذلك بكلام الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم:

- ‌الباب الثامن: في‌‌ آداب المحدثوطالب الحديث وغير ذلك؛ وفيه مسائل

- ‌ آداب المحدث

- ‌ آداب طالب الحديث:

- ‌ ما يفتقر إليه المحدث:

- ‌ما يستحب للمحدث عند التحديث

- ‌ بيان طرق درس الحديث:

- ‌ أمثلة من لا تقبل روايته ومنهم من يحدث لا من أصل مصحح:

- ‌ الأدب عند ذكره تعالى وذكر رسوله والصحابة والتابعين:

- ‌ الاهتمام بتجويد الحديث:

- ‌الباب التاسع: في كتب الحديث؛ وفيه فوائد

- ‌ بيان طبقات كتب الحديث:

- ‌ بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة الحافظ ابن حجر في التدريب:

- ‌ بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة السيوطي في الجامع الكبير والجامع الصغير:

- ‌بيان ما اشتمل على الصحيح فقظ أو مع غيره من هذه الكتب المرموز بها

- ‌ الرجوع إلى الأصول الصحيحة

- ‌ إذا كان عند العالم الصحيحان:

- ‌ هل يجوز الاحتجاج في الأحكام بجميع ما في هذه الكتب من غير توقف أم لا? وهل تعذر التصحيح في الأزمان المتأخرة أم لا

- ‌ الاهتمام بمطالعة كتب الحديث:

- ‌ ذكر أرباب الهمة الجليلة في قراءتهم كتب الحديث في أيام قليلة:

- ‌ قراءة البخاري لنازلة الوباء:

- ‌الباب العاشر: في فقه الحديث

- ‌ بيان أقسام ما دون في علم الحديث:

- ‌ بيان كيفية تلقي الأمة الشرع من النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌ بيان أن السنة حجة على جميع الأمة وليس عمل أحد حجة عليها:

- ‌ العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم:

- ‌ لزوم الإفتاء بلفظ النص مهما أمكن:

- ‌ حرمة الإفتاء بضد لفظ النص:

- ‌ رد ما خالف النص أو الإجماع:

- ‌ تشنيع المتقدمين على من يقول العمل على الفقه لا على الحديث:

- ‌ رد الإمام السندي الحنفي رحمه الله على من يقول ليس لمثلنا أن يفهم الحديث:

- ‌ رد الإمام السندي رحمه الله أيضًا على من يقرأ كتب الحديث لا للعمل:

- ‌ التحذير من التعسف في رد الأحاديث إلى المذاهب:

- ‌الترهيب من عدم توقير الحديث وهجر من يعرض عنه والغضب لله في ذلك

- ‌ما ينفى من قول أحد عند قول النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ ما يقوله من بلغه حديث كان يعتقد خلافه:

- ‌ما روى عن السلف في الرجوع إلى حديث

- ‌ حق الأدب فيما لم تدرك حقيقة من الأخبار النبوية:

- ‌ بيان إمرار السلف الأحاديث على ظاهرها:

- ‌ قاعدة الإمام الشافعي رحمه الله في مختلف الحديث:

- ‌ فذلكة وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض:

- ‌ بحث الناسخ والمنسوخ:

- ‌بحث التحيل على إسقاط حكم أو قلبه

- ‌ بيان أسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع:

- ‌ بيان أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء:

- ‌ بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي:

- ‌ بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده:

- ‌ فتوى الإمام تقي الدين أبي العباس فيمن تفقه على مذهب:

- ‌ بيان معرفة الحق بالدليل:

- ‌ بيان أن معرفة الشيء ببرهانه طريقة القرآن الكريم:

- ‌ بيان أن من المصالح هذه المذاهب المدونة وفوائد مهمة من أصل التخريج على كلام الفقهاء وغير ذلك:

- ‌ بيان وجوب موالاة الأئمة المجتهدين وأنه إذا وجد لواحد منهم قول صح الحديث بخلافة فلا بد له من عذر في تركة وبيان العذر:

- ‌الخاتمة في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثري:

- ‌ سبيل الترقي في علوم الدين:

- ‌ قاعدة المحققين في مسائل الدين وعلماء الفرق:

- ‌ وصية الغزالي في معاملة المتعصب:

- ‌ بيان من يسلم من الأغلاط:

- ‌تتمة في مقصدين:

- ‌فهرس:

الفصل: ‌ تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه:

وإن مراد الإصلاح العلمي بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص، والدعوة له على انفراده، وإنما المراد إنهاض همم رواد العلم، لتعرف المسائل بأدلتها 1

إنا في الرأي مستقلون، ولسنا بمقليدن ولا متحزبين2.

ظهر لي أن قول بعض الفقهاء: "هو تعبدي لا يعقل معناه" فيه حجر على العقول والأفهم أن تنظر وتتأمل وتتدبر. فهو مناف لقاعدة إعمال الفكر لاستنباط المعاني3.

وله آراء في الدولة وقوتها والوطن والسياسة والعرب وغيرها جاء في بعضها:

إن القرآن قد أمر بوجوب إعداد القوة الحربية، وإنه لما ترك المسلمون العمل بهذا الأمر، أهملوا فرضًا من فروض الكفاية، وأصبحت جميع الأمة أئمة. وأن طمع العدو في البلاد الإسلامية؛ لأنه ليس فيها معامل للأسلحة، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو. ولقد آن للأمة أن تنتبه من غفلتها قبل أن يداهم العدو ما بقي منها، فيقضي على الإسلام وممالك المسلمين، لاستعمار الأمصار، واستعباد الأحرار، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار4.

وإن حب الوطن من أمهات الفضائل، وهو أن يبذل المرء ما يقدر عليه، مما أعطاه الله من العلم والمال والخبرة والنصح في عامة الأحوال والأزمان لمنفعة وطنه ومواطنيه5.

وحض على الجهاد لأن العدو يريد أن يقضي على الدين، وأن ينهب الأموال والمقتنيات ويهتك الحرم، ويمحو تاريخ المجد، ويفني اللغة والعلوم6.

وهلل للدستور بكثير من الفرح7.

ودعا لتولية الأكفياء، وإعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأشياء في مواضعها، وتفويض الأعمال للقادرين عليها.. لأن كل من تتبع تواريخ الأمم، علم أنه ما انقلب عرش مجدها، إلا لتفويض الأعمال لمن لا يحسن القيام عليها، ويضع الأشياء في غير موضعها8.

1 إرشاد الخلق ص4.

2 الجرح والتعديل ص14.

3 السوانح ص3 "مخطوط".

4 محاسن التأويل ج8 ص3025.

5 جوامع الآدب ص111.

6 جومع الآداب ص110.

7 دلائل التوحيد ص205.

8 الفتوى في الإسلام ص54.

ص: 28

وكان يحترم آراء الفرق؛ لأن الخطأ من شأن غير المعصوم1.

وقد ترك دفترًا تاريخه أواخر شوال 1321 - 1904، قيد فيه من أوابد أفكاره ما يدعو إلى كثير من الإعجاب والتقدير2.

فهو يسر للانتقاد، ويعتبر الانتحار هربًا من القيام بالفروض، وأن القدر الذي يجب الإيمان به لا ينطوي على شيء يميت العزم أو يخمده، وأن الغرب قد اختارهم الله لتهذيب الأمم؛ لأنه أنزل القرآن بلغتهم، وأن قصص القرآن ليست إلا آيات وعبرًا. وأن وظيفة الأستاذ والرئيس أن ينظر في أمور جماعته، ويمهد لها سبيل المجد والارتقاء. وأن المناظرة في الأمور المذهبية التي توجب الضغائن. وتولد التعصب آفة العمران. وأن الكسل من النقائص التي تولد الحسائس والشرور. وأن من اشتهر بالبخل من الناس مرفوض.

وكذلك من اشتهر بالنميمة والثلب والسفه والكبرياء.. وأن أعمال المتقين تفقًا حصرمًا في أعين الحاسدين. وأن المتعصبين يستعملون تعاليمهم الفاسدة في تفريق الناس بعضهم عن بعض. وأن الحق يصرع إذا عمد إلى إظهاره بالسباب والشتائم.

وأن الحياة معترك هائل، يموج بالرزايا موجًا، وأن الإنسان فيها بمثابة المخاطر في معترك الحرب، إن فاتته ضربة سيف، ولا تفوته طعنة رمح، أو رمية سهم.

وأن الإسلام لا يبيح الحرب لذاتها، وقد حرم الاعتداء، وإنما يوجب تعميم الدعوة، فمن عراضها وجب جهاده عند القدرة، حتى يقبلها، أو يكون لأهلها السلطان الذي يتمكنون به من نشرها بدون معارض. وأن اللباس من الأمور العادية. والدين لا يذم لباسًا إلا إذا كان في لبسه ضرر في الأخلاق.

وأن السياسة مصابرة المكاره، ومسايرة الأهوال والمصاعب، وركوب الأسنة في سبيل المداراة والمجاراة، وتحين الفرص والظروف.

وأنه لا ينبغي للإنسان أن تكون وظيفته في الحياة دون النبات: ذاك يتطاول، وهم يتقاصرون.

1 الجرح والتعديل ص7.

2 ستنشر نصوص هذا الدفتر الكاملة في الكتاب.

ص: 29

وأن العاقل لا ينتصر لرأيه الذاتي، ولا يصر عليه، فربما كان صوابًا أو خطأ.

وأن عثمان كان محقًّا في نفي أبي ذر الغفاري لأن الحث على الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير والكف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية، والتباعد عن الزينة والمفاخرة.. كل هذه الأصول فقرات مخدرات لا يرتضيها عقل، ولم يأت بها شرع.

وأن حال الأمة لا يستقيم ولا يثبت على أساس مكين ما لم يتفق الكبراء بعضهم مع بعض، ويتصافوا مع الذين دونهم، ويفصلوا كل خلاف وخصومة بالتحكيم.

وأن الجبان يموت مرارًا قبل وفاته، والشجاع لا يذوق مرارة الموت إلا مرة واحدة.

وبعد فهذا قليل من كثير مما ترك القاسمي. عرضنا منه عناوين، وتركنا التفصيل إلى كتابنا الذي نعده عنه.

9-

أسلوبه ومؤلفاته:

كان الكتاب في العصر الذي عاش فيه القاسمي يعتبرون السجع المثل الأعلى في الإنشاء.

وكانت "مقامات الحريري" القدوة التي يحتذيها الكتاب فيما يكتبون. ولقد درجوا على تحفيظها للطلاب، لتنمية الملكة الأدبية، وللنسج على منوالها.

ولقد كان والده أديبًا، إلى جانب تعمقه بالفقه فنشأه نشأة أدبية، على الطريقة المألوفة في عصره، فلما أخذ في الكتابة والتأليف جرى على الأسلوب الذي لقن إليه. فالتزم السجع في أكثر ما كتب في مطلع حياته، ثم استمر على التزامه في أكثر مقدمات كتبه حتى آخر حياته، وفي بعض رسائله الخاصة. على أن سجعه في أوائل أيامه أقرب إلى سجع المبتدئين، وكان في أواخرها أقرب إلى سجع أئمة الكتاب المتقدمين1.

ثم شاعت طرقة الترسل، وكان الأستاذ الإمام محمد عبده، من الذين استعملوها، ودعوا إلى نشرها. وكان القاسمي معجبًا بالأستاذ الإمام، فعدل عن السجع إلى الترسل، وفي أكثر ما كتب بعد تعرفه عليه عام 1321 - 1904، فجاء أسلوبه فيه عربيًّا صافيًا، رائعًا

1 راجع ص75 من الجزء الثاني من محاسن التأويل وأكثر مقدمات كتبه.

ص: 30

في قوة التركيب، وجزالة الألفاظ، ودقة الأداء، دليلًا على تمكنه من لغة العرب، وصفا ذهنه، وغوصه على المعاني1.

أما كتبه التي ألفها فقد قاربت المائة. وأقدم ما عثرت عليه مؤلفاته، مجموعة سماها "السفينة" يرجع تاريخها إلى عام 1299 - 1883، ضم فيها طرائف من مطالعاته في الأدب والأخلاق والتصوف والتاريخ والشعر وغير ذلك وله من العمر ستة عشر عامًا. ومضى يكتب ويكتب إلى أن عجب الناس من بعده، كيف اتسع وقته -ولم يعش إلا تسعة وأربعين عامًا- لهذا الإنتاج الضخم، فضلًا عن تحمل مسئولية الرأي، وترجيح الأقوال ومناقشتها، والرجوع إلى المصادر، وفضلًا عن أعبائه العائلية، فلقد كان له زوج وسبعة أولاد، وفضلًا عن أمامته للناس في الأوقات الخمسة دون انقطاع، ودروسه العامة والخاصة، وتفقده للرحم ورحلاته، وزياراته لأصدقائه، وغير ذلك من المشاغل.

وليس من شأن هذه المقدمة أن تعد لك مؤلفات القاسمي وقد قاربت المائة، ولا أن تعرفك بمواضيعها، فارجع إلى هذا البحث، إن شئت، في الكتاب الذي لخصنا عنه هذا الفصل.

10-

أسلوبه في الدعوة:

عرف عن القاسمي أنه كان عف اللسان والقلم، لم يتعرض بالأذى لأحد من خصومه، سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة، أو في مجالسه وندواته. وإنما كان يناقش بالبرهان والدليل، من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة والمراجع المعتمدة.

وكانت له طريقة في مناقشة خصومه له يعرف أهدأ منها، ولا أجمل من صبرها. وكثيرًا ما قصده بعض المتقحمين في داره، لا مستفيدًا، ولا مستوضحًا، ولا مناقشًا، بل محرجًا.

فكان يستقبلهم بصدره الواسع، وعلمه العميق، فلا يخرج المقتحم من داره إلا وقد أفحم وامتلأ إعجابًا وتقديرًا.

1 راجع ص3025 من الجزء الثاني من محاسن التأويل، والمقتطفات التي أوردناها في بحث "آرائه وأفكاره".

ص: 31

ولم تتضمن كتبه، على كثرتها، وبعضها إنما وضع للرد على مخالفيه، لفظًا نابيًا، وإنما اعتصم بالنقاض العلمي الأدبي.

ومن الواضح لمن يطلع على هذه الكتب، أن القاسمي لم يكن يريد من الرد على مخالفيه، إفحام خصومه، أو تصغيره أقدارهم، أو الحط من مكانتهم، وإنما كان يهدف إلى الهدى والرشاد، وسواء السبيل، والدعوة إلى الصراط المستقيم، حتى ينقلب المخطئ مصيبًا، وحتى يعود المنحرف إلى الحق.

"ادفع بالتي هي أحسن" طريقته الوحيدة في الدعوة إلى الحق، فلم تعرف عنه رغبة لجاجة ولا إلحاح مع معاند، ولا استمرار مع مكابر أو مغرض.

11-

وفاته:

وافاه أجله مساء السبت 23 جمادى الأولى 1332 - 18 نيسان 1914 ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق.

الخاتمة:

هذه لمحة عن سيرة هذا الرجل الذي عاش للعلم والحق والخير وترك أعمق الأثر في معاصريه وأقرانه وتلاميذه، وفي العصر الذي عاش فيه، وفي العصور التي أتت من بعده، سواء أكان في النهضة الدينية، أم في النهضة الإسلامية والعربية بوجه عام. لقد كان حلقة في سلسلة الهدى والإصلاح التي لا ينقطع نورها عن العالم الإسلامي خلال القرون، فجددت للناس حقائق الدين، وجلت عنها ما علق بها من الخرافات والأوهام.

ظافر القاسمي

ص: 32

‌خطبة الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل أحسن الحديث، وأودع درر بيانه في محكم الحديث، وألهم حملته العدول، وحفظته الفحول، إيضاح مصطلحه وقواعده، ليدنوا اجتناء ثمرات فوائده فإنه لسماء المعارف الشمس البازغة، وللهداية إلى طريق الحق الحجة الدامغة، أحمده حمد من أعمل بالحمد لسانه، وشغل بالشكر أركانه وجنانه، وأشكره شكر معترف بامتنانه، مغترف من بحر بره وإحسانه وأصلي وأسلم على من أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، سيدنا محمد أفضل من كحلت به الرسالة أجفانها، ونظمت به النبوة جمانها، وعلى آله الفائزين بتلقي إرساله، واتباع أقواله وأفعاله، وعلى أصحابه الذين دأبوا في المآثر الصالحة، ونصبوا على تعاطي التجارت الرابحة، وعلى السادة الأتباع، الذين اقتفوا مسالك الأتباع، وجانبوا محدثات الابتداع، وعلى من تبعهم بإحسان، وتأسى بهم في حفظ الهدي النبوي المصون، ما أرسل راو الإسناد وعنعنه، وصحح متنه وحسنه.

أما بعد. فإن من سعادة الأمة أن يكون لديها من العلماء طائفة مهتمة، يختص عملها بتنوير عقولهم بالمعارف الحقة، وتحليتها بالعلوم الصافية بكمال الدقة، لا ينون في تبيين طرق السعادة ومواردها. ولا يألون جهدًا في السلوك بهم في جوادها، وذلك أن بداهة العقل حاكمة بأن جل المعارف البشرية، والعقائد الدينية، والأحكام الشرعية، مكتسبة أي من العلوم النظرية، فإن لم يكن في الناس معلم حكيم، قصرت العقول عن درك ما ينبغي لها دركه من التقويم، وانقطعت دون الكفاية مما يلزم لسد ضرورات الحياة الأولى، والاستعداد لما يكون في الأخرى، وساوى الإنسان في معيشته سائر الحيوانات، وحرم سعادة الدارين وفارق هذه الدنيا على أتعس الحالات. وإن من أعظم ما يسعى إليه الساعون، ويتنافس في الدعوة إليه المتنافسون، علوم الحديث الكاشفة النقاب، عن جمال وجوه مجملات الكتاب، والمدار لتفصيل الأحكام، وتبيين أقسام الحلال والحرام: إذ مستندها ما صح من الأخبار، وثبت حسنه من الآثار، ولا طريق لتعريف ذلك، إلا

ص: 35

بما اصطلع عليه من أصول تلك المسالك. ولما كان الشيء يشرف بشرف موضوعه أو بمسيس الحاجة إليه، كان فن المصطلح مما جمع الأمرين، وفاز بالشرفين؛ لأنه يبصر من سواء السبيل الجواد، ويرقى الهمم لتعرف سنن الرشاد، وإني منذ تنشقت من علم الحديث أرج أردانه، حتى عمت من بحره في زاخره، وجريت طلقًا في ميدانه، لم أزل أسرح طرق الطرف في رياضه، وأورد ذود الفكر في حياضه، أستشيم بارقه إذا سرى، وأجرى مع هواه حيث جرى، وأنظم فرائده، وأقيد أوابده، وأدل على مقاصده، وأعوج إلى معاهده، حتى أشحذت كليل العزم، وأيقظت نائم الهم، وأجبت داعي الفكر لمقترحه، من جمع ما كنت وعيت من مصطلحه؛ إذ هو قطب تدور عليه أفلاك الأخبار، وعباب تنصب منه جداول معاني الآثار، قد سجم وابل فضله في الأصول فأزهرها، وتبسم وجه إقباله في الفروع فنورها، فاستخرت الله فيما قصدت، وتوكلت عليه فيما أردت، وشرعت في جمع لبابه، والمهمات من أبوابه، وإبراز دفائنه وكنوزه، وحل غوامضه ورموزه، ومن الكتب المعول عليها، والأصول المرجوع إليها، حتى غدا جامعًا لمجمع المصطلحات، وحاصرًا لامهاتها المعتبرات، مع تنبيهات نافعة وتنويرات ساطعة، توضح معالم أسرار الآثار، وتصيرها كالشمس في رائعة النهار، وضممت إليه فرائد تبهج الألباب، عثرت على خباياها في غير ما كتاب، مما لم يذكر في أسفار المصطلح، ولا يعلم مظانها إلا من لزند التنقيب اقتدح، فقيدت شواردها، وقصرت أوابدها على أسلوب جديد، يسهل الوقوف على أسرار هذا الفن الباهرة، ويرقى إلى الرسوخ في مقاصد السنة الطاهرة، والحذق في رد الخلاف إلى الحق المأثور، الذي تطمئن به القلوب وتنشرح الصدور. مما يتنافس فيه الكاملون، ويتباهي بتحصيل معرفته الراغبون، وقد سميته:"قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث" ورتبته على مقدمة وعشرة أبواب، مذيلة بخاتمة في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثرى، ثم بتتمة في مقصدين بديعين. وعلى الله التكلان، في كل وقت وأوان، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ص: 36

مقدمة: في مطالع مهمة

المطلع الأول:

قال الزركشي في قواعده: "إن تصنيف العلم فرض كفاية على من منحه الله فهمًا واطلاعًا فلو ترك التصنيف لضيع العلم على الناس وقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} 1 الآية، ولن تزال هذه الأمة في ازدياد وترق في المواهب والعلم". ا. هـ.

وقال نابغة البلغاء ابن المقفع في مقدمة الدرة اليتيمة2: "وجدنا الناس قبلنا لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكتب الباقية، وكفونا مئونة التجارب والفطن، وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم والكلمة من الصواب وهو بالبلد غيرالمأهول فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل، وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده3، فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده الرحيم بهم الذي يجمع لهم الأموال، والعقد4 إرادة أن لا تكون عليهم مئونة في الطلب وخشية عجزهم إن هم طلبوا فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم، وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتخل في آرائهم، والمنتقي من أحاديثم ولم تجدهم غادروا شيئًا يجد واصف بليغ في صفة له مقالًا لم يسبقوه إليه لا في تعظيم لله عز وجل وترغيب فيما عنده ولا في تصغير للدنيا وتزهيد فيها ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامه وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها،

1 سورة آل عمران، آية 81.

2 ص9 بيروت المطبعة الأدبية 1897. طبعة ثانية.

3 أي يفوته.

4 جمع عقدة: ما فيه بلاغ الرجل وكفايته "قاموس".

ص: 37

وتبيين مآخذهم، ولا في وجوه الأدب، وضروب الأخلاق. فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من عمل الأمور فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس" انتهى كلامه.

وفي قوله: "وقد بقيت

" فتح لباب التصنيف على نحو هذا المعنى وقد قالوا: ينبغي أن لا يخلو تصنيف من أحد المعاني الثمانية التي تصنف لها العلماء وهي: اختراع معدوم، أو جمع مفترق، أو تكميل ناقص، أو تفصيل مجمل، أو تهذيب مطول، أو ترتيب مخلط، أو تعيين مبهم، أو تبيين خطأ كذا عدها أبو حيان يمكن الزيادة فيها.

قال ملا كاتب جلبي رحمه الله: "ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقًا، ولا وجه لإنكاره من أهله وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار والله در القائل:

قل لمن لا يرى المعاصر شيئًا

ويرى للأوائل التقديما

إن ذاك القديم كان حديثًا

وسيبقى هذا الحديث قديما

واعلم: أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي، ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل:"ما ترك الأول للآخر! " بل القول الصحيح الظاهر: "كم ترك الأول للآخر! " فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته، ورداءته في ذاته لا تقدمه، وحدوثه. ويقال "ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئًا" لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها كما قال عليه الصلاة والسلام:

ص: 38

"أمتي أمة مباركة لا يُدرى أولها خير أو آخرها" قال ابن عبد ربه في العقد: "إني رأيت آخر كل طبقة، واضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أهذب لفظا وأسهل لغة، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة من الأول؛ لأنه ناقض متعقب، والأول بادي متقدم".

وفي كتاب: "جامع بيان العلم وفضله" للحافظ ابن عبد البر1 عن علي رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها: "واعلموا أن الناس أبناء ما يحسنون وقدر كل آمري ما يحسن فتكلموا في العلم تتبين أقداركم". قال ابن عبد البر: "ويقال إن قول علي بن أبي طالب: قيمة كل امرئ ما يحسن، لم يسبقه إليه أحد، وقالوا: "ليس كلمة أحض على طلب العلم منها" وقالوا: "ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل: "ما ترك الأول للآخر شيئًا". ا. هـ.

المطلع الثاني:

أتأسى في هذا التصنيف الميمون بقول السيد مرتضى اليماني رحمه الله في كتابه: "إيثار الحق على الخلق"2: "وإنما جمعت هذا المختصر المبارك، إن شاء الله تعالى، لمن صنفت لهم التصانيف، وعنيت بهدايتهم العلماء؛ وهم من جمع خمسة أوصاف، معظهما: الإخلاص والفهم والإنصاف، ورابعها -وهو أقلها وجودًا في هذه الأعصار- الحرص على معرفة الحق من أقوال المختلفين وشدة الداعي إلى ذلك الحامل على الصبر والطلب كثيرًا وبذل الجهد في النظر على الإنصاف ومفارقة العوائد وطلب الأوابد".

قال رحمه الله: "فإن الحق في مثل هذا الأعصار قلما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قل المساعد، فإن البدع قد كثرت، وكثرت الدعاة إليها، والتعويل عليها، وطالب الحق اليوم شبيه بطلابه في أيام الفترة، وهم: سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى؛ فإنهم قدوة الطالب للحق، وفيهم له أعظم أسوة فإنهم لما حرصوا

1 ص50 القاهرة، مطبعة الموسوعات، 1320هـ.

2 ص24. القاهرة 1218، مطبعة الآداب والمؤيد.

ص: 39

على الحق وبذلوا الجهد في طلبه، بلغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا من بين العوالم الجمة، فكم أدرك الحق طالبة في زمن الفترة! وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة! فاعتبر بذلك واقتد بأولئك فإن الحق ما زال مصونًا عزيزًا نفيسًا كريمًا، لا ينال مع الإضراب عن طلبه وعدم التشوف والتشوق إلى سببه ولا يهجم على المبطلين المعرضين ولا يفاجئ أشباه الأنعام الغافلين؛ ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطل ولا جاهل ولا بطال ولا غافل". انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

المطلع الثالث:

لا خفاء أن من المدارك المهمة في باب التصنيف، عزو الفوائد والمسائل والنكت إلى أربابها تبرؤا من انتحال ما ليس له، وترفعًا عن أن يكون كلابس ثوبي زور. لهذا ترى جميع مسائل هذا الكتاب معزوة إلى أصحابها بحروفها وهذه قاعدتنا فيما جمعناه ونجمعه.

وقد اتفق أني رأيت في "المزهر" للسيوطي هذا الملحظ حيث قال في ترجمة "ذكر من سئل عن شيء فلم يعرفه فسأل من هو أعلم منه" ما نصه1: "ومن بركة العلم وشكره، عزوه إلى قائله؛ قاله الحافظ أو طاهر السلفي: سمعت أبا الحسن الصيرفي، يقول: سمعت أبا عبد الله الصوري يقول: قال لي عبد الغني بن سعيد: "لما وصل كتابي إلى أبي عبد الله الحاكم، أجابني بالشكر عليه، وذكر أنه أملاه على الناس، وضمن كتابه إلى الاعتراف بالفائدة وأنه لا يذكرها إلا عني". وأن أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثهم، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، قال: سمعت أبا عبيد يقول: "من شكر العلم أن تستفيد الشيء، فإذا ذكر لك قلت: خفي عليَّ كذا وكذا ولم يكن لي به علم، حتى أفادني فلان فيه كذا وكذا، فهذا شكر العلم. قال السيوطي:"ولهذا لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفًا إلا معزوا إلى قائله من العلماء مبينا كتابه الذي ذكره فيه". ا. هـ.

1 ص164 ج2 المطبعة الكبرى السنية: مصر 1282هـ.

ص: 40

المطلع الرابع:

قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر1: "أول من صنف في الاصطلاح القاضي أبو محمد الرامهرمزي، فعمل كتابه: "المحدث الفاصل" لكنه لم يستوعب والحاكم أبو عبد الله النيسابوري لكنه لم يهذب ولم يرتب وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل كتابه مستخرجًا وأبقى أشياء للمتعقب ثم جاء بعده الخطيب البغدادي فعمل على قوانين الرواية كتابًا سماه: "الكفاية" وفي آدابها كتابًا سماه: "الجامع لآداب الشيخ والسامع" وقل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا مفردًا فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعده عيال على كتبه". ثم جمع ممن تأخر عنه القاضي عياض كتابه: "الإلماع" وأبو حفص الميانجي جزءًا سماه: "ما لا يسع المحدث جهله" والحافظ أبو بكر بن أحمد القسطلاني في: "المنهج المبهج عند الاستماع، لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع" إلى أن جاء الحافظ الإمام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري نزيل دمشق فجمع لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الإشرفية المعروفة بدار الحديث، كتابه المشهور، فهذب فنونه، وأملاه شيئًا فشيئًا واعتنى بتصانيف الخطيب المفرقة فجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره فمنهم المختصر له كالنووي في تقريبه والناظم له كالعراقي والمستدرك والمعارض فجزاهم الله خيرًا". ا. هـ.

وكتابنا هذا حوى بمعونته تعالى لباب مقاصد هذا الفن، من خلاصة المصنفات المنوه بها، ومن نخب كتب الأصول، وممن حام حول خدمة فقه السنة مما ستقف، على العزو إليه بحوله تعالى وقوته، وهو نعم المعين.

1 تدريب الرواي ص9 "ذ. س".

ص: 41

‌الباب الأول: في التنويه بشأن الحديث وفيه مطالب

1-

‌ شرف علم الحديث:

عن أبي نجيح العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنها موعظة مودع فأوصنا! قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد. وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن" وأبو نعيم وقال: "حديث جيد من صحيح حديث الشاميين". وفي بعض الطرق: فماذا تعهد إلينا؟ قال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها فلا يزيغ عنها إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ". وفي بعضها: "فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".

قال الحافظ المنذري: وقوله صلى الله عليه وسلم: "عضوا عليها بالنواجذ" أي اجتهدوا على السنة وألزموها واحرصوا عليها كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفًا من ذهابه وتفلته والنواجذ الأنياب أو الأضراس.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة؛ آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك فهو فضل" رواه أبو داود وابن ماجه.

ص: 43

وعن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة".... نحو ما تقدم". رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.

وفي رواية: "أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد" الحديث.

قال الإمام النووي قدس الله سره: "إن من أهم العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات، أعني معرفة متونها صحيحها وحسنها وضعيفها وبقية أنواعها المعروفات ودليل ذلك: أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات؛ فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات وبيانها في السنن المحكمات. وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالمًا بالأحاديث الحكميات فثبت بما ذكرناه أن الاشتغال بالحديث من أجل العلوم الراجحات وأفضل أنواع الخير وآكد القربات وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل على بيان حال أفضل المخلوقات عليه من الله الكريم أفضل الصلوات والسلام والبركات ولقد كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات حتى لقد كان يجتمع في مجلس الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات فتناقص ذلك وضعفت الهمم فلم يبق إلا آثار من آثارهم قليلات والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات، وقد جاء في فضل إحياء السنن المماتات أحاديث كثيرة معروفات مشهورات فينبغي الاعتناء بعلم الحديث والتحريض عليه لما ذكرنا من الدلالات ولكونه أيضًا من النصيحة لله تعالى وكتابه ورسوله وللأئمة والمسلمين والمسلمات وذلك هو الدين كما صح عن سيد البريات. ولقد أحسن القائل: "من جمع أدوات الحديث استنار قلبه واستخرج كنوزه الخفيات، وذلك لكثرة فوائده البارزات والكامنات وهو جدير بذلك فإنه كلام أفصح الخلق ومن أعطى جوامع الكلمات صلى الله عليه وآله وسلم صلوات متضاعفات".

وقال العلامة الشهاب أحمد المنيني الدمشقي الحنفي في القول السديد: "إن علم الحديث

ص: 44

علم رفيع القدر، عظيم الفخر، شريف الذكر لا يعتني به إلا كل حبر، ولا يحرمه إلا كل غمر، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر؛ لم يزل في القديم والحديث يسمو عزة وجلالة، وكم عز به من كشف الله له عن مخبآت أسراره وجلاله؛ إذ به يعرف المراد من كلام رب العالمين ويظهر المقصود من حبله المتصل المتين، ومنه يُدرى شمائل من سما ذاتًا ووصفًا واسمًا ويوقف على أسرار بلاغة من شرف الخلائق عربًا وعجمًا، وتمتد من بركاته للمعتنى به موائد الإكرام من رب البرية، فيدرك في الزمن القليل من المولى الجليل المقامات العلية، والرتب السنية من كرع من حياضه أو رتع في رياضه فليهنه الأنس بجنى جنانه السنة المحمدية، والتمتع بمقصورات خيام الحقيقة الأحمدية؛ وناهيك بعلم من المصطفى صلى الله عليه وسلم بدايته، وإليه مستنده وغايته. وحسب الراوي للحديث شرفًا وفضلًا وجلالة ونبلًا أن يكون أول سلسلة آخرها الرسول وإلى حضرته الشريفة بها الانتهاء والوصول.

وطالما كان السلف الصالح يقاسون في تحمله شدائد الأسفار، ليأخذوه عن أهله بالمشافهة ولا يقنعون بالنقل من الأسفار فربما ارتكبوا غارب الاغتراب بالارتحال إلى البلدان الشاسعة لأخذ حديث عن إمام انحصرت رواتيه فيه أو لبيان وضع حديث تتبعوا سنده حتى انتهى إلى من يختلق الكذب ويفتريه وتأسى بهم من بعدهم من نقلة الأحاديث النبوية وحفظة السنة المصطفوية، فضبطوا الأسانيد وقيدوا منها كل شريد، وسبروا الرواة بين تجريح وتعديل، وسلكوا في تحرير المتن أقوم سبيل، ولا غرض لهم إلا الوقوف على الصحيح من أقوال المصطفى وأفعاله، ونفي الشبهة بتحقيق السند واتصاله فهذه هي المنقبة التي تتسابق إليها الهمم العوالي والمأثرة التي يصرف في تحصيلها الأيام والليالي"

وقال الإمام أبو الطيب السيد صديق خان الحسيني الأثري عليه الرحمة والرضوان قي كتابة: "الخطة": "اعلم أن آنف1 العلوم الشرعية ومفتاحها ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها وعمدة المناهج اليقينية ورأسها ومبني شرائع الإسلام وأساسها ومستند الروايات الفقهية كلها ومآخذ الفنون الدينية دقها وجلها وأسوة جملة الأحكام وأسها

1 آنف أول.

ص: 45

وقاعدة جميع العقائد وأسطقسها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها، هو علم الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر ولولاه لقال من شاء ما شاء وخبط الناس خبط عشواء وركبوا متن عمياء فطوبى لمن جد فيه وحصل منه على تنويه يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي. ومن لم يرضع من دره، ولم يخض في بحره، ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام فقد جار فيما حكم وقال على الله تعالى ما لم يعلم؛ كيف وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أُوتي جوامع الكلم وسواطع الحكم، من عند رب العالمين. فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها كما قيل:"كلام الملوك ملوك الكلام". وهو تلو كلام الله العلام وثاني أدلة الأحكام. فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها؛ وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها، تتوقف على بيانه صلى الله عليه وسلم فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها وكالنقاد لنقود كل الفنون أصليها وفرعيها من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام ومآخذ عقائد الإسلام وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام فما كان منها كامل العيار في نقد هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار وما كان زيفا غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار فكل قول يصدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان فهي مصابيح الدجى ومعالم الهدى وبمنزلة البدر المنير من أنقاد لها فقد رشد واهتدى وأُوتي الخير الكثير ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل

ص: 46

القرآن بل هي أكثر1. وقد أرتبط بها اتباعه صلى الله عليه وسلم الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين كيف وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به أو قرره أو أشار إليه، أو تفكر فيه أو خطر بباله أو هجس في خلده واستقام عليه. فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل بهما في كل إياب وذهاب ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء:"وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"2 فيا له من علم سيط3 بدمه الحق والهدى ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى.

وقد كان الإمام محمد بن علي بن الحسين عليه السلام يقول: "إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث". ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة وهذا علم تعطى مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية لأنها في الحقيقة هي الاطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان وإليه أشار القائل بقوله:

أهل الحديث هموا أهل النبي وإن

لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا"

ويروى عن بعض الصلحاء أنه قال: "أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحاصل أن أهل الحديث، كثر الله تعالى سوادهم، ورفع عمادهم لهم نسبة خاصة، ومعرفة مخصوصة بالنبي لا يشاركهم فيها أحد من العالمين فضلا عن الناس أجمعين لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا، وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم، وخيال وجهه الوسيم ونور حديثه المستبين يتردد في حاق وسط جنانهم فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة فأكرم بهم من كرام يشاهدون عظمة المسمى حين يذكر الاسم ويصلون عليه كل لمحة ولحظة بأحسن الحد والرسم".

1 المراد بالمثلية. ها هنا، مثلية العدد، بقرينة قوله:"بل هي أكثر".

2 سورة المائدة، آية 57، والحديد آية 21 وغيرهما.

3 سيط: خلط.

ص: 47

2-

‌ فضل راوي الحديث:

كفى خادم الحديث فضلًا دخوله في دعوته صلى الله عليه وسلم حيث قال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأداها". رواه الشافعي والبيهقي عن ابن مسعود، وأخرجه أبو داود والترمذي بلفظ:"نضر الله امرأ سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع". قال الترمذي: "حسن صحيح" وعن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله المرء سمع منا حديثًا فبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه". رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه بزيادة وعن أنس بن مالك قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد الخيف من منى فقال:"نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها الحديث" رواه الطبراني وروى نحوه الإمام أحمد وغيره عن جبير بن مطعم.

قال سفيان بن عيينة: "ليس من أهل الحديث أحد إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث".

وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أرحم خلفائي" قيل: ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس". رواه الطبراني وغيره.

وكأن تلقيب المحدث بأمير المؤمنين مأخوذ من هذا الحديث، وقد لقب به جماعة منهم سفيان وابن راهويه والبخاري وغيرهم. وقد قيل في قوله تعالى:

{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} 1 ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من ذلك لأنه لا إمام لهم غيره صلى الله عليه وسلم. كذا في التدريب2 وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". ورواه من الصحابة غير واحد أخرجه ابن عدي، والدارقطني وأبو نعيم.

1 سورة الإسراء آية 71.

2 ص170 القاهرة المطبعة الخيرية 1307هـ.

ص: 48

وتعدد طرقه يقضي بحسنه كما جزم به العلائي. وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية، وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين؛ لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين، بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها.

وقال النووي رحمه الله تعالى في أول تهذيبه: "هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة هذا العلم وحفظه، وعدالة ناقليه. وإن الله يوفق له في كل عصر خلفا من العدول يحمونه وينفون عنه التحريف، فلا يضيع". وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر. وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئًا من علم الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئًا منه.

ومن شرف علم الحديث ما رويناه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة". قال الترمذي: "حسن غريب" وقال ابن حبان في صحيحه: "في هذا الحديث بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في القيامة أصحاب الحديث إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم".

وقال أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يعرف لهذه العصابة.

وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: لولا أهل المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر.

وقال أيضًا: "أهل الحديث في كل زمان كالصحابة في زمانهم".

وقال أيضًا: "إذا رأيت صاحب حديث فكأني رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وكان أحمد بن سريج يقول: "أهل الحديث أعظم درجة من الفقهاء لاعتنائهم بضبط الأصول".

ص: 49

وكان أبو بكر بن عياش يقول: "أهل الحديث في كل زمان؛ كأهل الإسلام مع أهل الأديان".

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل" نقله الشعراني في مقدمة ميزانه1.

وقال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس الله سره في فتوحاته في الباب الثالث عشر وثلاثمائة2 وللورثة حظ من الرسالة ولهذا قيل في معاذ وغيره: "رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم" وما فاز بهذه الرتبة ويحشر يوم القيامة مع الرسل إلا المحدثون الذين يروون الأحاديث بالأسانيد المتصلة بالرسول عليه السلام في كل أمة فلهم حظ في الرسالة وهم نقلة الوحي وهم ورثة الأنبياء في التبليغ والفقهاء إذا لم يكن لهم نصيب في رواية الحديث فليست لهم هذه الدرجة ولا يحشرون مع الرسل بل يحشرون في عامة الناس ولا ينطلق اسم العلماء إلا على أهل الحديث وهم الأئمة على الحقيقة".

"وكذلك الزهاد والعباد وأهل الآخرة، ومن لم يكن من أهل الحديث منهم كان حكمه حكم الفقهاء لا يتميزون في الورثة ولا يحشرون مع الرسل بل يحشرون مع عموم الناس ويتميزون عنهم بأعمالهم الصالحة لا غير كما أن الفقهاء أهل الاجتهاد يتميزون بعلمهم عن العامة". ا. هـ.

1 ص62 القاهرة، المطبعة الكستلية، 1279هـ.

2 ص65، ج3 القاهرة، المطبعة الأميرية 1293هـ.

ص: 50

3-

‌ الأمر النبوي برواية الحديث وإسماعه:

روي الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعدة من النار".

وروى الطبراني عن أبي قرصافة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا عني بما تسمعون، ولا تقولوا إلا حقا، ومن كذب عليَّ بني له بيت في جهنم يرتع فيه".

وروى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"علموا، ويسروا، ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت! ".

وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض القرآن وعلموا الناس، فإني مقبوض".

قال العارف الشعراني قدس سره في العهود الكبرى1: "وفي كتابة الحديث وإسماعه للناس فوائد عظيمة منها: عدم اندراس أدلة الشريعة، فإن الناس لو جهلوا الأدلة جملة -والعياذ بالله تعالى- لربما عجزوا عن نصرة شريعتهم عند خصمهم، وقولهم: "إنا وجدنا آباءنا على ذلك" لا يكفي. وماذا يضر الفقيه أن يكون محدثا يعرف أدلة كل باب من أبواب الفقه. ومنها: تجديد الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حديث. وكذلك تجديد الترضي والترحم على الصحابة والتابعين من الرواة إلى وقتنا هذا ومنها: وهو أعظمها فائدة الفوز بدعائه لمن بلغ كلامه إلى أمته في قوله: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها" ودعاؤه مقبول بلاشك إلا ما استثني كعدم إجابته في أن الله تعالى لا يجعل بأس أمته فيما بينهم كما ورد". انتهى.

1 ص32 "على هامش لطائف المنن والأخلاق" القاهرة المطبعة العامرة 311هـ.

ص: 51

4-

‌ حث السلف على الحديث:

قال الشعراني قدس سره في مقدمة ميزانه1: كان الأعمش رضي الله عنه يقول: "عليكم بملازمة السنة وعلموها للأطفال، فإنهم يحفظون على الناس دينهم إذا جاء وقتهم". وكان وكيع رحمه الله تعالى يقول: "عليكم باتباع الأئمة المجتهدين والمحدثين فإنهم يكتبون ما لهم وما عليهم بخلاف أهل الأهواء والرأي فإنهم لا يكتبون قط ما عليهم".

وكان الشعبي وعبد الرحمن بن مهدي يزجران كل من رأياه يتدين بالرأي وينشدان:

دين النبي محمد أخبار

نعم المطية للفتي الآثار

1 ص62، 63.

ص: 51

لا ترغبن عن الحديث وأهله

فالرأي ليل والحديث نهار

وكان مجاهد يقول لأصحابه: "لا تكتبوا عني كل ما أفتيت به، وإنما يُكتب الحديث ولعل كل شيء أفتيتكم به اليوم أرجع عنه غدًا". وكان أبو عاصم رحمه الله تعالى يقول: "إذا تبحر الرجل في الحديث، كان الناس عنده كالبقر". وكان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: "إياكم والقول في دين الله تعالى بالرأي؛ وعليكم باتباع السنة فمن خرج عنها ضل". ودخل عليه مرة رجل من أهل الكوفة والحديث يقرأ عنده فقال الرجل: "دعونا من هذه الأحاديث! " فزجره الإمام أشد الزجر، وقال له:"لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن". وقيل له مرة: "قد ترك الناس العمل بالحديث واقبلوا على سماعه" فقال رضي الله عنه: "نفس سماعهم للحديث عمل به". وكان رضي الله عنه يقول: "لم تزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث فإذا طلبوا العلم بلا حديث فسدوا". وكان يقول: "لا ينبغي لأحد أن يقول قولًا حتى يعلم أن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله". وكان الإمام مالك رضي الله عنه يقول: إياكم ورأى الرجال إلا إن أجمعوا عليه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 1 وما جاء عن نبيكم، وإن لم تفهموا المعنى فسلموا لعلمائكم، ولا تجادلوهم فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق. وروى الحاكم والبيهقي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول:" إذا صح الحديث فهو مذهبي" قال ابن حزم: "أي صح عنده أو عند غيره من الأئمة" وفي رواية أخرى: "إذا رأيتم كلامي يخالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعملوا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بكلامي الحائط" وقال مرة للربيع: "يا أبا أسحق، لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين". وكان رضي الله عنه إذا توقف في حديث يقول: "لو صح ذلك لقلنا به". وكان يقول: "إذا ثبت عن النبي -بأبي هو وأمي- شيء لم يحل تركه لشيء أبدًا" وروى البيهقي عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن مسألة يقول: "أولأحد كلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " وكان يتبرأ كثيرًا من رأي الرجال ويقول: "لا ترى أحدًا ينظر في كتب الرأي غالبًا إلا وفي قلبه دخل"2 وكان ولده عبد الله يقول: "سألت الإمام أحمد عن الرجل

1 سورة الأعراف، آية 2.

2 الدخل -بفتحتين- الفساد.

ص: 52

يكون في بلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحة من سقيمه، وصاحب رأي، فمن يسأل منهما عن دينه؟ فقال: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي". وبلغنا أن شخصًا استشاره في تقليد أحد من علماء عصره فقال: "لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الأوزاعي، ولا النخعي، ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا". قال الشعراني:"وهو محمول على من له قدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة".

وقال الشعراني أيضًا في العهود1: "وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول: ليس مراد الأكابر من حثهم على العمل على موافقة الكتاب والسنة إلا مجالسة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر لا غير، فإنهم يعلمون أن الحق تعالى لا يجالسهم إلا في عمل شرعه هو ورسوله صلى الله عليه وسلم أما ما ابتدع، فلا يجالسهم الحق تعالى ولا رسوله فيه، وإنما يجالسون فيه من ابتدعه من عالم أو جاهل". ا. هـ.

والآثار في الحث على الحديث عن السلف، وافرة وفي هذا القدر كفاية.

1 ص17.

ص: 53

5-

‌ إجلال الحديث وتعظيمه والرهبة من الزيغ عنه:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم، وأبو داود ولفظة:"من صنع أمرًا على غير أمرنا فهو رد" وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" رواه مسلم.

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد حسن.

ص: 53

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستة لعنتهم ولعنهم الله، وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله، ويعز من أذل الله والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتى ما حرم الله والتارك السنة" رواة الطبراني وابن حبان في صحيحة والحاكم وقال: "صحيح الإسناد" قال المنذري: "ولا أعرف له علة".

وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" رواه البغوي في شرح السنة. وقال النووي في أربعينه: "هذا حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح".

قال الشافعي رضي الله عنه في باب الصيد من الأم: "كل شيء خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط ولا يكون معه رأي ولا قياس فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس لأحد معه أمر ولا نهى غير ما أمر هو به".

وكان رضي الله عنه يقول: "رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به".

وقال الإمام محمد الكوفي رضي الله عنه: "رأيت الإمام الشافعي بمكة: وهو يفتي الناس، ورأيت الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه حاضرين فقال الشافعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل ترك لنا عقيل من دار"؟ فقال إسحاق: "روينا عن الحسن!! وإبراهيم أنهما لم يكونا يريانه وكذلك عطاء ومجاهد" فقال الشافعي لإسحاق: "لو كان غيرك موضعك لفركت أذنه أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال عطاء ومجاهد والحسن وهل لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة بأبي هو وأمي" كذا في ميزان الشعراني1 قدس سره.

وقال الإمام الصغاني رحمه الله تعالى في: "مشارق الأنوار": "أخذت مضجعي ليلة

1 ص65.

ص: 54

الأحد الحادية عشرة من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقلت: اللهم أرني الليلة نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم في المنام وإنك تعلم اشتياقي إليه، فرأيت بعد هجعة من الليل، كأني والنبي صلى الله عليه وسلم في مشربة، ونفر من أصحابنا أسفل منا عند درج المشربة، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول في ميت رماه البحر أحلال؟ فقال وهو مبتسم إليَّ "نعم" فقلت وأنا أشير إلى من بأسفل الدرج: فقل لأصحابي فإنهم لا يصدقوني، فقال:"لقد شتمتني وعابوني! " فقلت: كيف يا رسول الله؟ فقال كلامًا ليس يحضرني لفظه وإنما معناه: "عرضت قولي على من لا يقلبه"؛ ثم أقبل عليهم يلومهم ويعظهم فقلت صبيحة تلك الليلة: وأنا أعوذ بالله من أن أعرض حديثه بعد ليلتي هذه إلا على الذين يحكمونه فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى ويسلموا تسليمًا. ا. هـ.

وسيأتي إن شاء الله تعالى في الباب العاشر في فقه الحديث مزيد لهذا بحوله سبحانه وقوته.

ص: 55

6-

‌ فضل المحامي عن الحديث والمحيي للسنة:

عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحرث يومًا: "اعلم يا بلال" قال: "ما أعلم يا رسول الله؟ " قال: "إن من أحيا سنة من سنتي أميتت بعدي، كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئًا". رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه قال الحافظ المنذري: "وللحديث شواهد".

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة". رواه الترمذي

قال الإمام السيد محمد بن المرتضى اليماني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه: "إيثار الحق على

ص: 55

الخلق"1 ما نصه: "المحامي عن السنة، الذاب عن حماها كالمجاهد في سبيل الله تعالى يعد للجهاد ما استطاع من الآلات والعدة والقوة، كما قال الله سبحانه {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} 2 وقد ثبت في الصحيح أن جبريل عليه السلام كان مع حسان بن ثابت يؤيده ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشعاره، فكذلك مع ذب عن دينه وسنته من بعده إيمانًا به وحبًّا ونصحًا له ورجاء أن يكون من الخلف الصالح الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم3:"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" والجهاد باللسان أحد أنواع الجهاد سبله وفي الحديث4: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وقد أحسن من قال في هذا المعنى شعرًا:

جاهدت فيك بقولي يوم يختصم الـ

أبطال إذ فات سيفي يوم يمتصع5

عن اللسان لوصال إلى طرق

في الحق لا تهتديها الذبل السرع

ثم قال: "ولا ينبغي أن سنتوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له، كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين، ولا المتقى من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثرة الغافلين ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصة بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه، وليوطن نفسه على ذلك فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم- أنه قال: "عن هذا الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء! " رواه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال: "هذا حديث حسن صحيح" ورواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد من حديث أنس وروى البخاري نحوه بغير لفظه من حديث ابن عمر وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلب الحق غربة" رواه الحافظ الأنصاري في أول كتابه: "منازل السائرين إلى الله" من حديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده وقال: "هذا حديث غريب، لم اكتبه عاليًا إلا من رواية علان، ولذلك شواهد قوية عن تسعة من الصحابة ذكرها البيهقي في:"مجمع الزوائد" فنسأل الله أن يرحم غربتنا في الحق، ويهدي ضالنا ولا يردنا عن أبواب رجائه، ودعائه وطلبه محرومين إنه مجيب الداعين، وهادي المهتدين وأرحم الراحمين.

1 ص20.

2 سورة الأنفال، آية:61.

3 رواه الديلمي في مسند الفردوس.

4 رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه غيرهم من غيره. بلفظ آخر أيضًا.

5 يمتصع: يضرب.

ص: 56

7-

‌ أجر المتمسك بالسنة إذا اتبعت الأهواء وأوثرت الدنيا:

عن أبي ثعلبة الخشنى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ايتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًّا مطاعًا وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن كالقبض على الجمر؛ للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله". رواه ابن ماجه والترمذي وقال: "حديث حسن غريب" وأبو داود وزاد قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجر خمسين رجلًا منا أو منهم، قال:"بل أجر خمسين منكم".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد" رواه الطبراني ورواه البيهقي من رواية الحسن بن قتيبة عن ابن عباس رفعه: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد".

وعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عبادة في الهرج 1 كهجرة إليَّ" رواه مسلم والترمذي وابن ماجه.

1 الهرج: هو الاختلاف والفتن.

ص: 57

8-

‌ بيان أن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع:

قال الإمام الحافظ أبو حاتم الرازي: "علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الجهمية أن يسموا أهل السنة مشبهة ونابتة وعلامة القدرية أن يسمعوا أهل السنة مجبرة، وعلامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية" نقله عنه الذهبي في كتاب: "العلو".

وقال الإمام العارف الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره في كتاب: "الغنية" نحو ما ذكر وزاد1: "وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة عاصبيه وكل ذلك عصبية، وغياظ لأهل السنة ولا اسم لهم إلا اسم واحد وهو: "أصحاب الحديث" ولا يلتصق بهم ما لقيهم به أهل البدع كما لم يلتصق بالنبي تسمية كفار مكة ساحرًا، وشاعرًا ومجنونًا ومفتونًا وكاهنًا، ولم يكن اسمه عند الله وعند ملائكته وعند أنسه وجنه وسائر خلقه إلا رسولًا نبيًّا بريًّا من العاهات كلها:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} 2. ا. هـ.

وزاد شيخ الإسلام ابن تيميه: "أن المرجئة تسميهم شكاكًا، قالوا: وهذا علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقادًا واقتصادًا وقولًا وعملًا فكما كان المنحرفون عنه يسمونه بأسماء مذمومة مكذوبة وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس بها في المحيا والممات باطنًا". ا. هـ.

1 ص71 مكة المكرمة، المطبعة الميرية 1314هـ.

2 سورة الإسراء، آية:48. وسورة الفرقان، آية: 9.

ص: 58

9-

‌ ما روي أن الحديث من الوحي:

عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أوتيت القرآن، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول علكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله". رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه.

وعن حسان بن عطية قال: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن".

وعن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه" أخرجهما أبو داود في مراسيله.

قال أبو البقاء في كلياته: "والحاصل أن القرآن والحديث يتحدان في كونهما، وحيًا منزلًا من عند الله بدليل: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1، إلا أنهما يتفارقان من حيث إن القرآن هو المنزل للإعجاز والتحدي به بخلاف الحديث، وإن ألفاظ القرآن مكتوبة في اللوح المحفوظ، وليس لجبريل عليه السلام، ولا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يتصرفا فيها أصلًا، وأما الأحاديث فيحتمل أن يكون النازل على جبريل معنى صرفًا فكساه حلة العبارة وبين الرسول بتلك العبارة أو ألهمه كما نتفقه2، فأعرب الرسول بعبارة تفصح عنه". ا. هـ.

وفي المراقاة أن "منهم"3 من قال بأنه عليه الصلاة والسلام كان مجتهدًا ينزل اجتهاده منزلة الوحي لأنه لا يخطئ وإذا أخطأ ينبه عليه بخلاف غيره.

وفيها عن الشافعي أنه قال: "كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال: لقوله -صلى الله عليه وسلم4: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه" وقال: "جميع ما تقوله الأئمة شرح للسنة جميع السنة شرح للقرآن" وقال: "ما نزل بأحد من الدين نازلة إلا وهي في كتبا الله تعالى".

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود: "إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله". وعن ابن جبير: "ما بلغني حديث على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله تعالى". ا. هـ.

1 سورة النجم، آية:4.

2 كذا في كليات أبي البقاء ص288 القاهرة، المطبعة الأميرية، 1281، طبعة ثانية.

3 لفظ -منهم- غير موجود في الأصل، ولكن اقتضاه السياق فأثبتناه بين هلالين.

4 رواه البزار من حديث معقل بن يسار بلفظ: اعملوا بالقرءان، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به.

ص: 59

10-

‌ أيادي المحدثين البيضاء على الأمة وشكر مساعيهم:

يقول جامعه الفقير:

من أين للبليغ أن يحصي أيادي المحدثين، وهم الذين عشقوا الهدى النبوي دون العالمين، فتتبعوه ممن بدا وحضر، وكابدوا لأخذه أهوال السفر! فكم جابوا صحاري تتلظى يلظي الرمضاء، وقطعوا عن العمران فيافي تستدعي اليأس، وتروع الأحشاء فحفظوا، ووعوا ولعهد النفر للتفقه في الدين رعوا، ودفعوا عن الدين صنع الوضاعين، وانتحال المفترين وذبوا الكذب عن كلام الرسول الصادق بما مهدوه من تحري كل راو موافق فدونوا ما سمعوه بالسند، فرارًا عن الرمي باتباع الأهواء، وتحكيم الآراء فاستبرءوا لدينهم بجليل هذا الاحتياط، ودربوا الأمة على التثبت في توثيق عرى الارتباط رحماك اللهم فالاعتراف بآثرهم الحسنة أمر، واجب وشكر فضلهم لا يقص عنه إلا من هو عن الاتباع ناكب أفليست دواوينهم بعد القرآن دعائم الإسلام التي قامت عليها صروحه، وأعضاد الدين التي بأن منها صريحه لا جرم لولا أخذهم بناصية ما دونوه من صحيح السنة لانثالت على الناس جراثيم الأباطيل المستكنة التي رزى بها الدين في عصر الوضاعين المنافقين الذين دخلوا في دين الله للتشويش فرد الله كيدهم بتنقيب المحدثين من خرافاتهم ودأبهم في التفتيش حتى أشرقت شموس صحاح الأخبار وانبعثت أشعتها في الأقطار وتمزقت عن البصائر حجب الجهالة وأغشية الضلالة، فرحم الله تلك الأنفس التي نهضت لتأييد الدين، ورضى عمن أحيا آثارهم من اللاحقين. آمين.

ص: 60

‌الباب الثاني: في معنى الحديث وفيه مباحث

‌ماهية الحديث والخبر والأثر

الباب الثاني: في معنى الحديث؛ وفيه مباحث

1-

ماهية الحديث والخير والأثر:

اعلم: أن هذه الثلاثة مترادفة عند المحدثين على معنى ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولًا أو فعلًا أو تقريرًا أو صفة وفقهاء خراسان يسمعون الموقوف أثرًا والمرفوع خبرًا وعلى هذه التفرقة جرى كثير من المصنفين وقال أبو البقاء1: الحديث هو اسم من التحديث وهو الإخبار ثم سُمي به قول أو فعل أو تقرير نسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويجمع على: "أحاديث" على خلاف القياس. قال الفراء: واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعًا للحديث، وفيه أنهم لم يقولوا أحدوثة النبي. وفي الكشاف:"الأحاديث اسم جمع ومنه حديث النبي". وفي البحر: ليس الأحاديث باسم جمع، بل هو جمع تكسير لحديث على غير القياس كأباطيل، واسم الجمع يأت على هذا الوزن وإنما سميت هذه الكلمات، والعبارات أحاديث كما قال الله تعالى {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِه} 2 لأن الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية، وكل واحد من تلك الحروف يحدث عقيب صاحبه؛ أو لأن سماعها يحدث في القلوب من العلوم والمعاني والحديث نقيض القديم كأنه لوحظ فيه مقابلة القرآن والحديث ما جاء عن النبي والخبر ما جاء عن غيره وقيل بينهما عموم وخصوص مطلق فكل حديث خبر من غير عكس". والأثر: ما روي عن الصحابة ويجوز إطلاقه على كلام النبي أيضًا". ا. هـ.

1 ص152.

2 سورة الطور، آية:34.

ص: 61

وفي التدريب1: "يقال أثرت الحديث بمعنى رويته، ويسمى المحدث أثريًّا نسبة للأثر".

وقال الإمام تقي الدين بن تيميه في بعض فتاويه: "الحديث النبوي: هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حُدث به عنه صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، من قوله، وفعله، وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة، فما قاله، إن كان خبرًا، وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء، دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقًّا، وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه". وقد رُوي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما يسمع من النبي فقال له بعض الناس: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع". فسأل النبي عن ذلك فقال2: "اكتب! فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق". يعني شفتيه الكريمتين وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحفظ مني إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي بقلبي ولا أكتب بيدي". وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وقالوا: "إن عنى جده الأدنى محمدًا، فهو مرسل فإنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإن عنى جده الأعلى فهو منقطع فإن شعيبًا لم يدركه" وأما أئمة الإسلام، وجمهور العلماء فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح النقل إليه مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل الشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم قالوا: "الجد هو عبد الله

1 ص4.

2 أخرجه أبو داود.

ص: 62

فإنه يجيء مسمى، ومحمد أدركه"، قالوا: "وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا أوكد لها وأدل على صحتها"، ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب من الأحاديث الفقهية، التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام.

والمقصود أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة وذكر ما فعله فإن أفعاله التي أقر عليها حجة لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله1: "صلوا كما رأيتموني أصلى" وقوله2: "لتأخذوا عني مناسككم". وكذلك ما أحله الله له فهو حلال للأمة ما لم يقم دليل التخصيص؛ ولهذا قال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} 3 ولما أحل الله له الموهوبة قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 ولهذا كان النبي إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله ليبين للسائل أنه مباح وكان إذا قيل له قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال5:"إني أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده". ومما يدخل في مسمى حديثه ما كان يقرهم عليه، مثل إقراره على المضاربة التي كانوا يعتادونها6، وإقراره لعائشة على اللعب بالبنات7، وإقراره في الأعياد على مثل غناء الجاريتين8، ومثل لعب الحبشة بالحراب في المسجد9، ونحو ذلك وإقراره لهم على أكل الضب على مائدته10، وإن كان قد صح عنه أنه ليس

1 رواه أحمد والشيخان والنسائي من حديث مالك بن حويرث.

2 رواه مسلم عن جابر.

3 سورة الأحزاب، الآية:37.

4 سورة الأحزاب، الآية:5.

5 رواه البخاري من حديث عائشة بلفظ آخر.

6 دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر نخلها وأرضها. على أن يعتملوها من أموالهم، وللنبي صلى الله عليه وسلم شطر تمرها وأخرجه الشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عمر.

7 رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها.

8 لم أجده.

9 عن أنس رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحًا بذلك متفق عليه.

10 في "باب ما جاء في الضب" أحاديث، منها حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال:"لا آكله ولا أحرمه" -متفق عليه- ومن حديث آخر: "لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه".

ص: 63

بحرام، إلى أمثال ذلك؛ فهذا كله يدخل في مسمى الحديث، وهو المقصود بعلم الحديث فإنه إنما يطلب ما يستدل به على الدين، وذلك إنما يكون بقوله أو فعله أو إقراره، وقد يدخل فيها بعض أخباره قبل النبوة وبعض سيرته قبل النبوة مثل تحنثه بغار حراء ومثل حسن سيرته لأن الحال يستفاد منه ما كان عليه قبل النبوة من كرائم الأخلاق، ومحاسن الأفعال كقول خديجة له:"كلا والله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق". ومثل المعرفة فإنه كان أميًّا لا يكتب، ولا يقرأ وإنه كان معروفًا بالصدق، والأمانة، وأمثال ذلك مما يستدل به على أحواله التي تنفع في المعرفة بنبوته، وصدقة فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل النبوة كثيرًا ولهذا يذكر مثل ذلك في كتب سيرته كما يذكر فيها نسبه وأقاربه وغير ذلك من أحواله، وهذا أيضًا قد يدخل في مسمى الحديث، والكتب التي فيها أخباره منها كتب التفسير ومنها كتب السيرة، والمغازي ومنها كتب الحديث، وكتب الحديث هي ما كان بعد النبوة أخص، وإن كان فيها أمور جرت قبل النبوة فإن تلك لا تذكر لتوحد وشرع فعله قبل النبوة بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض على العباد الإيمان بهن والعمل هو ما جاء به بعد النبوة". ا. هـ.

ص: 64

2-

‌ بيان الحديث القدسي:

قال العلامة الشهاب ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين النووية، في شرح الحديث الرابع والعشرين المسلسل بالدمشقيين وهو حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا

" الحديث ما نصه:

"فائدة يعم نفعها، ويعظم وقعها في الفرق بين الوحي المتلو وهو: "القرآن" والوحي المروي عنه صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، وهو ما ورد من الأحاديث الإلهية وتسمى: "القدسية"؛ وهي أكثر من مائة، وقد جمعها بعضهم في جزء كبير. وحديث: "أبي ذر" هذا من أجلها:

ص: 64

اعلم: أن الكلام المضاف إليه تعالى أقسام ثلاثة:

أولها- وهو أشرفها: "القرآن" لتميزه عن البقية بإعجازه من أوجه كثيرة، وكونه معجزة باقية على مر الدهر محفوظة من التغيير، والتبديل وبحرمة سمه لمحدث، وتلاوته لنحو الجنب، وروايته بالمعنى وبتعينه في الصلاة، وبتسميته قرآنا وبأن كل حرف منه بعشر حسنات، وبامتناع بيعه في رواية عند أحمد وكراهته عندنا، وبتسمية الجملة منه آية وسورة وغيره من بقية الكتب، والأحاديث القدسية لا يثبت لها شيء من ذكر فيجوز مسه، وتلاوته لمن ذكر وروايته بالمعنى ولا يجري في الصلاة بل يبطلها، ولا يسمى قرآنا ولا يعطى قارئة بكل حرف عشرا، ولا يمنع بيعه ولا يكره اتفاقًا ولا يسمى بعضه آية ولا سورة اتفاقًا أيضًا.

ثانيهًا- كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل تغييرها وتبديلها.

ثالثهًا- بقية الأحاديث القدسية وهي ما نقل إلينا آحادًا عنه صلى الله عليه وسلم مع إسناده لها عن ربه، فهي من كلامه تعالى فتضاف إليه وهو الأغلب، ونسبتها إليه حينئذ نسبة إنشاء لأنه المتكلم بها أولًا وقد تضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المخبر بها عن الله تعالى بخلاف القرآن فإنه لا تضاف إلا إليه تعالى فيقال فيه:"قال الله تعالى" وفيها: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى" واختلف في بقية السنة هل هو كله يوحى أو لا وآية: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 1 تؤيد الأول؟ ومن ثم قال -صلى الله عليه وسلم2: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه". ولا تنحصر تلك الأحاديث القدسية في كيفية من كيفيات الوحي بل يجوز أن تنزل بأي كيفية من كيفياته كرؤيا النوم، والإلقاء في الروع وعلى لسان الملك، ولراويها صيغتان إحداهما أن يقول:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى واحد". ا. هـ.

1 سورة النجم، آية:4.

2 من رواية أبي داود في سننه، وللترمذي: وأن ماحرم رسول الله كما حرم الله.

ص: 65

وفي كليات أبي البقاء في الفرق بين القرآن والحديث القدسي1: "أن القرآن ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جلي، وأما الحديث القدسي، فهو ما كان لفظه من عند الرسول، ومعناه من عند الله بالإلهام أو المنام". وقال بعضهم: "القرآن لفظ معجز، ومنزل بواسطة جبريل، والحديث القدسي غير معجز، وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني" وقال الطيبى: "القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم والقدسي إخبار الله معناه بالإلهام أو بالمنام فأخبر النبي أمته بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله تعالى ولم يروها عنه تعالى". ا. هـ.

وقال العلامة السيد أحمد بن المبارك رحمه اله تعالى في الإبريز2: "وسألته -يعني أستاذه نجم العرفان السيد عبد العزيز الدباغ قدس سره- الفرق بين هذه الثلاثة يعني القرآن والحديث القدسي وغير القدسي فقال قدس سره:

"الفرق بين هذه الثلاثة وإن كانت كلها خرجت من بين شفتيه صلى الله عليه وسلم وكلها معها أنوار من أنواره صلى الله عليه وسلم: أن النور الذي في القرآن، قديم من ذات الحق سبحانه لأن كلامه تعالى قديم والنور الذي في الحديث القدسي من روحه صلى الله عليه وسلم وليس هو مثل نور القرآن، فإن نور القرآن قديم، ونور هذا ليس بقديم، والنور الذي في الحديث الذي ليس بقدسي من ذاته صلى الله عليه وسلم فهي أنوار ثلاثة، اختلفت بالإضافة، فنور القرآن من ذات الحق سبحانه، ونور الحديث القدسي من روحه صلى الله عليه وسلم نور ما ليس بقدسي من ذاته صلى الله عليه وسلم."

فقلت: "ما الفرق بين نور الروح ونور الذات؟ ".

فقال رضي الله عنه: "الذات خلقت من تراب، ومن التراب خلق سائر العباد؛ والروح من الملأ الأعلى، وهم أعرف الخلق بالحق سبحانه، وكل واحد يحن إلى أصله فكان نور الروح متعلقا بالحق سبحانه ونور الذات متعلقًا بالخلق؛ فلذات ترى الأحاديث القدسية تتعلق بالحق سبحانه وتعالى بتبيين عظمته أو لإظهار رحمته أو بالتنبيه على سعة ملكه وكثرة عطائه فمن الأول حديث: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم،

1 ص288 "ذ. س".

2 ص66 طبع حجر، 1287.

ص: 66

وإنسكم وجنكم

" إلى آخره وهو حديث أبي ذر في مسلم. ومن الثاني حديث: "أعددت لعبادي الصالحين

" 1 الحديث. ومن الثالث حديث: "يد الله ملأى، لا يغيضها نفقه، سحاء الليل والنهار

" 2 إلخ وهذه من علوم الروح في الحق سبحانه، وترى الأحاديث التي ليست بقدسية تتكلم على ما يصلح البلاد، والعباد بذكر الحلال، والحرام والحث على الامتثال بذكر الوعد والوعيد". هذا بعض ما فهمت من كلامه رضي الله عنه والحق أني لم أوف به، ولم آت بجميع المعنى الذي أشار إليه.

فقلتك: "الحديث القدسي من كلام الله عز وجل أم لا؟ ".

فقال: "ليس هو من كلامه وإنما هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم:".

فقلت: "فلم أضيف للرب سبحانه فقيل فيه: "حديث قدسي" وقيل فيه: "فيما يرويه عن ربه"، وإذا كان من كلامه عليه السلام فأي رواية له فيه عن ربه وكيف نعمل مع هذه الضمائر في قوله: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم

" إلخ وقوله: "أعددت لعبادي الصالحين

" وقوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكاف ر3

"؟ فإن هذه الضمائر لا تليق إلا بالله فتكون الأحاديث القدسية من كلام الله تعالى وإن لم تكن ألفاظها لإعجاز ولا تعبدنا بتلاوتها".

فقال رضي الله عنه مرة: "إن الأنوار من الحق سبحانه تهب على ذات النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحصل له مشاهدة خاصة -وإن كان دائمًا في المشاهدة- فإن سمع من الأنوار كلام الحق سبحانه، أو نزل عليه ملك فذلك هو: "القرآن"؛ وإن لم يسمع كلامًا، ولا نزل عليه ملك فذلك وقت الحديث القدسي. فيتكلم عليه الصلاة والسلام ولا يتكلم حينئذ إلا في شأن الربوبية بتعظيمها، وذكر حقوقها، ووجه إضافة هذا الكلام إلى الرب سبحانه أنه كان مع هذه المشاهدة التي اختلطت فيها الأمور حتى رجع الغيب شهادة، والباطن ظاهرًا فأضيف إلى الرب وقيل فيه: "حديث رباني"، وقيل فيه: "فيما يرويه عن

1 أخرجه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق وغيرهما.

2 أخرجه البخاري في كتاب التوحيد من حديث أبي هريرة.

3 أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما بألفاظ مختلفة.

ص: 67

ربه عز وجل"؛ ووجه الضمائر، أن كلامه عليه السلام، خرج على حكاية لسان الحال التي شاهدها من ربه عز وجل. وأما الحديث الذي ليس بقدسي فإنه يخرج مع النور الساكن في ذاته عليه السلام الذي لا يغيب عنها أبدًا، وذلك أنه عز وجل أمد ذاته عليه السلام بأنوار الحق كما أمد جرم الشمس بالأنوار المحسوسة فالنور لازم للذات الشريفة لزوم نور الشمس لها.

وقال مرة أخرى: "وإذا فرضنا محمومًا دامت عليه الحمى على قدر معلوم وفرضناها تارة تقوى حتى يخرج بها عن حسه، ويتكلم بما لا يدري وفرضناها مرة أخرى تقوى، ولا تخرجه عن حسه ويبقي على عقله، ويتكلم بما يدري فصار لهذه الحمى ثلاثة أحوال قدرها المعلوم، وقوتها المخرجة عن الحس وقوتها التي لا تخرج عن الحس فكذا الأنوار في ذاته عليه السلام فإن كانت على القدر المعلوم فما كان من الكلام حينئذ فهو الحديث الذي ليس بقدسي، وإن سطعت الأنوار وشغلت في الذات حتى خرج بها عليه السلام عن حالته المعلومة فما كان من الكلام حينئذ فهو كلام الله سبحانه، وهذه كانت حالته عليه السلام عند نزول القرآن عليه، وإن سطعت الأنوار ولم تخرجه عن حالته عليه السلام فيما كان من الكلام حينئذ قيل فيه: حديث قدسي".

وقال مرة: "إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم وكان الكلام بغير اختياره، فهو: "القرآن"، وإن كان باختياره، فإن سطعت حينئذ أنوار عارضة، فهو الحديث القدسي وإن كانت الأنوار الدائمة فهو الحديث الذي ليس بقدسي ولأجل أن كلامه لا بد أن تكون معه أنوار الحق سبحانه كان جميع ما يتكلم به صلى الله عليه وسلم وحيًا يوحى وباختلاف أحوال الأنوار افترق إلى الأقسام الثلاثة والله أعلم".

قال السيد أحمد بن المبارك: "فقلت هذا كلام في غاية الحسن ولكن ما الدليل على أن الحديث القدسي ليس من كلامه عز وجل؟ ".

فقال رضي الله عنه: "كلامه تعالى لا يخفى" فقلت: "بكشف؟ " فقال رضي الله عنه: "بكشف وبغير كشف، ولك من له عقل، وأنصت للقرآن ثم أنصت لغيره أدرك

ص: 68

الفرق لا محالة. والصحابة رضي الله عنهم أعقل الناس، وما تركوا دينهم الذي كانت عليه الآباء إلا بما وضح من كلامه تعالى، ولو لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يشبه الأحاديث القدسية ما آمن من الناس أحد، ولكن الذي ظلت له الأعناق خاضعة هو القرآن العزيز الذي هو كلام الرب سبحانه وتعالى.

فقلت له: "ومن أين لهم أنه كلام الرب تعالى وإنما كانوا على عبادة الأوثان، ولم تسبق لهم معرفة بالله عز وجل، حتى يعلموا أنه كلامه وغاية ما أدركوه أنه كلام خارج عن طوق البشر فلعله من عند الملائكة مثلًا؟ ".

فقال رضي الله عنه: "كل من استمع القرآن، وأجرى معانيه على قلبه علم علمًا ضروريًّا أنه كلام الرب سبحانه فإن العظمة التي فيه والسطوة التي عليه ليست إلا عظمه الربوبية، وسطوة الألوهية والعاقل الكيس إذا استمع لكلام السلطان الحادث ثم استمع لكلام رعيته، وجد لكلام السلطان نفسًا به يعرف حتى إنا فرضناه أعمى، وجاء إلى جماعة يتكلمون والسلطان معمور فيهم، وهم يتناوبون الكلام لميز كلام السلطان من غيره بحيث لا تدخله في ذلك ريبة هذا في الحادث مع الحادث فكيف بكلام القديم، وقد عرف الصحابة رضي الله عنهم من القرآن ربهم عز وجل وعرفوا صفاته وما يستحقه من ربوبيته، وقام لهم سماع القرآن في إفادة العلم القطعي به عز وجل مقام المعاينة والمشاهدة وحتى صار الحق سبحانه عندهم بمنزلة الجليس ولا يخفى على أحد جليسه؟ ".

ثم نقل ابن المبارك كلام أستاذه المنوه به، في ما يعرف به كلامه تعالى فانظره، وما نقلنا بحثه المذكور إلا لنفاسته لأنه منزع بديع ينشرح له القلب والله العليم.

ص: 69

3-

‌ ذكر أول من دون الحديث:

قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري1: "اعلم -علمني الله وإياك- أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع، ولا مرتبه لأمرين:

أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك كما ثبت في صحيح مسلم، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.

وثانيهما: لسعة حفظهم وسيلان أذهابهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار.

فأول من جمع ذلك: "الربيع بن صبيح" و"سعيد بن أبي عروبة" وغيرهما. وكانوا يصنفون كل باب على حدة إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام.

فصنف الإمام مالك: "الموطأ" وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزحه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ومن بعدهم وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي خاصة وذلك على رأس المائتين فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندا وصنف أسد بن موسى الأموي سندا وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسندا".

"ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك آثرهم فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وعثمان بن شيبة وغيرهم من النبلاء".

1 ص4 القاهرة المطبعة الأميرية الكبرى 1301هـ.

ص: 70

"ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معًا كأبي بكر بن أبي شيبة".

"ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها، وجدها جامعة للصحيح والحسن، والكثير منها يشمله التضعيف، فحرك همته لجمع الحديث الصحيح وقوى همته لذلك ما سمعه من أستاذه الإمام إسحاق بن راهويه حيث قال لمن عنده والبخاري فيهم: "لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال البخاري: "فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح". ا. هـ.

قال السيوطي: "وهؤلاء المذكورون في أول من جمع، كلهم من أثناء المائة الثانية، وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز". وأفاد الحافظ في الفتح أيضًا: أن أول من دون الحديث ابن شهاب بأمر عمر بن عبد العزيز كما رواه أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن عن مالك قال: "أول من دون العلم ابن شهاب -يعني الزهري-" وأخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار قال: "لم يكن الصحابة، ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها لفظًا ويأخذونها حفظًا إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه".

وقال مالك في الموطأ، رواية محمد بن الحسن:"أخبرنا يحيى بن سعيد، أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم أن: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة أو حديث أو نحو هذا فاكتبه لي فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء" علقه البخاري في صحيحه، وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: "انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه".

وروى عبد الرزاق عن ابن وهب سمعت مالكا يقول: "كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن، والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزن أن يجمع السنن ويكتب بها إليه" فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إليه. ا. هـ.

ص: 71

4-

‌ بيان أكثر الصحابة حديثا وفتوى:

في التقريب وشرحه1: "أكثرهم -يعني الصحابة- حديثا، أبو هريرة، روى خمسة آلاف وثلائمائة وأربعة وسبعين حديثا؛ وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل وهو أحفظ الصحابة أسند البيهقي عن الشافعي أنه قال: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره". وروى ابن سعد أن ابن عمر كان يترحم عليه في جنازته ويقول: "كان يحفظ على المسلمين حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ثم عبد الله بن عمر روى ألفي حديث وستمائة وثلاثين حديثًا ثم أنس بن مالك روى ألفين، ومائتين وستة وثمانين حديثًا ثم ابن عباس روى ألفا وستمائه وستين حديثًا. ثم جابر بن عبد الله روى ألفًا وخمسائة وأربعين حديثًا. ثم أبو سعيد الخدري سعد بن مالك روى ألفًا ومائة وسبعين حديثًا. ثم عائشة الصديقة أم المؤمنين روت ألفين ومائتين وعشرة وليس في الصحابة من يزيد حديثه على ألف غير هؤلاء وإياهم عني من أنشد:

سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا

من الحديث عن المختار خير مضر

أبو هريرة، سعد، جابر، أنس

صديقة، وابن عباس، كذا ابن عمر2

وأما أكثرهم فتوى فقال ابن حزم: "أكثرهم فتوى مطلقا عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت وعائشة".

قال: "ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد ضخم".

قال: "وليهم عشرون أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد،

1 ص205.

2 السيوطي: تدريب الراوي، ص205 "ذ. س".

ص: 72

وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكر، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأم سلمة".

قال: "ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير".

قال: "وفي الصحابة نحو مائة وعشرين نفسًا، يقلون في الفتيا جدا، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة أو المسألتان أو الثلاث، كأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي طلحة والمقداد

" وسرد الباقين.

وقال الإمام محمد بن سعد في الطبقات: قال محمد بن عمر الأسلمى: "إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم ماتوا قبل أن يحتاج إليهم وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا، وقضيا بين الناس وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عنهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون وسمعوا أحاديث فأدوها فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثًا عنه من غيرهم مثل أبي بكر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي بن كعب وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت وأسيد بن حضير، ومعاذ بن جبل ونظرائهم فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس، ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب، ونظرائهم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم في الناس فاحتاج الناس إليهم ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ولعله أكثر له صحبة ومجالسة وسماعًا من الذي حدث عنه ولكنا حملنا الأمر في ذلك منهم على التوقي في الحديث، وعلى أنه لم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الاستغال بالعبادة والأسفار في الجهاد في سبيل الله حتى مضوا ولم يحفظ عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء". ا. هـ.

ص: 73

5-

‌ ذكر صدور التابعين في الحديث وألفتيا:

وهم المعروفون بالفقهاء السبعة من أهل: المدينة سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير، وخارجه بن زيد بن ثابت، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار الهلالي هكذا عدهم أكثر علماء أهل الحجاز، وجعل ابن المبارك سالم بن عبد الله بن عمر بدل أبي سلمة وجعل أبو الزناد بدلهما أبا بكر بن عبد الرحمن وعدهم ابن المديني اثني عشر وزاد إسماعيل أخا خارجة وسالمًا وحمزة وزيدًا أو عبيد الله وبلالًا بدل عبد الله بن عمر وأبان بن عثمان وقبيصة بن ذؤيب.

وعن الإمام أحمد بن حنبل: "أفضل التابعين ابن المسيب، قيل له: فعلقمة والأسود؟ قال: هو وهما".

وعنه أيضًا: "لا أعلم فيهم مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم ولقمة ومسروق".

وعنه أيضًا: "ليس أحد أكثر فتوى في التابعين من الحسن، وعطاء كان عطاء مفتي البصرة". كذا في التقريب وشرحه1.

1 ص214.

ص: 74

‌الباب الثالث: في بيان علم الحديث؛ وفيه مسائل

1-

‌ ماهية علم الحديث؛ رواية ودراية وموضوعه وغايته:

قال عز الدين بن جماعة: "علم الحديث علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن وموضوعه السند، والمتن وغايته معرفة الصحيح من غيره".

وقال ابن الأكفاني: "علم الحديث الخاص بالرواية علم يشتمل على نقل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها. وعلم الحديث الخاص بالدراية علم يعرف منه حقيقة الرواية وشروطها، وأنواعها، وأحكامها، وحال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات وما يتعلق بها".

قال السيوطي: "فحقيقة الرواية نقل السنة ونحوها وإسناد ذلك إلى من عزى إليه بتحديث وإخبار وغير ذلك؛ وشروطها: تحمل راويها لما يرويه بنوع من أنواع التحمل، من سماع أو عرض أو إجازة ونحوها، وأنواعها الاتصال والانقطاع، ونحوهما وأحكامها القبول، والرد وحال الرواة العدالة والجرح وشروطهم في التحمل وفي الأداء سيأتي نبذة منه وأصناف المرويات المصنفات من المساند والمعاجم والأجزاء وغيرهم، وما يتعلق بها: هو معرفة اصطلاح أهلها".

ص: 75

2-

‌ المقصود من علم الحديث:

قال الإمام النووي قدس الله سره في شرح خطبة مسلم ما نصه1: "إن المراد من علم الحديث، تحقيق معاني المتون، وتحقيق علم الإسناد والمعلل، والعلة عبارة عن معنى في الحديث خفي يقتضي ضعف الحديث مع أن ظاهره السلامة منها، وتكون العلة تارة في المتن، وتارة في الإسناد وليس المراد من هذا العلم مجرد السماع، ولا الإسماع ولا الكتابة بل الاعتناء بتحقيقه، والبحث عن خفي معاني المتون، والأسانيد والفكر في ذلك ودوام الاعتناء به، ومراجعة أهل المعرفة به ومطالعة كتب أهل التحقيق فيه، وتقييد ما حصل من نفائسه، وغيرها فيحفظها الطالب بقلبه ويفيدها بالكتابة ثم يديم مطالعة ما كتبه، ويتحرى التحقيق فيما يكتبه، ويتثبت فيه فإنه فيما بعد ذلك يصير معتمدًا عليه، ويذاكر بمحفوظاته من ذلك من يشتغل بهذا الفن سواء كان مثله في المرتبة أو فوقه أو تحته فإن بالمذاكرة يثبت المحفوظ، ويتحرر ويتأكد ويتقرر، ويزداد بحسب كثرة المذاكر، ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة، والحفظ ساعات بل أيامًا، وليكن في مذاكرته متحريًا الإنصاف قاصدًا الاستفادة والإفادة غير مترفع على صاحبه بقلبه ولا بكلامه ولا بغير ذلك من حاله، مخاطبًا له بالعبارة الجميلة اللينة فبهذا ينمو علمه، وتزكو محفوظاته والله أعلم".

1 ص28 القاهرة، المطبعة الكستلية، 1283هـ.

ص: 76

3-

‌ حد المسند والمحدث والحافظ:

كثيرًا ما يوجد في الكتب تلقيب من يعاني الآثار بأحدها، فيظن من لا وقوف له على مصطلح القوم ترادفها وجواز التلقيب بها مطلقًا، وليس كذلك.

بيانه أن المسند: "بكسر النون" هو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد روايته، وأما المحدث فهو أرفع منه بحيث عرف الأسانيد والعلل، وأسماء الرجال. وأكثر من حفظ المتون وسماع الكتب الستة والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية، وأما الحافظ فهو مرادف للمحدث عند السلف.

وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: "المحدث في عصرنا، من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع بين رواته، وأطلع على كثير من الرواة والروايا في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه حظه واشتهر فيه ضبطه فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه، وشيوخ طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله فهذا هو الحافظ، وأما ما يُحكى عن بعض المتقدمين من قولهم كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء فذلك بحسب أزمنهم! ".

وقال الإمام أبو شامة: "علوم الحديث الآن ثلاثة أشرفها: حفظ متونه ومعرفة غريبها وفقهها، والثاني حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها، والثالث جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه".

قال الحافظ ابن حجر: "من جمع هذه الثلاث كان فقيها محدثًا كاملًا ومن انفرد باثنين منها كان دونه" كذا في التدريب.

ص: 77

‌الباب الرابع: في معرفة أنواع الحديث وفيه مقاصد

1-

‌ بيان المجموع من أنواعه:

اعلم: "أن أئمة المصطلح، سردوا في مؤلفاتهم من أنواعه ما أمكن تقريبه، وجملة ما ذكره النووي، والسيوطي في التدريب خمسة وستون نوعًا وقال: "ليس ذلك بآخر الممكن في ذلك، فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى إذ لا تحصى أحوال رواه الحديث وصفاتهم ولا أحوال متون الحديث وصفاتها".

وقال الحازمي في كتاب العجالة: "علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تبلغ مائة؛ كل نزع منها علم مستقل.". ا. هـ.

ومع ذلك فأنواع الحديث لا تخرج عن ثلاثة: حسن صحيح، وحسن، وضعيف. لأنه إن اشتمل من أوصاف القبول على أعلاها فالصحيح أو على أدناها فالحسن أو لم يشتمل على شيء منها فالضعيف وسترى تفصيل ما ذكر مع مهمات أنواعه على نمط بديع.

ص: 79

2-

‌ بيان الصحيح:

قال أئمة الفن: "الصحيح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، وسلم عن شذوذ وعلة، ونعني بالمتصل ما لم يكن مقطوعًا بأي وجه كان فخرج المنقطع والمعضل والمرسل على رأي من لا يقبله وبالعدل من لم يكن مستور العدالة ولا مجروحًا فخرج ما نقله مجهول عينًا أو حالًا أو معروف بالضعيف وبالضابط من يكون حافظًا متيقظًا فخرج ما نقله مغفل كثير الخطأ. وبالشذوذ ما يرويه الثقة مخالفًا لرواية الناس. وبالعلة ما فيه أسباب خفية قادحة فخرج الشاذ والمعلل وسيأتي بيان هذه المخرجات كلها إن شاء الله تعالى.

ص: 79

‌بيان الصحيح لذاته والصحيح لغيره

3-

بيان الصحيح لذاته الصحيح لغيره:

اعلم: "أن ما عرفناه أولًا هو الصحيح لذاته لكونه اشتمل من صفات القبول على أعلاها؛ وأما الصحيح لغيره فهو ما صحح لأمر أجنبي عنه إذ لم يشتمل عن صفات القبول على أعلاها كالحسن: فإنه إذا روي من غير وجه. أرتقى بما عضده من درجة الحسن إلى منزلة الصحة وكذا ما أعتضد بتلقي العلماء له بالقبول فإنه يحكم له بالصحة وإن لم يكن له إسناد صحيح". وكذا ما وافق آية من كتاب تعالى أو بعض أصول الشريعة.

قال ابن الحصار: "قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبول والعمل".

ص: 80

4-

‌ تفاوت رتب الصحيح:

تتفاوت رتب الصحيح بسبب تفاوت الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي علية مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية، وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة، والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه فمن المرتبة العليا في ذلك ما أطلق علية بعض الأئمة أنه أصح الأسانيد كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وكمحمد بن سيرين عن عبيدة بن عمر، والسلماني عن علي وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود وكمالك عن نافع عن ابن عمر وهذا قول البخاري.

قال الإمام أبو منصور التميمى: "فعلى هذا أجل الأسانيد الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر للإجماع على أن أجل الرواة عن مالك الشافعي وعليه فأجلها رواية

الإمام أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك للاتفاق على أن أجل من أخذ عن الشافعي أهل الحديث الإمام أحمد وتسمى هذه الترجمة: "سلسلة الذهب". والمعتمد عدم إطلاق أصح الأسانيد لترجمة معينة منها نعم يستفاد من مجموعة ما أطلق الأئمة عليه ذلك أرجحيته على ما لم يطلقوه ويلتحق بهذا التفاضل ما اتفق الشيخان على تخريجه بالنسبة إلى ما انفرد به أحدهما، وما انفرد به البخاري بالنسبة إلى ما انفرد به مسلم لاتفاق العلماء بعدهما على تلقي كتابهما بالقبول كذا في شرح النخبة والتدريب1.

1 ص37 من التدريب.

ص: 80

5-

‌ أثبت البلاد في الحديث الصحيح في عهد السلف:

قال الإمام تقي الدين بن تيميه رحمه الله تعالى: "اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث ما رواه أهل المدينة ثم أهل البصرة ثم أهل الشام".

وقال الخطيب: "أصح طرق السنن، ما يرويه أهل الحرمين؛ مكة والمدينة، فإن التدليس عنهم قليل، والكذب ووضع الحديث عندهم عزيز. ولأهل اليمن روايات جيدة، وطرق صحيحة، إلا أنها قليلة، ومرجعها إلى أهل الحجاز أيضًا. ولأهل البصرة من السنن الثابتة بالأسانيد الواضحة، ما ليس لغيرهم من إكثارهم والكوفيون مثلهم في الكثرة غير أن رواياتهم كثيرة الدغل قليلة السلامة من العلل وحديث الشاميين أكثره مراسيل ومقاطيع وما اتصل منه مما أسنده الثقات فإنه صالح والغالب عليه ما يتعلق بالمواعظ".

وقال هشام بن عروة: "إذا حدثك العراقي بألف حديث فالق تسعمائة وتسعين وكن من الباقي في شك".

قال الحاكم: "أثبت أسانيد الشاميين الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة".

وقال الحافظ ابن حجر: "رجح بعض أئمتهم رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر". كذا في التدريب.

أقول: يتعرف حديث رواة هذه البلاد من مثل مسند أحمد فإنه يترجم فيه بمسند البصريين ومسند الشاميين وهكذا

ص: 81

6-

‌ أقسام الصحيح:

قال النووي رحمه الله تعالى: "الصحيح أقسام: أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم ثم ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه، ثم على شرط البخاري ثم على شرط مسلم، ثم ما صححه غيرهما من الأئمة فهذه سبعة أقسام".

قال العلامة قاسم قطلوبوغا في حواشيه على شرح النخبة لشيخه ابن حجر: "الذي يقتضيه النظر، أن ما كان على شرطهما، وليس له علة يقدم على ما أخرجه مسلم وحده لأن قوة الحديث إنما هي بالنظر إلى رجاله لا بالنظر إلى كونه في كتاب كذا". ا. هـ.

ص: 82

7-

‌ معنى قولهم أصح شيء في الباب كذا:

قال النووي رحمه الله تعالى: "لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث فإنهم يقولون: "هذا أصح ما جاء في الباب" وإن كان ضعيفًا ومرادهم أرجحة أو أقله ضعفًا"

ص: 82

8-

‌ أول من دون الصحيح:

قال النووي في التقريب1 "أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح البخاري".

واحترز: "بالمجرد" عن الموطأ للإمام مالك فإنه وإن كان أول مصنف في الصحيح، لكن لم يجرد فيه الصحيح، بل أدخل المرسل والمنقطع، والبلاغات وذلك حجة عنده. وأما البخاري فإنه وإن أدخل التعاليق ونحوها لكنه أوردها استئناسًا واستشهادًا فذكرها فيه لا يخرجه عن كونه جرح الصحيح كذا فرق ابن حجر وتعقبه السيوطي بأن ما في الموطأ من المراسيل مع كونها حجة عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ من المراسيل مع كونها حجة عنده بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة هي حجة عندنا لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد وما في مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد وقد صنف ابن عبد البر كتابًا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل". ا. هـ.

وعليه فأول من صنف في الصحيح الإمام رضي الله عنه.

1 ص24 من تدريب السيوطي شرح التقريب.

ص: 83

9-

‌ بيان أن الصحيح لم يستوعب في مصنف:

قال العلامة الأمير في شرح: "غرامي صحيح": "لم يستوعب الصحيح في مصنف أصلًا لقول البخاري: "أحفظ مائة ألف حديث من الصحيح ومائتي ألف من غيره" ولم يوجد في الصحيحين بل ولا في بقية الكتب الستة هذا القدر من الصحيح".

وقال النووي رحمه الله: "إن البخاري ومسلمًا رضي الله عنهما، لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعياه وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائلة لا أنه يحضر جميع مسائلة لكنهما إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة إسناده في الظاهر أصلًا في بابه ولم يخرجا له نظيرًا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالهما أنهما اطلعا فيه على علة إن كانا رأياه ويحتمل أنهما تركاه نسيانًا أو إيثارًا لترك الإطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده أو لغير ذلك والله أعلم.

وقال السخاوي في الفتح: "إن الشيخين لم يستوعبا كل الصحيح في كتابيهما،

ص: 83

بل لو قيل إنهما لم يستوعبا مشروطهما لكان موجهًا؛ وقد صرح كل منهما بعدم الاستيعاب، وحينئذ فإلزام الدارقطني لهما في جزء أفرده بالتصنيف بأحاديث من رجال الصحابة رويت عنهم من وجوه صحاح تركاها مع كونها على شرطهما".

وكذا قول ابن حبان: "ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما" ليس بلازم؛ ولذلك قال الحاكم: "ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما خرجه هذا" وذكر السلفي في معجم السفر: "أن بعضهم رأى في المنام أبا داود صاحب السنن في آخرين مجتمعين وأن أحدهم قال: "كل حديث لم يروه البخاري فأفلت عنه رأس دابتك".

ص: 84

10-

‌ بيان أن الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا اليسير:

قال النووي: "الصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة من الصحيح إلا اليسير أعني الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي، والنسائي، ولا يقال إن أحاديثها دون المقدار الذي عده البخاري المتقدم بكثير لأنا نقول: "أراد البخاري بلوغ الصحيح مائة ألف بالمكرر والموقوف وآثار الصحابة والتابعين وفتاويهم مما كان السلف يطلقون على كل منها اسم الحديث وهو متعين".

ص: 84

11-

‌ ذكر من صنف في أصح الأحاديث:

جمع الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي فيما عد من أصح الأسانيد كتابًا في الأحكام رتبه على أبواب الفقه سماه: "تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد" وهو كل كتاب لطيف جمعه من تراجم ستة عشر قيل فيها إنها أصح الأسانيد إما مطلقًا أو مقيدًا ومع ذلك فقد فاته جملة من الأحاديث كما قاله ابن حجر.

ص: 84

‌بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث المباركة

12-

بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث الصحيح المباركة:

الثمرة الأولى:

صحة الحديث توجب القطع به، كما اختاره ابن الصلاح في الصحيحين، وجزم بأنه هو القول الصحيح.

قال السخاوي في فتح المغيث: "وسبقه إلى القول بذلك في الخبر المتلقى بالقبول الجمهور من المحدثين والأصوليين، وعامة السلف، بل وكذا غير واحد في الصحيحين".

قال أبو أسحق الإسفراييني: "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها، ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها قال: "فمن خالف حكمه خبرًا منها وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول".

ونقل السيوطي في التدريب1، في آخر الكلام على الفائدة الرابعة من مسائل الصحيح عن الحافظ ابن نصر السجزي أنه قال:"أجمع الفقهاء، وغيرهم أن رجلًا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في البخاري صحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك فيه لم يحنث". ا. هـ.

ونقل بد أيضًا1 أن إمام الحرمين قال: "لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في الصحيحين مما حكما بصحته من قول النبي ألزمته الطلاق لإجماع المسلمين على صحته". ا. هـ.

واستثنى ابن الصلاح من المقطوع بصحته فيهما ما تكلم فيه من أحاديثهما، وقد أجاب عنها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح بتمامها قال النووي:"ما ضعف من أحاديثهما مبني على علل ليست بقادحة".

هذا وقيل إن صحة الحديث لا توجب القطع به في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان على الثقة، وعزاه النووي1 للأكثرين والمحققين، وأنهم قالوا:"إنه يفيد الظن ما لم يتواتر" قال في شرح مسلم: "لأن ذلك شأن الآحاد، ولا فرق في ذلك بين الشيخين

1 ص41.

ص: 85

وغيرهما، وتلقي الأمة بالقبول إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه، بخلاف غيرهما فلا يعمل به حتى ينظر فيه ويوجد فيه شروط الصحيح ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم".

وناقش البلقيني النووي فيما اعتمده، وذكر أن ما قاله ابن الصلاح محكي عن كثير من فضلاء المذاهب الأربعة وأنه مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة بل بالغ ابن طاهر المقدسي فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه.

وقال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة1: "الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم، خلافًا لمن أبى ذلك، قال: وهو أنواع، منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ التواتر فإنه احتف به قرائن منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر إلا أن هذا مختص بما لم ينقده أحد من الحفاظ وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته".

ثم قال: ومنها المشهور، إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ حيث لا يكون غريبًا كحديث يرويه أحمد مثلا، ويشاركه فيه غيره عن الشافعي ويشاركه فيه غيره عن مالك فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته".

قال: "وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم فيها إلا للعالم المتبحر في الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل، وكون غيره لا يحصل له العلم لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور". انتهى قال ابن كثير: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه". قال السيوطي: "قلت وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه". ا. هـ.

1 ص7 القاهرة، المطبعة الميمنية 1038هـ.

ص: 86

أقول:

تلخص في القول بأن صحة الحديث توجب القطع به ثلاثة مذاهب:

الأول: إيجابها ذلك مطلقًا ولو لم يخرجه الشيخان وهو ما قاله ابن طاهر المقدسي.

الثاني: إيجابها ذلك فيما روياه أو أحدهما وهو ما اعتمده ابن الصلاح وغيره.

الثالث: إيجابها ذلك في الصحيحين، وفي المشهور وفي المسلسل بالأئمة، وهو ما اعتمده ابن حجر كما بينا.

الثمرة الثانية:

قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "اتفق العلماء على وجوب العمل بكل ما صح ولو لم يخرجه الشيخان".

وقال الإمام شمس الدين بن القيم في: "إعلام الموقعين: "ترى كثيرًا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلدة وقد خالفه راويه يقول: "الحجة فيما روى لا في قوله" فإذا جاء قول الراوي موافقًا لقول من قلده، والحديث يخالفه قال: "لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا قد رأينا ذلك في الباب الواحد وهذا من أقبح التناقض.

"والذي ندين لله به، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر بنسخه أن القرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خلفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان لا راوية، ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره، وقت الفتيا أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا أو يكون في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله -ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه- لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك". ا. هـ.

ص: 87

وفي كتاب: "قاموس الشريعة" للسعدي: "إذا رفع الصحابي خبرًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإيجاب فعل وجب العمل به على من بلغه من المكلفين إلى أن يلقى خبرًا غيره ينسخ ذلك الخبر وحينئذ فعلى من عمل بالخبر الأول الرجوع إلى الثاني وترك العمل بالأول".

وفيه أيضًا: "كل مسألة لم يخل الصواب فيها من أحد القولين ففسد أحدهما لقيام الدليل على فساده صح أن الحق في الآخر قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 1.

وقال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين2: "كان الإمام أحمد إذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه، كائنًا من كان ولذا لم يلتفت إلى خلاف عمر رضي الله عنه في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس3 ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر4، ولا خلافة في استدامة المحرم الطيب الذي يطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك5 ولا خلافه في منع المنفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع

1 سورة يونس، آية:32.

2 ص32 ج1 القاهرة مطبعة النيل 1325.

3 تجد حديثها في الصحيحين والسنن، وخلاصته: أن زوجها قد طلقها ثلاثا ولم يجعل لها الرسول صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة؛ وقد أنكر عليها عمر وعائشة هذا الحديث وقال عمر: "لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت"؛ فقالت فاطمة: "بيني وبينكم كتاب الله" قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} .. حتى قال {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ راجع: نيل الأوطار، ج6، ص228.

4 يشير إلى ما أورده البخاري في صحيحه ومنه قول عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت "أي تمرغت في التراب" فصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يكفيك هكذا" فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسخ بهما وجه وكفيه". -أي الرسغين- وهذا مذهب أحمد فلا يجب عنده المسح إلى المرفقين، ولا الضربة الثانية إلى الكفين، راجع شرح القسطلاني للبخاري، ج1، ص72.

5 يشير إلى ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عائشة، قالت:"كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت". واستدل به على استحباب التطيب عنده إرادة الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام. راجعه فتح الباري، ج3، ص315-316.

ص: 88

لصحة أحاديث الفسخ1 وكذا لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي بن كعب رضي الله عنهم في ترك الغسل من الإكسال2، لصحة حديث عائشة3 أنها فعلته هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلا ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين لصحة حديث سبيعة الأسلمية4؛ ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما5؛ ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه6 ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك7 وهذا كثير جدًّا ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملًا، ولا رأيًا ولا قياسًا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد نص الشافعي في رسالته الجديدة على أن:"ما لا يعلم فيه الخلاف لا يقال له إجماع" ولفظه: "ما لا يعلم فيه الخلاف فليس إجماعًا" ثم قال ابن القيم: "ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث أجل من أن يقدم عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم المخالف ولو ساغ لتعطلت

1 أحاديث الفسخ من الحج إلى العمرة في البخاري وغيره؛ وفيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعل الحج عمرة لمن لم يسق الهدي معه، وراجع فتح الباري، ج3، ص334-344.

2 أكسل الرجل: إذا جامع ثم أدركه فتور، فلم ينزل؟ راجع النهاية لابن الأثيرج 4، ص21.

3 أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل. وعائشة رضي الله عنها جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل".

4 وضعت سبيعة بعد وفاة زوجها بليال. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فستأذنته أن تنكح، فأذن لها. فنكحت والحديث مروي بطرق، وتجده في الصحيحين وغيرهما. راجع فتح الباري ج9، ص414.

5 الحديث المشار إليه، وهو حديث أسامة بن زيد الذي أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". وقد رواه أصحاب السنن أيضًا.

6 الحديث المشار إليه هو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح؛ مثلًا بمثل يدا بيد فمن ازداد واستزاد فقد أربى. والآخذ والمعطي فيه سواء" رواه أحمد والبخاري، وفي الصحيحين والسنن أحاديث أخرى بمعناه.

7 نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن لحموم الحمر. أخرجه البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما أيضًا بمعناه.

ص: 89

النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة، أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده". ا. هـ.

وقال العارف الشعراني قدس الله سره في الميزان1: "فإن قلت: "فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها" فالجواب:"ينبغي لك أن تعمل بها فإن إمامك لو ظفر بها، وصحت عنده لربما كان أمرك بها فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشربعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه ومن قال: "لا أعمل بالحديث إلا إن أخذ به إمامي" فاته خير كثير كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذًا لوصية الأئمة فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا، وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بها وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه وقد بلغنا من طرق صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل بقول للإمام أحمد بن حنبل: "إذا صح عندكم حديث فأعلموا به لنأخذ به، ونترك كل قول قلناه قبل ذلك أو قاله غيرنا فإنكم أحفظ للحديث ونحن أعلم به".

وقال الشعراني2 قدس سره أيضًا في الرد على من يزعم أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه يقدم القياس على الحديث ما نصه: "ويحتمل أن الذي أضاف إلى الإمام أبي حنيفة، أنه يقدم القياس على النص ظفر بذلك في كلام مقلديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس، ويتركون الحديث الذي صح بعد موت الإمام فالإمام معذور وأتباعه غير معذورين، وقولهم: "إن إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث" لا ينهض حجة لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصح عنده وقد تقدم قول الأئمة كلهم: "إذا صح الحديث فهو مذهبنا" وليس لأحد معه قياس ولا حجة إلا طاعة الله وطاعة رسوله بالتسليم له". ا. هـ.

1 الميزان ص20.

2 ص71.

ص: 90

وقال العمدة الشهير السيد محمد عابدين الدمشقي في شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي: "إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى، من شدة احتياطه وورعه وعلمه بأن الاختلاف من آثار الرحمة قال لأصحابه إن توجه لكم دليل فقولوا به".

وقال بعد أسطر: "فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة؛ ونقله أيضًا الإمام الشعراني عن الأئمة الأربعة؛ ونقل فيها عن البحر قال إنهم نقلوا عن أصحابنا أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا حتى نقل في السراجية أن هذا سبب مخالفة عصام للإمام، وكان يفتي بخلاف قوله كثيرًا لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به.

وفيها أيضًا عن العلامة قاسم أنه قال في رسالته المسماة رفع الاشتباه عن مسألة المياه: "لما منع علماؤنا رضي الله تعالى عنهم من كان له أهلية النظر من محض تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف، قال حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال ليس لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قلنا تتبعت مآخذهم وحصلت منها بحمد الله تعالى على الكثير ولم أقنع بتقليد ما في صحف كثير من المصنفين

إلخ".

وقال في رسالة أخرى: "وإني ولله الحمد لأقول كما قال الطحاوي لابن حربويه لا يقلد إلا عصبي أو غبي". ا. هـ.

الثمرة الثالثة:

في "حصول المأمول من علم الأصول" ما نصه1: "اعلم أنه لا يضر الخبر الصحيح عمل أكثر الأمة بخلافه؛ لأن قول الأكثر ليس بحجة؛ وكذا عمل أهل المدينة بخلافه، خلافًا لمالك وأتباعه؛ لأنهم بعض الأمة ولجواز أنهم لم يبلغهم الخبر. ولا يضره عمل

1 صديق حسن خان: ص59 القسطنطينية، مطبعة الجوائب 1296هـ.

ص: 91

الراوي له بخلافه خلافًا لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر، ولم نتعبد بما فهمه الراوي، ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصالح للاستدال بها، ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافًا للحنفية، وأبي عبد الله البصري لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك، ولا يضره كونه في الحدود، والكفارات خلافًا للكرخي من الخنفية، ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية، ولا يضره أيضًا كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافًا للحنفية فقالوا إذا ورد بالزيادة كان نسخًا لا يقبل، والحق القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد فكانت مقبولة، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة وهكذا إذا ورد الخبر مخصصًا للعام من كتاب أو سنة فإنه مقبول ويبنى العام على الخاص خلافًا لبعض الخنفية، وهكذا إذا ورد مقيدًا لمطلق الكتاب أو السنة المتواترة، ولا يضره أيضًا كون راوية انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلًا فقد يحفظ الفرد ما لا تحفظه الجماعة، وبه قال الجمهور وهذا في صورة عدم المنافاة وإلا فروية الجماعة أرجح ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه لأنه زيادة على ما ردوه وتصحيح لما أعلوه، ولا يضره أيضًا كونه خارجًا مخرج ضرب الأمثال".

الثمرة الرابعة:

قال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي في كتاب الروح: "ينبغي أن يُفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يُحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر عن مراده وما قصده من الهدي والبيان. وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله بل سوء الفهم عن الله رسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع ولا سيما إن أضيف إليه

ص: 92

سوء القصد فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع فيا محنة الدين، وأهله والله المستعان وهل أوقع القدر به والمرجئة، والخوارج والمعتزلة والجهمية والروافض، وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام والذي فهمه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ومن تبعهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فمهجور لا يلتفت إليه ولا يرفع هؤلاء به رأسًا ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإنا لو ذكرناها لزادت على عشرات ألوف حتى إنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مراده كما ينبغي في موضع واحد وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس، وعرضه على ما جاء به الرسول وأما من عكس الأمر فعرض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على ما اعتقده وانتحله، وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئًا فدعه وما اختاره لنفسه ووله ما تولى وأحمد الذي عافاك مما ابتلاه به". ا. هـ.

وقال الإمام علم الدين الشيخ صالح الفلاني المالكي الأثري في كتابه: "إيقاظ الهمم"1: "ترى بعض الناس إذا وجد حديثًا يوافق مذهبة فرح به وانقاد له وسلم وإن وجد حديثًا صحيحًا سالمًا من النسخ، والمعارض مؤيدًا لمذهب غير إمامه فتح له باب الاحتمالات البعيدة، وضرب عنه الصفح والعارض، ويلتمس لمذهب إمامه أوجها من الترجيح مع مخالفته للصحابة، والتابعين والنص الصريح وإن شرح كتابا من كتب الحديث حرف كل حديث خالف رأيه الحديث، وإن عجز من ذلك كله ادعى النسخ بلا دليل أو الخصوصية أو عدم العمل به أو غير ذلك مما يحضر ذهنه العليل وإن عجز عن ذلك كله ادعى أن إمامه اطلع على كل مروي أو جله فما ترك هذا الحديث الشريف إلا وقد اطلع على طعن فيه برأيه المنيف فيتخذ علماء مذهبه أربابا ويفتح لمناقبهم، وكراماتهم أبوابًا ويعتقد أن كل من خالف ذلك لم يوافق صوابًا، وإن نصحه أحد من علماء السنة اتخذه عدوا ولو كانوا قبل ذلك أحبابًا وإن وجد كتابا من كتب مذهب

1 ص109 أمر تسر "الهند" مطبعة رياض الهند 1298هـ.

ص: 93

إمامه المشهورة قد تضمن نصحه وذم الرأي والتقليد، وحرض على اتباع الأحاديث المشهورة، نبذه وراء ظهره وأعرض عن نهيه وأمره واعتقده حجرًا محجورًا". ا. هـ.

أقول إن الشيخ الفلاني هو من كبار من أخذ عنه مسند الشام الشيخ عبد الرحمن الكزبري ومن طريقه ارتفع علو إسناده في البخاري هو ومن شاركه في الأخذ عنه رحمه الله تعالى.

الثمرة الخامسة:

لزوم قبول الصحيح وإن لم يعمل به أحد -قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالته الشهيرة: "ليس لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا لاستدلال ولا يقول بما استحسن فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق".

وقال أيضًا: "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الإبهام بخمس عشرة، فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال1: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صاروا إليه قال ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم -والله أعلم- حتى ثبت لهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث دلالتان إحداهما قبول الخبر، والأخرى أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من أحد من الأئمة يمثل الخبر الذي قبلوا، ودلالة على أنه لو مضى أيضًا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلالة على أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده".

قال الشافعي: "ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا من المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك كل عمل خلفه ولو بلغ عمر هذا صار إليه إن شاء الله

1 أخرجه مالك والنسائي من حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بلفظ: "وفي كل أصبع من أصابع اليد أو الرجل عشرة من الإبل".

ص: 94

كما صار إلى ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه بأن ليس لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقال علم الدين الفلاني المتقدم ذكره في كتابه: "إيقاظ الهمم": "قال شيخ مشايخنا محمد حياة السندي، قال ابن الشحنة في: "نهاية النهاية": "وإن كان -أي ترك الإمام الحديث- لضعفه في طريقة فينظر إن كان له طريق غير الطريق الذي ضعفه به فينبغي أن تعتبر فإن صح عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلدة عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح أنه قال:"إذا صح الحديث فهو مذهبي" كذا قال بعض من صنف في هذا المقصود".

وقال في البحر: وإن لم يستفت ولكن بلغه الخبر وهو قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام1: "أفطر الحاجم والمحجوم" وقوله2: "الغيبة تفطر الصائم" ولم يعرف النسخ ولا تأويله فلا كفارة عليه عندهما لأن ظاهر الحديث واجب العمل خلافًا لأبي يوسف لأنه قال: "ليس للعامي العمل بالحديث لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ".

ونقل ابن العز في حاشية الهداية ذلك أيضًا عن أبي يوسف وعلل بأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث؛ قال: "في تعليله نظر فإن المسألة إذا كانت مسألة النزاع بين العلماء، وقد بلغ العامي الحديث الذي احتج به أحد الفريقين كيف يقال في هذا إنه غير معذور فإن قيل: "هو منسوخ" فقد تقدم أن المنسوخ ما يعارضه، ومن سمع الحديث فعمل به، وهو منسوخ فهو معذور إلى أن

1 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وآخرون، من حديث شداد وثوبان مرفوعا. وقال أحمد والبخاري: إنه عن ثوبان أصح، ورواه الترمذي عن رافع بن خديج، ورواه غيرهم عن آخرين. وهذا الحديث معارض بما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم. والأول متواتر وهو صحيح كما جاء في الجامع الصغير وغيره. والجامع بينهما أن يأمنا على نفسهما الأفطار.

2 رواه الأزدي في الضعفاء والديلمي في مسند الفردوس عن أنس.

ص: 95

يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح: لا تعمل به حتى تعرضه على رأي فلان، أو فلان وإنما يقال له: انظر هل هو منسوخ أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخة كما في هذه المسألة فالعامل به في غاية العذر فإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أولى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث، إلى أن قال: "فإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي كيف لا يسوغ الأخذ بالحديث فلو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان، لكان قولهم شرطًا في العمل بها وهذا من أبطل الباطل ولذا أقام الله الحجة برسوله صلى الله عليه وسلم دون آحاد الأمة؛ ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطأه من صوابه، ويجوز عليه التناقض، والاختلاف ويقول القول ويرجع عنه ويحكي عنه عدة أقوال وهذا كله فيمن له نوع أهلية وأما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتب له من كلامه أو كلام شيخه وإن علا، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولي بالجواز، وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث فكما إذا لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرف معناها فكذلك الحديث. انتهى بحروفه.

الثمرة السادسة:

قال علم الدين الفلاني في: "إيقاظ الهمم"2 نقلًا عن الإمام السندي الحنفي قدس سره ما نصه: "تقرر أن الصحابة ما كانوا كلهم مجتهدين على اصطلاح العلماء، فإن فيهم القروي والبدوي ومن سمع منه حديثًا واحدًا أو صحبه مرة، ولا شك أن من سمع حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم كان يعمل به حسب فهمه مجتهدًا كان أو لا، ولم يعرف أن غير المجتهد منهم كلف بالرجوع إلى المجتهد

1 سورة النحل آية 43، الأنبياء آية 7.

2 ص90.

ص: 96

فيما سمعه من الحديث لا في زمانه صلى الله عليه وسلم ولا بعده في زمان الصحابة رضي الله عنهم وهذا تقرير منه صلى الله عليه وسلم بجواز العمل بالحديث لغير المجتهد، وإجماع من الصحابة عليه، ولولا ذلك لأمر الخلفاء غير المجتهد منهم سيما أهل البوادي أن لا يعملوا بما بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة أو بواسطة حتى يعرضوا على المجتهدين منهم، ولم يرد من هذا عين ولا أثر؛ وهذا هو ظاهر قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 ونحوه من الآيات حيث لم يقيَّد بأن ذلك على فهم الفقهاء، ومن هنا عرفت أنه لا يتوقف العمل بعد وصول الحديث الصحيح على معرفة عدم الناسخ، أو عدم الإجماع على خلافه، أو عدم المعارض، بل ينبغي العمل به إلى أن يظهر شيء من الموانع، فينظر ذلك، ويكفي في العمل كون الأصل عدم هذه العوارض المانعة عن العمل، وقد بنى الفقهاء على اعتبار الأصل في شيء أحكامًا كثيرة في الماء، ونحوه لا تحصى على المتتبع لكتبهم، ومعلوم أن من أهل البوادي والقرى البعيدة من كان يجيء إليه صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ويسمع شيئًا ثم يرجع إلى بلاده ويعمل به والوقت كان وقت نسخ، وتبديل ولم يعرف أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا من هؤلاء بالمراجعة ليعرف الناسخ من المنسوخ بل إنه قرر من قال2:"لا أزيد على هذا ولا أنقص" -على ما قال- ولم ينكر عليه بأنه يحتمل النسخ بل دخل الجنة إن صدق؛ وكذلك ما أمر الصحابة أهل البوادي وغيرهم بالعرض على مجتهد ليميز له الناسخ من المنسوخ؛ فظهر أن المعتبر في النسخ ونحوه بلوغ الناسخ لا وجوده، ويدل على أن المعتبر البلوغ لا الوجود أن المكلف مأمور بالعمل على وفق المنسوخ ما لم يظهر عنده الناسخ فإذا ظهر لا يعيد ما عمل على وفق المنسوخ بل صحح ذلك حديث نسخ القبلة

1 سورة الحشر، آية:7.

2 هذا حديث الأعراب الذي سأل عن الإسلام من صلاة وصيام وغيرهما من الفرائض، ثم أدبر وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق"، أو "دخل الجنة إن صدق". أخرجه الشيخان وأصحاب السنن، إلا الترمذي.

ص: 97

إلى الكعبة المشرفة، فإن خبره وصل إلى أطراف المدينة المنورة كأهل قباء، وغيرهم بعدما صلوا على وفق القبلة المنسوخة فمنهم من وصله الخبر في أثناء الصلاة ومنهم من وصله بعد أن صلى الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم قررهم على ذلك ولم يأمر أحدًا منهم بالإعادة فلا عبرة لما قيل:"لا يجوز العمل قبل البحث عن المعارض والمخصص وإن ادُّعي عليه الإجماع" فإنه لو سلم فإجماع الصحابة وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على إجماع من بعدهم على أن ما ادُّعي من الإجماع قد علم خلافه كما ذكر في بحر الزركشي في الأصول" انتهى ملخصًا.

الثمرة السابعة:

قال ابن السمعاني: "متى ثبت الخبر، صار أصلا من الأصول، ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه لم يجز رد أحدهما لأنه رد للخبر بالقياس وهو مردود بالاتفاق فإن السنة مقدمة على القياس". ا. هـ.

ومنه يعلم أن من رد حديث أبي هريرة في المصراة1، المتفق عليه؛ لأنه لم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يؤخذ بما رواه مخالفًا للقياس فقد آذى قائله به نفسه وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، ولا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا من كان، وأيا كان وممن كان و"إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"2، وأين القياس وإن كان جليًّا من السنة المطهرة إنما يصار إليه عند فقد الأصل من الكتاب والخبر لا مع وجود واحد منهما.

وقال ابن السمعاني في الاصطلاح: "التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له

1 التصرية: حبس اللبن في الضروع؛ والمصراة: الشاة أو الناقة تترك عن الحلب أياما حتى يعظم ضرعها، ويخيل للمشتري غزارة لبنها فيغتر. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وأن سخطها ردها وصاعا من تمر" وأخرجه البخاري عن ابن مسعود أيضًا.

2 هو من أمثال المولدين، ذكره الميداني في مجمع الأمثال ص58.

ص: 98

يعني قوله: "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا

" الحديث، وهو في كتاب العلم وأول البيوع أيضًا عند البخاري.

الثمرة الثامنة:

لا يضر صحة الحديث تفرد صحابي به -قال الإمام ابن القيم في: "إغاثة اللهفان"1 في مناقشة من طعن في حديث ابن عباس في المطلقة ثلاثًا بأنها كانت واحدة2 على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ِ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ما نصه: وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ابن عباس وحده، ولا عن ابن عباس إلا طاوس وحده قالوا فأين أكابر الصحابة، وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم الذي الحاجة إليه شديدة جدًّا فكيف خفي هذا على جميع الصحابة وعرفه ابن عباس وحده وخفي على أصحاب ابن عباس كلهم، وعلمه طاوس وحده؟ وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبله الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير، ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا قال:"إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل" وإنما يُحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء، وقد تفرد الزهري بنحو ستين سنة لن يروها غيره وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنه حديث ركانه، وهو موافق لحديث طاوس عنه فإن قدح في عكرمة أبطل، وتناقض فإن الناس احتجوا بعكرمة وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.

1 ص160 القاهرة، المطبعة الميمنية.

2 يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم".

ص: 99

فإن قيل: "فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه، ولا يجزم بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه السلام" قيل: "ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ أن يخالف1 الثقات فيما رووه، فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثًا منفردًا به لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذًّا. وإن اصطلح على تسميته شاذًّا بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجبًا لرده ولا مسوغًا له قال الشافعي رحمه الله: "وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات" قاله في مناظرته بعض من رد الحديث بتفرد الراوي فيه ثم إن هذا القول لا يمكن أحدًا من أهل العلم، ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم، وفتاويهم والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرًا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد".

الثمرة التاسعة:

ما كل حديث صحيح تُحَدَّث به العامة -والدليل على ذلك ما رواه الشيخان عن معاذ رضي الله عنه قال كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: "يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله"؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا أبشر به الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا! " وفي رواية لهما عن أنس أن النبي -صلى الله علينه وسلم- قال لمعاذ وهو ردفه: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا أخبر به الناس فيستبشروا. قال: "إذًا يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا وروى البخاري تعليقًا عن علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ " ومثله

1 في الأصل: الشذوذت تخالف.

ص: 100

قول ابن مسعود: "ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" رواه مسلم.

قال الحافظ ابن حجر: "وممن كره التحديث ببغض دون بعض، أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على الأمير؛ مالك في أحاديث الصفات؛ وأبو يوسف في الغرائب؛ ومن قبلهم أبو هريرة كما روي عنه في الجرابين1وأن المراد ما يقع من الفتن؛ ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين2، أنه أتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي؛ وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب". ا. هـ.

ولما كان النهى للمصلحة لا للتحريم أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ.

قال بعضهم: "النهى في قوله: صلى الله عليه وسلم "لا تبشرهم" مخصوص ببعض الناس وبه احتج البخاري على أن للعالم أن يخص بالعلم قومًا دون قوم، كراهة أن لا يفهموا وقد يتخذ أمثال هذه الأحاديث البطلة3 والمباحية4 ذريعة إلى ترك التكاليف ورفع الأحكام وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد خراب العقبى. وأين هؤلاء ممن إذا بشروا زادوا جدًّا في العبادة وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أتقوم الليل وقد غفر الله لك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم5: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

1 في مسند أحمد أن أبا هريرة قال: "حفظت ثلاثة أجربة، بثتت منها جرابين". وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم".

2 العرنيون نفر قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، فارتدوا وقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل، فبعث في آثارهم فأُتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينمهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. والحديث في الصحيحين وغيرهما. "راجع فتح الباري: ج12، ص98".

3 يقال أبطل: إذا جاء بالباطل: والبطلة: السحرة والشياطين، وفي مسند أحمد من حديث أبي أمامة:"اقرءوا البقرة، فإن أخذها بركة. وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة" وأخرجه مسلم في الصلاة.

4 كذا في الأصل ولعلها الإباحية.

5 أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث المغيرة بن شعبة.

ص: 101

13-

‌ بيان الحديث الحسن ذكر ماهيته:

قال العلامة الطيبي: "الحسن مسند من قرب من درجة الثقة، أو مرسل ثقة وروى كلاهما من غير وجه، وسلم من شذوذ وعلة" وهذا الحد أجمع الحدود التي نقلت في الحسن وأضبطها وإنما سمي حسنًا لحسن الظن براويه.

ص: 102

14-

‌ بيان الحسن لذاته ولغيره:

اعلم أن ما عرفناه أولًا هو الحسن لذاته قال ابن الصلاح: "الحسن لذاته أن تشتهر رواته بالصدق ولم يصلوا في الحفظ رتبة رجال الصحيح؛ والحسن لغيره أن يكون في الإسناد مستور لم تتحقق أهليته، غير مغفل، ولا كثير الخطأ في روايته، ولا متهم بتعمد الكذب فيهان ولا ينسب إلى مفسق آخر واعتضد بمتابع أو شاهد فأصله ضعيف وإنما طرأ عليه الحسن بالعاضد الذي عضده فاحتمل لوجود العاضد ولولاه لاستمرت صفة الضعف فيه ولاستمر على عدم الاحتجاج به" كذا في فتح المغيث1.

1 ص11 "على هامش ألفية العراقي" الهند، دلهى طبع حجر.

ص: 102

15-

‌ ترقي الحسن لذاته إلى الصحيح بتعدد طرقه:

اعلم أن الحسن إذا رُوي من وجه آخر ترقى من الحسن إلى الصحيح لقوته من الجهتين، فيعتضد أحدهما بالآخر؛ وذلك لأن الراوي في الحسن متأخر عن درجة الحافظ الضابط مع كونه مشهورًا بالصدق، والستر فإذا رُوي حديثه من غير، وجه ولو وجهًا واحدًا قوي بالمتابعة، وزال ما كان يخشى عليه من جهة سوء حفظ راويه فارتفع حديثه من درجة الحسن إلى الصحيح قال السيد الشريف:"ونعني بالترقي أنه ما حق في القوة بالصحيح لا أنه عينه"

ص: 103

16-

‌ بيان أول من شهر الحسن:

قال الإمام النووي في التقريب وشارحه السيوطي1: "كتاب الترمذي أصل في معرفة الحسن وهو الذي شهره وأكثر من ذكره وإن وجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله".

وقال الإمام تقي الدين بن تيمية قدس سره في بعض فتاويه: "أول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن، وضعيف أبو عيسى الترمذي ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله، وقد بين أبو عيسى مراده بذلك فذكر أن الحسن ما تعددت طرقة، ولم يكن فيهم متهم بالكذب، ولم يكن شاذا وهو دون الصحيح الذي عرف عدالة ناقليه، وضبطهم" وقال: "الضعيف الذي عرف أن ناقله متهم بالكذب رديء الحفظ فإنه إذا رواه المجهول خيف أن يكون كاذبًا أو سيئ الحفظ فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه، واتفاق الاثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعًا، وقد يكون بعيدًا ولما كان تجويز اتفاقهما في ذلك ممكنًا نزل من درجة الصحيح" ثم قال تقي الدين قدس سره: "وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح، وضعيف، والضعيف كان عندهم نوعان ضعيف ضعفًا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي وضعيف ضعفًا يوجب تركه وهو الواهي".

1 ص54.

ص: 103

17-

‌ معنى قول الترمذي: "حسن صحيح

":

للعلماء في ملحظ الترمذي بهذه العبارة وجوه نقلها السيوطى في التدريب1. قالوا: "العبارة المذكورة مما استشكل؛ لأن الحسن قاصر عن الصحيح فكيف يجتمع إثبات القصور ونفيه في حديث، واحد وأجاب ابن دقيق العيد بأن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا حيث انفرد الحسن أما إذا ارتفع إلى درجة الصحة فالحسن حاصل لا محالة تبعًا للصحة لأن وجود الدرجة العليا، وهي الحفظ والإتقان لا ينافي وجود الدنيا كالصدق فيصح أن يقال حسن باعتبار الصفة الدنيا صحيح باعتبار العليا، ويلزم على هذا أن كل صحيح حسن، وقد سبقه إلى نحو ذلك ابن المواق قال الحافظ ابن حجر: وشبه ذلك قولهم في الراوي صدوق فقط وصدوق ضابط فإن الأول قاصر عن درجة رجال الصحيح والثاني منهم فكما أن الجمع بينهما لا يضر ولا يشكل فكذلك الجمع بين الصحة والحسن". ا. هـ.

1 ص52، 53

ص: 104

18-

‌ الجواب عن جمع الترمذي بين الحسن والغرابة على اصطلاحه:

قد أنكر بعض الناس على الإمام الترمذي تحديده للحسن بما حد به من كونه يُروى من غيروجه لقوله في بعض الأحاديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والغريب الذي انفرد به الواحد، وأجاب الحافظ ابن حجر في شرح النخبة1: "بأن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقًا وإنما عرفه بنوع خاص منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى، وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث حسن، وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب، وفي بعضها حسن صحيح، وفي بعضها حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب، وفي بعضها حسن صحيح غريب، وتعريفه إنما وقع على الأول فقط وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه:

1 ص12.

ص: 104

"وما قلنا في كتابنا: حديث حسن، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا؛ إذ كل حديث يروى، لا يكون راويه متهما بكذب ويروى من غير وجه نحو ذلك ولا يكون شاذا فهو عندنا حديث حسن" فعرف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط أما ما يقول فيه حسن صحيح أو حسن غريب أو حسن صحيح غريب فلم يعرج على تعريف ما يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط، وكأنه ترك ذلك استغناء لشهرته عند أهل الفن واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه حسن فقط إما لغموضه، وإما لأنه اصطلاح جديد ولذلك قيده بقوله:"عندنا" ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي". ا. هـ.

وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في فتوى له: "الذين طعنوا على الترمذي لم يفهموا مراده في كثير مما قاله. فإن أهل الحديث قد يقولون: "هذا الحديث غريب" أي من هذا الوجه؛ وقد يصرحون بذلك فيقولون غريب من هذا الوجه فيكون الحديث عندهم صحيحًا معروفًا من طريق واحد. فإذا رُوي من طريق آخر، كان غريبًا من ذلك الوجه وإن كان المتن صحيحًا معروفا. فالترمذي إذا قال: حسن غريب قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن". ا. هـ.

ص: 105

19-

‌ مناقشة الترمذي في بعض ما يصححه أو يحسنه:

قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية: "بعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه، فقد يضعف حديثًا ويصححه البخاري، كحديث ابن مسعود لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ابغني أحجارًا أستنفض بهن"؛ قال: فأتيته بحجرين وروثة قال فأخذ الحجرين وترك الروثة وقال: "إنها رجس" 1.

فإن هذا اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه، وأما البخاري فصححه من طريق أخرى لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن سعيد بن المسيب، وتارة عن أبي سلمة وتارة يجمعها فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذان، وتارة عن هذا يظن بعض الناس أن ذلك غلط وكلاهما صحيح وهذا باب يطول وصفه".

1 في البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث، فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال:"هذا ركس". وأما رواية: "ابغني أحجارًا أستنقض بها" أو نحوه فهي في البخاري من حديث أبي هريرة وكلاهما في كتاب الوضوء.

ص: 105

20-

‌ بيان أن الحسن على مراتب:

نبه الأئمة على أن الحديث الحسن على مراتب كالصحيح. قال الحافظ الذهبي: "فأعلى مراتبه: بهز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ وابن إسحاق عن التيمي؛ وأمثال ذلك مما قيل فيه إنه صحيح، إنه أدنى مراتب الصحيح ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وضعفه كحديث الحرث بن عبد الله وعاصم بن ضمرة وحجاج بن أرطاة ونحوهم".

ص: 106

21-

‌ بيان كون الحسن حجة في الأحكام:

قال الأئمة: "الحسن كالصحيح في الاحتجاح به، وإن كان دونه في القوة ولهذا أدرجه طائفة من نوع الصحيح، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة مع قولهم بأنه دون الصحيح المبين أولًا".

وقال السخاوى في الفتح: "منهم من يدرج الحسن في الصحيح لاشتراكهما في الاحتجاج، بل نقل ابن تيمية إجماعهم إلا الترمذي خاصة عليه".

قال الخطابي: "على الحسن مدار أكثر الحديث لأن غالب الأحاديث لا تبلغ رتبة الصحيح وعمل به عامة الفقهاء، وقبله أكثر العلماء وشدد بعض أهل الحديث، فرد بكل علة قادحة كانت أم لا، كما رُوي عن ابن أبي حاتم أنه قال: سألت أبي عن حديث فقال: "إسناده حسن" فقلت: "يحتج به" فقال: "لا". ا. هـ.

والصواب مع الجمهور لما بينه الخطابي. هذا في الحسن لذاته وأما الحسن لغيره فيلحق بذلك في الاحتجاج لكن فيما تكثر طرقه عند قوم، كما سنبينه في بحث أنجبار الضعيف قريبًا.

ص: 106

22-

‌ قبول زيادة راوي الصحيح والحسن:

قال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها: "وزيادة راويهما -أي الصحيح والحسن- مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة؛ لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقًا لأنها في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره، وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الراوية الأخرى فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها فيقبل الراجح ويرد المرجوح، واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقًا من غير تفصيل ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح وكذا الحسن، والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها؛ ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة". ا. هـ.

ص: 107

‌بيان ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوى والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول

23-

بيان ألقاب للحديث نشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوي والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول:

"هذه الألفاظ مستعملة عند أهل الحديث في الخبر المقبول، والفرق بينها أن الجودة قد يعبر بها عن الصحة فيتساوى حينئذ الجيد والصحيح، إلا أن المحقق منهم، لا يعدل عن الصحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به حينئذ أنزل رتبة من الوصف بصحيح وكذا القوى، وأما الصالح فيشمل الصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج، ويستعمل أيضًا في ضعيف يصلح للاعتبار، وسيأتي إن شاء الله معنى الاعتبار في تنبيه على حدة قبل بحث الأنواع التي تختص بالضعيف، وأما المعروف فهو مقابل المنكر والمحفوظ مقابل الشاذ وسيأتي بيان ذلك والمجود الثابت يشملان الصحيح والحسن" كذا في التدريب1 وقد عرف الحافظ ابن حجر المقبول في شرح النخبة بالذي يجب العمل به عند الجمهور، والمراد بالذي لم يرجح صدق المخبر به.

1 ص58.

ص: 108

24-

‌ بيان الضعيف ماهية الضعيف وأقسامه:

قال النووي1: "الضعيف ما لم يوجد فيه شروط الصحة، ولا شروط الحسن، وأنواعه كثيرة: منها الموضوع والمقلوب، والشاذ والمنكر، والمعلل، والمضطرب، وغير ذلك" مما سيفصل بعونه تعالى.

1 شرح صحيح مسلم: ج1، ص19.

ص: 108

25-

‌ تفاوت الضعيف:

يتفاوت ضعفه بحسب شدة ضعف رواته وخفته، كصحة الصحيح؛ فمنه أوهى، كما أن من الصحيح أصح. قال السخاوي في الفتح:"واعلم أنهم كما تكلموا في أصح الأسانيد، مشوا في أوهى الأسانيد؛ وفائدته ترجيح بعض الأسانيد على بعض وتمييز ما يصلح للاعتبار مما لا يصلح". ا. هـ.

وللحاكم تفصيل لأوهى أسانيد الرجال والبلاد ساقه في التدريب؛ ولابن الجوزي كتاب في الأحاديث الواهية.

ص: 109

26-

‌ بحث الضعيف إذا تعددت طرقه:

"اعلم أن الضعيف لكذب راويه أو لفسقه لا ينجبر بتعدد طرقة المثاثلة له لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر. نعم! يرتقي بمجموعه عن كونه منكرًا، أو لا أصل له، وربما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجة المستور، والسيئ الحفظ بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن" نقله في التدريب1 عن الحافظ ابن حجر.

وقال السخاوي في فتح المغيث إن الحسن لغيره يلحق فيما يحتج به، لكن فيما تكثر طرقه؛ ولذلك قال النووي في بعض الأحاديث:"وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضه بعضًا ويصير الحديث حسنًا ويحتج به". وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة، وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه، فإنه قال: "هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرفه أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن واستحسنه شيخنا -يعني ابن حجر- وصرح في موضع آخر بأن

1 ص58.

ص: 109

الضعف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظه إذا كثرت طرقه ارتقى إلى مرتبة الحسن.

وفي عون الباري نقلًا عن النووي أنه قال: "الحديث الضعيف عند تعدد الطرق يرتقي عن الضعف إلى الحسن، ويصير مقبولًا معمولًا به".

قال الحافظ السخاوي: "ولا يقتضي ذلك الاحتجاج بالضعيف، فإن الاحتجاج إنما هو بالهيئة المجموعة، كالمرسل حيث اعتضد بمرسل آخر، ولو ضعيفًا كما قاله الشافعي والجمهور". ا. هـ.

وقد خالف في ذلك الظاهرية قال ابن حزم في الملل1 في بحث صفة وجوه النقل الستة عند المسلمين ما صورته: "الخامس شيء نقل كما ذكرنا إما بنقل أهل المشرق والمغرب أو كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في الطريق رجلًا مجروحًا بكذب أو غفلة أو مجهول الحال فهذا أيضًا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه وهو المتجه".

1 ص83، ج2 القاهرة، المطبعة الأدبية 1317هـ.

ص: 110

‌ذكر قول مسلم رحمه الله إن السراوى عن الضعفاء غاش آثم جاهل

27-

ذكر قول مسلم رحمه الله إن الراوي عن الضعفاء غاسن آثم جاهل:

قال الإمام النووي1: "اعلم أن جرح الرواة جائز بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه، لصيانة الشريعة المكرمة وليس هو من الغيبة المحرمة بل من النصيحة لله تعالى ورسوله والمسلمين ولم يزل فضلاء الأئمة وأخبارهم، وأهل الورع منهم يفعلون ذلك". ا. هـ.

وقد تكلم الإمام مسلم على جماعة منهم في مقدمة صحيحة ثم قال2: "وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب

1 صحيح مسلم، ص60.

2 المصدر نفسه، ص59.

ص: 110

بذكره على استقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا، وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهى أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق، والأمانة ثم أقدم على الراوية عند من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك غاشًّا لعوام المسلمين إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها مع أن الأخبار الصحاح من رواة الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة، ولا مقنع ولا أحسب كثيرًا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد، ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه، وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم" انتهى كلام الإمام مسلم رحمه الله تعالى ورضي عنه ولقد شفى وكفى.

ص: 111

مستنكر عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث، لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل؛ ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة، بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها، إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت" ثم قال:"اعلم -وفقك الله تعالى- أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1 الآية وقال عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} 2 وقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم} 3. فدل بما ذكرنا من هذا الآي، أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول وأن شهادة غير العدل مردوة والخبر إن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في معظم معانيها إذ خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جمعهم: ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار، كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق وهو الأثر المشهور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم4: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". ثم ساق مسلم رحمه الله ما ورد وعيد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم مما هو متواتر. ثم أسند عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال5: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم".

1 سورة الحجرات، الآية، 6.

2 سورة البقرة، آية:282.

3 سورة الطلاق، آية:2.

4 رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن سمرة.

5 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

ص: 112

28-

‌ تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه:

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في خطبة صحيحه1: "فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثًا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأخبار الصحيحة، مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة، بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرًا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس، هو

1 ص33.

ص: 28