الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
40-
ذكر المذهب الثالث في المرسل ممن اعتدل في شأنه وفصل فيه:
ذهب كثير من الأئمة إلى الاحتجاج بالمرسل بملاحظات دققوا فيها منهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. قال النووي في مقدمة شرح المهذب: "قال الشافعي رحمه الله: وأحتج بمرسل كبار التابعين، إذا أُسند من جهة أخرى، أو أرسله من أخذ عن غير رجال الأول، أو وافق قول الصحابي، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه". هذا نظر الشافعي في الرسالة وغيرها. وكذا نقل عنه الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين كالبيهقي والخطيب البغدادي وآخرين؛ لا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره. هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون. وقد قال الشافعي في مختصر المزني في آخر باب الربا: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس: أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجاء رجل بعناق1، فقال أعطوني بهذه العناق! فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا يصلح هذا. قال الشافعي رحمه الله: "وكان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، يحرمون بيع اللحم بالحيوان" قال الشافعي: "وبهذا نأخذ ولا نعلم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خالف أبا بكر الصديق رضي الله عنه" قال الشافعي: "وإرسال ابن المسيب عندنا حسن" هذا نص الشافعي في المختصر نقلته بحروفه لما يترتب عليه من الفوائد فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي: "إرسال ابن المسيب عندنا حسن" على وجهين حكاهما الشيخ أبو إسحاق في كتابه اللمع، وحكاهما أيضًا الخطيب البغدادي في كتابه:"كتاب الفقيه، والمتفقه الكفاية" وحكاهما جماعات آخرون:
أحدهما: معناه أنه حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل. قالوا لأنها فتشت فوجدت مسندة.
والوجه الثاني: أنها ليست بحجة عنده بل هي كغيرها على ما ذكرناه.
قالوا: وإنما رجح الشافعي رحمه الله بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز. قال الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه: "والصواب الوجه الثاني؛ وأما الأول فليس
1 العناق: الأنثى من ولد المعز قبل اسكمالها الحول "المصباح".
بشيء". وكذا قال في الكفاية: "الوجه الثاني هو الصحيح عندنا من الوجهين؛ لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندًا، بحال من وجه يصح". قال:"وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم كما استحسن مرسل سعيد" هذا كلام الخطيب.
وذكر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله نص الشافعي كما قدمته. قال: "قال الشافعي: نقبل مراسيل كبار التابعين، إذا انضم إليها ما يؤكدها؛ فإن لم ينضم لم نقبلها، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره". قال: "وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها". قال: "وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالها فيما زعم الحفاظ".
فهذا كلام البيهقي والخطيب، وهما إمامان حافظان فقيهان شافعيان، متضلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي، ومعاني كلامه؛ ومحلهما من التحقيق والإتقان، والنهاية في العرفان بالغاية القصوى، والدرجة العليا. وأما قول الإمام أبي بكر القفال المروزي رحمه الله في أول كتابه:"شرح التلخيص": "قال الشافعي في رهن الصغير: مرسل ابن المسيب عندنا حجة". فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والمحققين والله أعلم.
"قلت: ولا يصح تعلق من قال: إن مرسل سعيد حجة، بقوله: "إرساله حسن" لأن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده، بل اعتمده لما انضم إليه من قول أبي بكر الصديق ومن حضره وانتهى إليه قوله من الصحابة رضي الله عنهم، مع ما انضم إليه من قول أئمة التابعين الأربعة والذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة وهو مذهب مالك وغيره. فهذا عاضد ثان للمرسل فلا يلزم من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعضده فإن قيل ذكرتم أن المرسل إذا أسند من جهة أخرى احتج به. وهذا القول فيه تساهل لأنه إذا أسند عملنا بالمسند فلا فائدة حينئذ في المرسل، ولا عمل به والجواب أن بالمسند يتبين صحة المرسل وأنه مما يحتج به فيكون في المسألة حديثان
صحيحان، حتى لو عارضهما حديث صحيح من طريق واحد، وتعذر الجمع قدمناهما عليه، والله أعلم". انتهى كلام النووي.
تتمة: أورد العلامة القرافي رحمه الله تعالى في التنقيح1 سؤالًا فقال: "الإرسال هو إسقاط صحابي من السند والصحابة كلهم عدول، فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه؛ فكيف جرى الخلاف فيه؟ " وأجاب هو كما في نسخة من التنقيح: "بأنهم عدول إلا عند قيام المعارض وقد يكون المسكوت عنه منهم عرض في حقه ما يوجب القدح فيتوقف في قبول الحديث حتى تعلم سلامته عن القادح". ا. هـ.
وبهذا علل أيضًا من رد المرسل، كما في شرح جمع الجوامع للمحلي، واعترضه الشهاب2:"بأن هذا يخالف ما مر من أنهم عدول لا يبحث عن حالهم" وأجاب ابن قاسم: "بأن هذا التوجيه مفرع على القول بأنهم كغيرهم يبحث عن عدالتهم". ا. هـ.
والتحقيق: أن جريان الخلاف فيه وقوة ضعفه لما أسلفناه أولًا عن شرح النخبة فتأمله.
1 ص164.
2 حاشية البناني على شرح جمع الجوامع للمحلي، ص150، ج2، القاهرة، المطبعة الأميرية، 1297هـ.