الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقة، كما قال علقمة لمسروق: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟ وقول أبي حنيفة رضي الله عنه للأوزاعي: إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت إن علقمة أفقه من عبد الله بن عمر، وعبد الله هو عبد الله وأصل مذهبه فتاوي عبد الله بن مسعود، وقضايا علي رضي الله عنهما وفتاواه وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة فجمع من ذلك ما يسره الله ثم صنع في آثارهم كما صنع أهل المدينة في آثار أهل المدينة، وخرج كما خرجوا فلخص له مسائل الفقه في كل باب باب، وكان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة، وكان أحفظهم لقضايا عمر، ولحديث أبي هريرة وإبراهيم لسان فقهاء الكوفة فإذا تكلما بشيء، ولم ينسباه إلى أحد فإنه في الأكثر منسوب إلى أحد من السلف صريحًا وإيماء، ونحو ذلك فاجتمع عليهما فقهاء بلدهما، وأخذوا عنهما، وعقلوه وخرجوا عليه والله أعلم.
23-
بيان أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء:
قال الإمام ولي الله الدهلوي قدس سره في الحجة البالغة أيضًا تحت هذه الترجمة ما صورته1: "اعلم أن الله تعالى أنشأ بعد عصر التابعين نشئًا من حملة العلم، إنجازًا لما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" 2، فأخذوا عمن اجتمعوا معه صفة الوضوء والغسل والصلاة والحج والنكاح والبيوع وسائر ما يكثر وقوعه ورووا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا قضايا قضاة البلدان، وفتاوي مفتيها وسألوا عن المسائل، واجتهدوا في ذلك كله ثم صاروا كبراء قوم ووسدوا إليهم الأمر فنسجوا على منوال شيوخهم، ولم يألوا في تتبع الإيماءات والاقتصاءات فقضوا، وأفتوا ورووا وعلموا وكان صنيع العلماء في هذه الطبقة متشابهًا، وحاصل صنيعهم أن يتمسك بالمسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرسل جميعًا ويستدل بأقوال
1 ص115.
2 رواه الحاكم في المستدرك وابن عساكر.
الصحابة والتابعين، علمًا منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختصروها فجعلوها موقوفة كما قال إبراهيم، وقد روى حديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة1 فقيل له أما تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا غير هذا قال: بلي، ولكن أقول قال عبد الله قال علقمة أحب إلي، وكما قال الشعبي، وقد سئل عن حديث وقيل إنه يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عليَّ من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا فإن كان فيه زيادة ونقصان كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أو يكون استنباطًا منهم من المنصوص، أو اجتهادًا منهم بآرائهم وهم أحسن صنيعًا في كل ذلك ممن يجيء بعدهم، وأكثر إصابة وأقدم زمانًا وأوعى علمًا فتعين العمل بها إلا إذا اختلفوا وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قولهم مخالفة ظاهرة، وإنه إذا اختلفت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة رجعوا إلى أقوال الصحابة، فإن قالوا بنسخ بعضها أو بصرفه عن ظاهره أو لم يصرحوا بذلك ولكن اتفقوا على تركه، وعدم القول بموجبه فإنه كإبداء علة فيه، أو الحكم بنسخه أو تأويله اتبعوهم في كل ذلك، وهو قول مالك في حديث2:"إذا ولغ الكلب": "جاء هذا الحديث ولكن لا أدري ما حقيقته" يعني حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول لم أر الفقهاء يعلمون به، وإنه إذا اختلفت مذاهب الصحابة في مسألة فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه لأنه أعرف بصحيح أقاويلهم من السقيم وأوعى للأصول المناسبة لها، وقلبه أميل إلى فضلهم وتبحرهم فمذهب عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت وأصحابهم مثل سعيد بن المسيب فإنه كان أحفظهم لقضايا عمر وحديث أبي هريرة، ومثل عروة وسالم وعطاء بن يسار وقاسم وعبيد الله بن عبيد الله والزهري ويحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وربيعة، أحق بالأخذ من غيره عند أهل المدينة لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل المدينة ولأنها مأوى الفقهاء ومجمع العلماء في كل عصر، ولذلك ترى مالكًا يلازم محجتهم ومذهب عبد الله بن مسعود وأصحابه وقضايا علي وشريح والشعبي
1 أخرجه الشيخان وأحمد وأصحاب السن من حديث أنس وغيره.
2 "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا، إحداهن بالتراب"، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وفي بعض رواياته اختلاف.
وفتاوي إبراهيم أحق بالأخذ عند أهل الكوفة من غيره، وهو قول علقمة حين مال مسروق إلى قول زيد بن ثابت في التشريك، قال: هل أحد منكم أثبت من عبد الله؟ فقال: لا، ولكن رأيت زيد بن ثابت وأهل المدينة يشركون، فإن اتفق أهل البلد على شيء أخذوا بنواجذه وهو الذي يقول في مثله مالك: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا كذا وكذا، وإن اختلفوا أخذوا بأقواها وأرجحها، إما بكثرة القائلين به، أو لموافقته لقياس قوي أو تخريج من الكتاب والسنة، وهو الذي يقول في مثله مالك: هذا أحسن ما سمعت فإذا لم يجدوا فيما حفظوا منهم جواب المسألة خرجوا من كلامهم، وتتبعوا الإيماء والاقتضاء وألهموا في هذه الطبقة التدوين فدون مالك، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب بالمدينة وابن جريج وابن عيينة بمكة، والثوري بالكوفة وربيع بن الصبيح بالبصرة، وكلهم مشوا على هذا المنهج الذي ذكرته، ولما حد المنصور قال لمالك قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنفتها فتنسخ ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم بأن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره فقال يا أمير المؤمنين: لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وأتوا به، من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لنفسهم، ويحكي نسبة هذه القصة إلى هارون الرشيد، وأنه شاور مالكًا في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان وكل سنة مضت قال وفقك الله يا أبا عبد الله "حكاه السيوطي" وكان مالك من أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسنادًا وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، فلما وسد إليه الأمر حدث وأفتى وأجاد وعله انطبق قول النبي -صلى الله عليه وسلم1: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل، يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلم
1 أخرجه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
من علام المدينة" على ما قاله ابن عيينة، وعبد الرزاق وناهيك بهما، فجمع أصحابه، رواياته، ومختاراته، ولخصوها، وحرروها وشرحوها وخرجوا عليها، وتكلموا في أصولها ودلائها وتفرقوا إلى المغرب، ونواحي الأرض فنفع الله بهم كثيرًا من خلقه، وإن شئت أن تعرف حقيقة ما قلناه من أصل مذهبه فانظر في كتاب الموطأ، تجده كما ذكرنا، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ألزمها بمذهب إبراهيم، وأقرانه لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه دقيق النظر في وجوه التخريجات مقبلًا على الفروع أتم إقبال، وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا فلخص أقوال إبراهيم وأقرانه من كتاب الآثار لمحمد رحمه الله، وجامع عبد الرزاق ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك المحجة إلا في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرة أيضًا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة، وكان أشهر أصحابه ذكرًا أبو يوسف رحمه الله فولى قضاء القضاة أيام هارون الرشيد فكان سببًا لظهور مذهبه، والقضاء به في أقطار العراق وخراسان، وما وراء النهر. وكان أحسنهم تصنيفًا وألزمهم درسًا محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ الموطأ على مالك ثم رجع إلى نفسه فطبق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة مسألة فإن وافق فيها، وإلا فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفًا أو تحزيجًا لينًا يخالفه حديث صحيح فيما عمل به الفقهاء، أو يخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف ما يراه أرجح ما هناك، وهذان لا يزالان على محجة إبراهيم، وأقرانه ما أمكن لهما كما كان أبو حنيفة رضي الله عنه يفعل ذلك، وإنما كان اختلافهم في أحد شيئين إما أن يكون لشيخهما تخريج على مذهب إبراهيم يزاحمانه فيه، أو يكون هناك لإبراهيم ونظرائه أقوال مختلفة يخالفان شيخهما في ترجيح بعضها على بعض فصنف محمد رحمه الله، وجمع رأي هؤلاء الثلاثة، ونفع كثيرًا من الناس، فتوجه أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه إلى تلك التصانيف تلخيصًا وتقريبًا أو شرحًا أو تخريجًا، أو تأسيسًا أو استدلالًا ثم تفرقوا إلى خراسان، وما وراء النهر فيسمى ذلك مذهب أبي حنيفة
"ونشأ الشافعي في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما فنظر في صنيع الأوائل فوجد فيه أمورًا كبحث عنانه عن الجريان في طريقهم، وقد ذكرها في أوائل كتاب الأم. منها: أنه وجدهم يأخذون بالمرسل والمنقطع فيدخل فيهما الخلل فإنه إذا جمع طرق الحديث يظهر أنه كم من مرسل لا أصل له، وكم من مرسل يخالف مسندًا فقرر أن لا يأخذ بالمراسيل إلا عند وجود شروط وهي مذكورة في كتب الأصول، ومنها أنه لم تكن قواعد الجمع بين المختلفات مضبوطة عندهم فكان يتطرق بذلك خلل في مجتهداتهم فوضع لها أصولًا، ودونها في كتاب وهذا أول تدوين كان في أصول الفقه مثاله ما بلغنا أنه دخل على محمد بن الحسن، وهو يطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين، ويقول هذا زيادة على كتاب الله فقال الشافعي: أثبت عندك أنه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد قال: نعم قال: فلم قلت: إن الوصية للوارث لا تجوز لقوله: "ألا لا وصية لوارث" وقد قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت} 1 الآية، وأورد عليه أشياء من هذا القبيل، فانقطع كلام محمد بن الحسن. ومنها: أن بعض الأحاديث الصحيحة لم يبلغ علماء التابعين ممن وسد إليهم الفتوى فاجتهدوا بآرائهم، واتبعوا العمومات واقتدوا بمن مضى من الصحابة فأفتوا حسب ذلك ثم ظهرت بعد ذلك في الطبقة الثالثة، فلم يعملوا بها ظنًّا منهم أنها تخالف عمل أهل مدينتهم، وسنتهم التي لا اختلاف لهم فيها، وذلك قادح في الحديث، وعلة مسقطة له أو لم تظهر في الثالثة، وإنما ظهرت بعد ذلك عندما أمعن أهل الحديث في جمع طرق الحديث، ورحلوا إلى أقطار الأرض، وبحثوا عن حملة العلم فكثر من الأحاديث ما لا يرويه من الصحابة إلا رجل، أو رجلان ولا يرويه عنه أو عنهما إلا رجل أو رجلان، وهلم جرا فخفي على أهل الفقه وظهر في عصر الحفاظ الجامعين لطرق الحديث كثير من الأحاديث رواه أهل البصرة مثلًا، وسائر الأقطار في غفلة منهن فبين الشافعي أن العلماء من الصحابة والتابعين لم يزل شأنهم أنهم يطلبون الحديث في المسألة فإذا لم يجدوا تمسكوا بنوع آخر من الاستدلال،
1 سورة البقرة، الآية:180.
ثم إذا ظهر عليهم الحديث بعد رجعوا من احتهادهم إلى الحديث فإذا كان الأمر على ذلك، لا يكون عدم تمسكهم بالحديث قدحا فيه اللهم إلا إذا بينوا العلة القادحة مثاله حديث القلتين، فإنه حديث صحيح رُوي بطرق كثيرة معظمها يرجع إلى أبي الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله، أو محمد بن عباد بن جعفر عن عبيد الله بن عبد الله كلاهما عن ابن عمر ثم تشعبت الطرق بعد ذلك، وهذان وإن كانا من الثقات لكنهما ليسا ممن وسد إليهم الفتوى وعول الناس عليهم فلم يظهر الحديث في عصر سعيد بن المسيب، ولا في عصر الزهري ولم يمش عليه المالكية، ولا الحنيفة فلم يعملوا به وعمل به الشافعي، وكحديث:"خيار المجلس" فإنه حديث صحيح روى بطرق كثيرة، وعمل به ابن عمر وأبو هريرة من الصحابة، ولم يظهر على الفقهاء السبعة ومعاصريهم فلم يكونوا يقولون به، فرأى مالك وأبو حنيفة هذه علة قادحة في الحديث، وعمل به الشافعي.
ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعي فتكثرت واختلفت وتشعبت، ورأى كثيرًا منها يخالف الحديث الصحيح حيث لم يبلغهم، ورأى السلف لم يزالوا يرجعون في مثل ذلك إلى الحديث فترك التمسك بأقوالهم، ما لم يتفقوا وقال: هم رجال ونحن رجال!
ومنها أنه رأى قومًا من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته فلا يميزون واحدًا منها من الآخر، ويسمونه تارة بالاستحسان، وأعني بالرأي أن ينصب مظنة حرج أو مصلحة علة الحكم، وإنما القياس أن تخرج العلة من الحكم المنصوص، ويدار عليها الحكم فأبطل هذا النوع أتم إبطال، وقال: من استحسن فإنه أراد أن يكون شارعا -حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول- مثاله رشد اليتيم أمر خفي فأقاموا مظنة الرشد، وهو بلوغ خمس وعشرين سنة مقامه وقالوا: إذا بلغ اليتيم هذا العمر سلم إليه ماله قالوا: هذا استحسان، والقياس أن لا يسلم إليه، وبالجملة لما رأى في صنيع الأوائل مثل هذه الأمور أخذ الفقه من الرأس فأسس الأصول وفرع الفروع وصنف الكتب فأجاد وأفاد واجتمع عليه الفقهاء وتصرفوا اختصارًا وشرحا واستدلالا وتخريجا، ثم تفرقوا في البلدان، فكان هذا مذهبا للشافعى والله أعلم".