الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
26-
فتوى الإمام تقي الدين أبي العباس فيمن تفقه على مذهب:
ثم اشتغل بالحديث فرأى في مذهبه ما يخالفه الحديث كيف يعمل؟
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيميه عليه الرحمة، والرضوان عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب الأربعة، وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فوجد أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخًا ولا مخصصًا ولا معارضًا؛ وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب، أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟ فأجاب رحمه الله تعالى:"قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسوله صلى الله عليه وسلم حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ورضي عنه يقول: "أطيعوني ما اطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم". واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصومًا في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه. وذلك هو الواجب وقال أبو حنيفة:"هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه" ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضروات، ومسألة الأحباس، فأخبره مالك بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت لقولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
ومالك رحمه الله كان يقول: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة". أو كلام هذا معناه. والشافعي رحمه الله كان يقول: "إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط. وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي. وفي قال مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. والإمام أحمد رحمه الله كان يقول: "من ضيق علم الرجل أن يقلد دينه الرجال. قال: "لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لم يسلموا أن يغلطوا". وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال1: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين
…
" ولازم ذلك أن من لم يفقه في الدين لم يرد الله به خيرًا فيكون التفقه في الدين فرضًا. والتفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية
1 أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث معاوية وغيره.
فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهًا في الدين. لكن من الناس من قد يعجز عنها، فيلزمه ما يقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقًا وقيل يجوز مطلقًا، وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عند الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى، والاحتهاد ليس هو أمرًا لا يقبل التجزء والانقسام، بل يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة قد تنازع العلماء فيها فرأى مع أحد القولين نصوصًا لم يعلم لها معارضًا بعد نظر مثله فهو بين الأمرين إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة تعارضها عادة غيره واشتغاله بمذهب إمام آخر، وإما يتبع القول الذي ترجح بنظره بالنصوص الدالة عليه فحينئذ موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص النبوية سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح، وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تامًّا في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وإن لم يفعل كان متبعًا للظن، وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص ويقول:"أنا لا أعلمها" فهذا يقال له قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" 2 والذي تستطيعه من العلم، والفقه في هذه المسألة قد دل على أن حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إقراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول بمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم وإذا كان المقلد قد سمع الحديث وتركه لا سيما إذا كان قد رواه أيضًا عدل فمثل هذا وحده لا يكون عذرًا في ترك النص فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح،
1 سورة التغابن الآية: 16.
2 أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة.
أو راويه مجهول، ونحو ذلك ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه فقد زال عذر ذلك في حق هذا، ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس أو عمل لبعض الأمصار وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس، والعمل لم يكن عذر ذلك الرجل عذرًا في حقه فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان، وخفاءها عنها أمر لا يضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدًا أنه يترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية، وغيرها الذين يقال إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ، أو معارض براجح وقد بلغ من بعدهم أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل قد عمل به بعضهم أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص، وإذا قيل لهذا المستفتي المسترشد أنت أعلم أم الإمام الفلاني كانت هذه معارضه فاسدة لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظير من الأئمة، ولست من هذا ولا من هذا ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وغيره لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان لما كان من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هذه وهذه سواء" وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة فقال له قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر، وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوه بقول عمر فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم أرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم عمر؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته. وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 والله سبحانه أعلم". ا. هـ. كلام الإمام تقي الدين قدس سره.
1 سورة التوبة، الآية:32.