المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ بيان معرفة الحق بالدليل: - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث

[جمال الدين القاسمي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌خطبة الكتاب:

- ‌الباب الأول: في التنويه بشأن الحديث وفيه مطالب

- ‌ شرف علم الحديث:

- ‌ فضل راوي الحديث:

- ‌ الأمر النبوي برواية الحديث وإسماعه:

- ‌ حث السلف على الحديث:

- ‌ إجلال الحديث وتعظيمه والرهبة من الزيغ عنه:

- ‌ فضل المحامي عن الحديث والمحيي للسنة:

- ‌ أجر المتمسك بالسنة إذا اتبعت الأهواء وأوثرت الدنيا:

- ‌ بيان أن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع:

- ‌ ما روي أن الحديث من الوحي:

- ‌ أيادي المحدثين البيضاء على الأمة وشكر مساعيهم:

- ‌الباب الثاني: في معنى الحديث وفيه مباحث

- ‌ماهية الحديث والخبر والأثر

- ‌ بيان الحديث القدسي:

- ‌ ذكر أول من دون الحديث:

- ‌ بيان أكثر الصحابة حديثا وفتوى:

- ‌ ذكر صدور التابعين في الحديث وألفتيا:

- ‌الباب الثالث: في بيان علم الحديث؛ وفيه مسائل

- ‌ ماهية علم الحديث؛ رواية ودراية وموضوعه وغايته:

- ‌ المقصود من علم الحديث:

- ‌ حد المسند والمحدث والحافظ:

- ‌الباب الرابع: في معرفة أنواع الحديث وفيه مقاصد

- ‌ بيان المجموع من أنواعه:

- ‌ بيان الصحيح:

- ‌بيان الصحيح لذاته والصحيح لغيره

- ‌ تفاوت رتب الصحيح:

- ‌ أثبت البلاد في الحديث الصحيح في عهد السلف:

- ‌ أقسام الصحيح:

- ‌ معنى قولهم أصح شيء في الباب كذا:

- ‌ أول من دون الصحيح:

- ‌ بيان أن الصحيح لم يستوعب في مصنف:

- ‌ بيان أن الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا اليسير:

- ‌ ذكر من صنف في أصح الأحاديث:

- ‌بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث المباركة

- ‌ بيان الحديث الحسن ذكر ماهيته:

- ‌ بيان الحسن لذاته ولغيره:

- ‌ ترقي الحسن لذاته إلى الصحيح بتعدد طرقه:

- ‌ بيان أول من شهر الحسن:

- ‌ معنى قول الترمذي: "حسن صحيح

- ‌ الجواب عن جمع الترمذي بين الحسن والغرابة على اصطلاحه:

- ‌ مناقشة الترمذي في بعض ما يصححه أو يحسنه:

- ‌ بيان أن الحسن على مراتب:

- ‌ بيان كون الحسن حجة في الأحكام:

- ‌ قبول زيادة راوي الصحيح والحسن:

- ‌بيان ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوى والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول

- ‌ بيان الضعيف ماهية الضعيف وأقسامه:

- ‌ تفاوت الضعيف:

- ‌ بحث الضعيف إذا تعددت طرقه:

- ‌ذكر قول مسلم رحمه الله إن السراوى عن الضعفاء غاش آثم جاهل

- ‌ تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه:

- ‌ تحذير الإمام مسلم من روايات القصاص والصالحين:

- ‌ ذكر المذاهب في الأخذ بالضعيف واعتماد العمل به في الفضائل:

- ‌ الجواب عن رواية بعض كبار الأئمة عن الضعفاء:

- ‌ ما شرطه المحققون لقبول الضعيف:

- ‌تزييف درع الموسوسين في المتفق على ضعفه

- ‌ ترجيح الضعيف على رأي الرجال:

- ‌ بحث الدواني في الضعيف:

- ‌ مسائل تتعلق بالضعيف:

- ‌ ذكر أنواع تشترك في الصحيح والحسن والضعيف:

- ‌ ذكر أنواع تختص بالضعيف:

- ‌ ذكر مناقشة الفريق الأول لما ذكره أهل المذهب الثاني:

- ‌ ذكر المذهب الثالث في المرسل ممن اعتدل في شأنه وفصل فيه:

- ‌ بيان أكثر من تُروى عنهم المراسيل والموازنة بينهم:

- ‌ ذكر مرسل الصحابة:

- ‌ مراتب المرسل:

- ‌ بحث قول الصحابي من السنة كذا وقوله أمرنا بكذا ونهينا عن كذا:

- ‌ الكلام على الخبر المتواتر وخبر الآحاد:

- ‌ بيان أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل:

- ‌ الكلام على الحديث الموضوع وفيه مباحث:

- ‌الباب الخامس: في الجرح والتعديل وفيه مسائل

- ‌ بيان طبقات السلف في ذلك:

- ‌ بيان أن جرح الضعفاء من النصيحة:

- ‌ بحث تعارض الجرح والتعديل:

- ‌ بيان أن تجريح بعض رجال الصحيحين لا يعبأ به:

- ‌ الناقلون المبدعون:

- ‌ الناقلون المجهولون:

- ‌ قول الراوي حدثني الثقة أو من لا يتهم هل هو تعديل له

- ‌ما وقع في الصحيحين وغيرهما من نحو: اين فلان، أو ولد فلان

- ‌ قولهم: عن فلان أو فلان وهما عدلان

- ‌ من لم يذكر في الصحيحين أو أحدهما لا يلزم منه جرحه:

- ‌ اقتصار البخاري على رواية من روايات إشارة إلى نقد في غيرها:

- ‌ ترك رواية البخاري لحديث لا يوهنه:

- ‌ بيان أن من روى له حديث في الصحيح لا يلزم صحة جميع حديثه:

- ‌ما كان من روى المناكير ضعيف

- ‌ متى يترك حديث المتكلم فيه:

- ‌ جواز ذكر الراوي بلقبه الذي يكرهه للتعريف وأنه ليس بغيبة له:

- ‌ الاعتماد في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب المصنفة في ذلك:

- ‌ بيان عدالة الصحابة أجمعين:

- ‌بيان معنى الصحابي

- ‌ تفاضل الصحابة:

- ‌الباب السادس: في الإسناد؛ وفيه مباحث

- ‌ فضل الإسناد:

- ‌ معنى السند والإسناد والمسند والمتن:

- ‌ أقسام تحمل الحديث:

- ‌بحث وحيز في الإجازة، ومعنى قولهم: أجزت له كذا بشرطه

- ‌ أقدم إجازة عثرت عليها:

- ‌ هل قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا بمعنى واحد أم لا

- ‌ قول المحدث وبه قال حدثنا:

- ‌ الرمز بـ: "ثنا" و"نا" و"أنا" و"ح

- ‌ عادة المحدثين في قراءة الإسناد:

- ‌ الإتيان بصيغة الجزم في الحديث الصحيح والحسن دون الضعيف:

- ‌ متى يقول الراوي "أو كما قال

- ‌السر في تفرقة البخارى بين قوله: حديثا فلان، وقال لى فلان

- ‌ سر قولهم في خلال ذكر الرجال: يعني ابن فلان أو هو ابن فلان:

- ‌ قولهم: دخل حديث بعضهم في بعض:

- ‌ قولهم: "أصح شيء في الباب كذا

- ‌ قولهم: "وفي الباب عن فلان

- ‌ أكثر ما وجد من رواية التابعين بعضهم عن بعض:

- ‌ هل يشترط في رواية الأحاديث السند أم لا:

- ‌ فوائد الأسانيد المجموعة في الأثبات:

- ‌ ثمرة رواية الكتب بالأسانيد في الأعصار المتأخرة:

- ‌ بيان أن تحمل الأخبار على الكيفيات المعروفة من ملح العلم لا من صلبه وكذا استخراج الحديث من طرق كثيرة:

- ‌ توسع الحفاظ رحمهم الله تعالى في طبقات السماع:

- ‌ بيان الفرق بين المخرج "اسم فاعل" والمخرج "اسم مكان

- ‌ سر ذكر الصحابي في الأثر ومخرجه من المحدثين:

- ‌الباب السابع: في أحوال الرواية؛ وفيه مباحث:

- ‌ رواية الحديث بالمعنى:

- ‌ جواز رواية بعض الحديث بشروطه:

- ‌ سر تكرار الحديث في الجوامع والسنن والمسانيد:

- ‌5- ذكر الخلاف في الاستشهاد بالحديث على اللغة والنحو وكذلك بكلام الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم:

- ‌الباب الثامن: في‌‌ آداب المحدثوطالب الحديث وغير ذلك؛ وفيه مسائل

- ‌ آداب المحدث

- ‌ آداب طالب الحديث:

- ‌ ما يفتقر إليه المحدث:

- ‌ما يستحب للمحدث عند التحديث

- ‌ بيان طرق درس الحديث:

- ‌ أمثلة من لا تقبل روايته ومنهم من يحدث لا من أصل مصحح:

- ‌ الأدب عند ذكره تعالى وذكر رسوله والصحابة والتابعين:

- ‌ الاهتمام بتجويد الحديث:

- ‌الباب التاسع: في كتب الحديث؛ وفيه فوائد

- ‌ بيان طبقات كتب الحديث:

- ‌ بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة الحافظ ابن حجر في التدريب:

- ‌ بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة السيوطي في الجامع الكبير والجامع الصغير:

- ‌بيان ما اشتمل على الصحيح فقظ أو مع غيره من هذه الكتب المرموز بها

- ‌ الرجوع إلى الأصول الصحيحة

- ‌ إذا كان عند العالم الصحيحان:

- ‌ هل يجوز الاحتجاج في الأحكام بجميع ما في هذه الكتب من غير توقف أم لا? وهل تعذر التصحيح في الأزمان المتأخرة أم لا

- ‌ الاهتمام بمطالعة كتب الحديث:

- ‌ ذكر أرباب الهمة الجليلة في قراءتهم كتب الحديث في أيام قليلة:

- ‌ قراءة البخاري لنازلة الوباء:

- ‌الباب العاشر: في فقه الحديث

- ‌ بيان أقسام ما دون في علم الحديث:

- ‌ بيان كيفية تلقي الأمة الشرع من النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌ بيان أن السنة حجة على جميع الأمة وليس عمل أحد حجة عليها:

- ‌ العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم:

- ‌ لزوم الإفتاء بلفظ النص مهما أمكن:

- ‌ حرمة الإفتاء بضد لفظ النص:

- ‌ رد ما خالف النص أو الإجماع:

- ‌ تشنيع المتقدمين على من يقول العمل على الفقه لا على الحديث:

- ‌ رد الإمام السندي الحنفي رحمه الله على من يقول ليس لمثلنا أن يفهم الحديث:

- ‌ رد الإمام السندي رحمه الله أيضًا على من يقرأ كتب الحديث لا للعمل:

- ‌ التحذير من التعسف في رد الأحاديث إلى المذاهب:

- ‌الترهيب من عدم توقير الحديث وهجر من يعرض عنه والغضب لله في ذلك

- ‌ما ينفى من قول أحد عند قول النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ ما يقوله من بلغه حديث كان يعتقد خلافه:

- ‌ما روى عن السلف في الرجوع إلى حديث

- ‌ حق الأدب فيما لم تدرك حقيقة من الأخبار النبوية:

- ‌ بيان إمرار السلف الأحاديث على ظاهرها:

- ‌ قاعدة الإمام الشافعي رحمه الله في مختلف الحديث:

- ‌ فذلكة وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض:

- ‌ بحث الناسخ والمنسوخ:

- ‌بحث التحيل على إسقاط حكم أو قلبه

- ‌ بيان أسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع:

- ‌ بيان أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء:

- ‌ بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي:

- ‌ بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده:

- ‌ فتوى الإمام تقي الدين أبي العباس فيمن تفقه على مذهب:

- ‌ بيان معرفة الحق بالدليل:

- ‌ بيان أن معرفة الشيء ببرهانه طريقة القرآن الكريم:

- ‌ بيان أن من المصالح هذه المذاهب المدونة وفوائد مهمة من أصل التخريج على كلام الفقهاء وغير ذلك:

- ‌ بيان وجوب موالاة الأئمة المجتهدين وأنه إذا وجد لواحد منهم قول صح الحديث بخلافة فلا بد له من عذر في تركة وبيان العذر:

- ‌الخاتمة في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثري:

- ‌ سبيل الترقي في علوم الدين:

- ‌ قاعدة المحققين في مسائل الدين وعلماء الفرق:

- ‌ وصية الغزالي في معاملة المتعصب:

- ‌ بيان من يسلم من الأغلاط:

- ‌تتمة في مقصدين:

- ‌فهرس:

الفصل: ‌ بيان معرفة الحق بالدليل:

27-

‌ بيان معرفة الحق بالدليل:

قال الإمام الرباني أبو العباس أحمد الشهير بزروق المغربي قدس الله سره في كتابه: "قواعد التصوف":

"قاعدة: العلماء مصدقون فيما ينقلون؛ لأنه موكول لأمانتهم مبحوث معهم فيما يقولون لأنه نتيجة عقولهم، والعصمة غير ثابتة لهم فلزم التبصر طلبًا للحق والتحقيق لا اعتراضًا على القائل والناقل، ثم إن أتى المتأخر بما لم يسبق إليه فهو على رتبيه، ولا يلزمه القدح في المتقدم ولا إساءة الأدب معه لأن ما ثبت من عدالة المتقدم قاض برجوعه للحق عند بيانه لو سمعه". ا. هـ.

وقال الأصفهاني في: "أطباق الذهب" في المقالة الثالثة والثلاثين: "مثل المقلد بين يدي المحقق كالضرير عند البصير المحدق، ومثل الحكيم والحشوي كالميتة، والمشوي ما المقلد إلا جمل مخشوش له عمل مغشوش قصاراه لوح منقوش يقنع بظواهر الكلمات، ولا يعرف النور من الظلمات يركض خيول الخيال في ظلال الضلال شغله نقل النقل عن نخبة العقل، وأقنعه رواية الرواية عن در الدراية يروي في الدين عن شيخ هم كمن يقود الأعمى في ليل مدلهم ومن عرف الحق بالعنعت تورط في هوة العنت، والحق وراء السماع والعلم بمعزل عن الرقاع فما أسعد من هدى إلى العلم ونزل رباعه وأرى الحق حقًّا ورزق اتباعه".

ص: 355

وقال أيضًا في المقالة السابعة والثلاثين: "الحق يتضح بالأدلة، والشهور تشتهر بالأهلة، وشفاء الصدور يحصل بالبلة طالب الحق ضيف الله، والدليل القاطع سيف الله به يفك العلم وينشر، وبه يبقر الحق ويقشر ومثل العلوم والبرهان كمثل المصباح والأدهان الحجة للأحكام كالعماد للخيام إعصار الظن كدر كعصارة الدن، الزم اليقين تكن من المتقين فشواظ الوهم يشوي حمامة القلب شيا، {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 1. ا. هـ.

وفي كتاب قاموس الشريعة: "لا يصح لامرئ إلا موافقة الحق، ولا يلزم الناس طاعة أحد لأجل أنه عالم أو إمام مذهب، وإنما يلزم الناس قبول الحق ممن جاء به على الإطلاق، ونبذ الباطل ممن جاء به بالاتفاق".

وفيه أيضًا: "كل مسألة لم يخل الصواب فيها من أحد القولين، ففسد أحدهما لقيام الدليل على فساده صح أن الحق في الآخر قال الله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2.

وفيه أيضًا: "والذي يحرم على العالم تصنييع الاجتهاد والسكوت بعد التبصرة، والإفراد بعد القطع حديث عبادة بن الصامت3: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق ونعمل به، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائم في العسر، واليسر والمنشط والمكره". ا. هـ.

وقال الإمام مفتي مكة الشيخ محمد عبد العظيم بن ملا فروخ في رسالته: "القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد" في الفصل الأول: "اعلم أنه لم يكلف الله تعالى أحدًا من عبادة أن يكون حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا أو حنبليًّا، بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمد، والعمل بشريعته غير أن العمل بها متوقف على الوقوف عليها، والوقوف عليها له طرق فما كان منها مما يشترك فيه العامة، وأهل النظر، كالعلم بفريضة

1 سورة النجم، الآية:28.

2 سورة يونس، الآية:32.

3 أخرجه الشيخان وأحمد في مسنده.

ص: 356

الصلاة والزكاة والحج والصوم والوضوء إجمالًا، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس ونحو ذلك مما علم من الدين بالضرورة، فذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد ومذهب معين، بل كل مسلم عليه اعتقاد ذلك، يجب عليه فمن كان في العصر الأول فلا يخفى وضوح ذلك في حقه، ومن كان في الأعصار المتأخرة فلوصول ذلك إلى عمله ضرورة من الإجماع والتواتر والآيات والسنن المستفيضة المصرحة بذلك في حق من وصلت إليه، وأما ما لا يتوصل إليه إلا بضرب من النظر والاستدلال فمن كان قادرًا عليه بتوفر آلته وجب عليه فعله كالأئمة المجتهدين، ومن لم يكن له قدرة عليه، وجب عليه اتباع من أرشده إلى ما كلف به من هو من أهل النظر والاحتهاد والعدالة، وسقط عن العاجز تكليفه في البحث، والنظر لعجزه لقوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} 1 وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} 2 وهي الأصل في اعتماد التقليد كما أشار إليه المحقق الكمال بن الهمام في التحرير". ا. هـ.

وقال الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس: "اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها، ويمشي في الظلمة واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم التفحص عن أدلة إمامهم فيتبعون قوله وينبغي النظر إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن عبد الله الأعور بن الحوطي وقد قال له أتظن أن طلحة، والزبير كانا على الباطل فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله". ا. هـ.

وقال ابن القيم: "فإذا جاءت هذه - أي النفس المطمئنة - بتجريد المتابعة للرسول لجاءت تلك -أي الأمارة- بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم فأتت بالشبهة المضلة بما يمنع من كمال المتابعة، وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق والله يعلم أنها كاذبة، وما مرادها إلا التفلت من سجي المتابعة إلى قضاء إرادتها وحظوظها وتريه -أي وترى

1 سورة البقرة، الآية:286.

2 سورة النحل، الآية:43.

ص: 357

النفس الأمارة صاحبها- تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقديم قوله على الآراء في صورة تنقص العلماء وإساءة الأدب عليهم المفضي إلى إساءة الظن به، وأنهم قد فاتهم الصواب فكيف لنا قوة برد عليهم أو نحظى بالصواب دونهم وتقاسمهم بالله إن أرادت إلا إحسانًا وتوفيقًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} 1.

والفرق بين تجريد متابعة المعصوم، وإهدار أقواله، وإلغائها أن تجريد المتابعة أن لا تقدم على ما جاء به الرسول الله صلى الله عليه وسلم قول أحد، ولا رأيه كائنًا من كان بل تنظر في صحة الحديث أولًا فإذا صح نظر في معناه ثانيًا فإذا تبين له لم يعدل عنه، ولو خالفه من بين المشرق والمغرب، ومعاذ الله أن تتفق الأمة على ترك ما جاء به نبينا، بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به، ولو خفي عليك فلا تجعل جهلك بالقائل حجة على الله تعالى ورسوله في تركه، بل اذهب إلى النص ولا تضعف، واعلم أنه قد قال به قائل قطعًا، ولكن لم يصل إليك علمه هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه فهم رضي الله عنهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة، ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النصوص أعلم فهلا وافقته إن كنت صادقًا فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف بها ما منها خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك بل مخالفتهم في ذلك أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم، ومن هذا يتبين الفرق بين تقليد العالم في جميع ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب دليله من الكتاب والسنة والمستعين بأفهامهم يجعلهم بمنزلة الدليل الأول فإذا وصل استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة لم يبق لاستدلاله معنى

1 سورة النساء، الآية:62.

ص: 358

إذا شاهدها. قال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ومن هذا يتبين الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع، والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع بأن الأول هو الذي أنزل الله تعالى على رسوله متلوًّا، أو غير متلو إذا صح وسلم من المعارضة، وهو حكمه الذي ارتضاه لعباده، ولا حكم له سواه، وأن الثاني أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هكذا حكم الله ورسوله قطعًا، وحاشاهم عن قول ذلك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عنه في قوله:"وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة رسوله فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن أجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم، وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، ورسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا" أخرجه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث بريدة، بل قالوا اجتهدنا رأينا فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله ولم يلزم أحد منهم بقول الأئمة قال الإمام أبو حنيفة:"هذا رأي فمن جاء بخير منه قبلته" ولو كان هو عن حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه، وكذلك قال مالك لما استشاره هارون الرشيد في أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك وقال:"قد نفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد، وصار عند كل قوم من الأحاديث ما ليس عند الآخرين" وهذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده، ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد منكر على من كتب فتاويه ودونها ويقول: لا تقلدوني ولا تقلد فلانًا وفلانًا وخذ من حيث أخذوا". ا. هـ. كلام ابن القمي نقله الفلاني في: "إيقاظ الهمم".

وقال السيد الشريف المشتهر فضله في سائر الأقطار الأمير عبد القادر الحسني الجزائري ثم الدمشقي في مقدمة كتابه: "ذكرى العاقل، وتنبيه الغافل" ما نصه: "اعلموا أنه يلزم العاقل أن ينظر في القول ولا ينظر إلى قائله، فإن كان القول حقًّا قبله سواء كان

ص: 359

قائله معروفا بالحق أو الباطل، فإن الذهب يستخرج من التراب والنرجس من البصل، والترياق من الحيات ويجتني الورد من الشوك فالعاقل يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال والكلمة من الحكمة ضالة العاقل يأخذها من عند كل من وجدها عنده سواء كان حقيرًا أو جليلًا وأقل درجات العالم أن يتميز عن العامي بأمور منها أنه لا يعاف العسل إذا وجده في محجمة الحجام، ويعرف أن الدم قذر لا لكونه في المحجمة، ولكنه قذر في ذاته فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونه في ظرف الدم المستقذر لا يكسبه تلك الصفة ولا يوجب نفرة عنه، وهذا وهم باطل غلب على أكثر الناس فمهما نسب كلام إلى قائل حسن اعتقادهم فيه قبلوه، وإن كان القول باطلا وإن نسب القول إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه، وإن كان حقا ودائما يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، وهذا غاية الجهل والخسران فالمحتاج إلى الترياق إذا هربت نفسه منه حيث علم أنه مستخرج من حية جاهل فيلزم تنبيهه على أن نفرته جهل محض وهو سبب حرمانه من الفائدة التي هي مطلوبة فإن العالم هو الذي يسهل عليه إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال لا بأن يكون ملتبسًا عليه الحق بالباطل والكذب بالصدق والجميل بالقبيح ويصير يتبع غيره ويقلده فيما يعتقد، وفيما يقول فإن هذه ما هي إلا صفات الجهال والمتبعون من الناس على قسمين قسم عالم مسعد لنفسه ومسعد لغيره، وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل لا بأن يقلدوه، وقسم لنفسه ومهلك لغيره وهو الذي قلد آباءه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون، وترك النظر بعقله ودعا الناس لتقليده، والأعمى لا يصح أن يقود العميان وإذا كان تقليد الرجال مذموما غير مرضي في الاعتقادات فتقليد الكتب أولى وأخرى بالذم، وإن بهيمة تقاد أفضل من مقلد ينقاد، وإن أقوال العلماء والمتدينين متضادة متخالفة في الأكثر، واختيار واحد منها واتباعه بلا دليل باطل لأنه ترجيح بلا مرجح فيكون معارضًا بمثله، وكل إنسان من حيث هو إنسان فهو مستعد لإدراك الحقائق

ص: 360

على ما هي عليه؛ لأن القلب الذي هو محل العلم بالإضافة إلى حقائق الأشياء كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات تظهر فيها كلها على التعاقب، لكن المرآة قد لا تنكشف فيها الصور لأسباب أحدها: نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل، والثاني: لخبثه وصدئه وإن كان تام الشكل، والثالث: لكونه غير مقابل للجهة التي فيها الصورة كما إذا كانت الصورة وراء المرآة، والرابع: لحجاب مرسل بين المرآة والصورة وجهتها فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلي فيها صور المعلومات كلها، وإن خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة أولها نقصان في ذات القلب كقلب الصبي فإنه لا تنجلي له المعلومات لنقصائه، والثاني: لكدورات الأشغال الدينوية، والخبث الذي يتراكم على وجه القلب منها فالإقبال على طلب كشف حقائق الأشياء والإعراض عن الأشياء الشاغلة القاطعة هو الذي يجلو القلب ويصفيه، والثالث: أن يكون معدولًا به عن جهة الحقيقة المطلوبة، والرابع: الحجاب فإن العقل المتجرد للفكر في حقيقة من الحقائق ربما لا تنكشف له لكونه محجوبًا باعتقاد سبق إلى القلب وقت الصبا على طريق التقليد والقبول بحسن الظن فإن ذلك يحول بين القلب والوصول إلى الحق ويمنع أن ينكشف في القلب غير ما تلقاه بالتقليد، وهذا حجاب عظيم حجب أكثر الخلق عن الوصول إلى الحق لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية رسخت في نفوسهم وجمدت عليها قلوبهم، والخامس الجهل بالجهة التي يقع فيها العثور على المطلوب فإن الطالب لشيء ليس يمكنه أن يحصله إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبة حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبًا مخصوصًا يعرفه العلماء فعند ذلك يكون قد صادف جهة المطلوب فتظهر حقيقة المطلوب لقلبه فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تصاد إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه مخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال حصول النتاج من ازدواج الفحل والأنثى، ثم كما أن من أراد أن يستنتج فرسًا لم يمكنه ذلك من حمار وبعير، بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص، فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان، وبينهما طريق مخصوص في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المطلوب فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها". ا. هـ. ملخصًا.

ص: 361