الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
وهو مخير، فأما الصوم فثلاثة أيام.
أي: باب تفسير قوله تعالى كذا.
وقوله: "مخير" من كلام المصنف استفاده من أو المكررة وقد أشار إلى ذلك في أول باب كفارات الأيمان، فقال: وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا في الفدية، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار، وأقرب طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم" الحديث، وفي رواية مالك في الموطأ بإسناده في آخر الحديث: "أيُّ ذلك فعلت أجزأك" وسيأتي البحث في ذلك.
وقوله: "فأما الصوم" في رواية الكشميهني: "الصيام" والصيام المطلق في الآية مقيد بما ثبت في الحديث بالثلاث قال ابن التين وغيره: جعل الشارع هنا صوم يوم معادلا بصاع، وفي الفطر من رمضان عدل مد، وكذا في الظهار والجماع في رمضان، وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات وقسيم قوله: فأما الصوم محذوف تقديره: وأما الصدقة فهي إطعام ستة مساكين، وقد أفرد ذلك بترجمة.
الحديث التاسع
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟ ". قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ".
في رواية أشهب، عن مالك أن حميد بن قيس حدثه، أخرجها الدارقطني في الموطآت.
وقوله: "عن عبد الرحمن صرح سيف، عن مجاهد بسماعه من عبد الرحمن وبأن كعبًا حدث عبد الرحمن كما في الباب الذي يليه، قال ابن عبد البر في رواية حميد بن قيس هذه: كذا رواه الأكثر عن مالك، ورواه ابن وهب وابن القاسم وابن عفير عن مالك بإسقاط
عبد الرحمن بين مجاهد، وكعب بن عجرة، ولمالك فيه إسنادان آخران في الموطأ أحدهما: عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، وفي سياقه ما ليس في سياق حميد بن قيس، قال الدارقطني: رواه أصحاب الموطأ عن مالك، عن عبد الكريم، عن عبد الرحمن لم يذكروا مجاهدًا، حتى قال الشافعي: إن مالكا قد وهم، وأجاب ابن عبد البر: بأن ابن القاسم وابن وهب في الموطأ، وتابعهما جماعة عن مالك خارج الموطأ؛ كعبد الرحمن بن مهدي والوليد بن مسلم وإبراهيم بن طهمان، أثبتوا مجاهدًا بينهما، وهذا الجواب لا يرد على الشافعي، وطريق ابن القاسم عند النسائي، وطريق ابن وهب عند الطبري، وطريق ابن مهدي عند أحمد، وسائرها عند الدارقطني في الإسناد الثالث فيه لمالك، عن عطاء الخراساني عن رجل من أهل الكوفة، عن كعب بن عجرة، قال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون الرجل عبد الرحمن بن أبي ليلى أو عبد الله بن معقل، ونقل ابن عبد البر عن أحمد بن صالح المصري قال: حديث كعب بن عجرة في الفدية ستة معمول بها، لم يروها أحد من الصحابة غيره، ولا رواها عنه إلَاّ ابن أبي ليلى، وابن معقل قال: وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة، قال الزهري: سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين، وفيما قاله ابن صالح نظر، فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبري، والطبراني، وأبو هريرة عند سعيد بن منصور، وابن عمر عند الطبري وفضالة الأنصاري عمن لا يتهم من قومه عند الطبري أيضًا.
ورواه عن كعب بن عجرة غير المذكورين: أبو وائل عند النسائي، ومحمد بن كعب القرظي عند ابن ماجه، ويحيى بن جعدة عند أحمد، وعطاء عند الطبري، وقد جاء عن أبي قلابة، والشعبي أيضًا عن كعب، وروايتهما عند أحمد لكن الصواب أن بينهما واسطة، وهو ابن أبي ليلى على الصحيح، وقد أورد البخاري حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية، وأورده أيضًا في المغازي، والطب، وكفارات الأيمان، من طرق أخرى؛ مدار الجميع على ابن أبي ليلى وابن معقل، فيفيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلوا من مقال، إلا طريق أبي وائل، وسأذكر ما في هذه الطرق من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى.
وقوله: "إنه قال: "لعلك" في رواية أشهب المقدم ذكرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، وفي رواية عبد الكريم أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم-وهو محرم فأذاه القمل، وفي رواية سيف في الباب الذي يليه وقف عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملًا فقال: "أيؤذيك هوامك"؟ قلت: نعم، قال: "فاحلق رأسك" الحديث وفيه: قال فيَّ نزلت هذه الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} زاد في رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني أنه أهل في ذي القعدة، وفي رواية مغيرة، عن مجاهد عند الطبراني: أنه لقيه وهو عند الشجرة وهو
محرم، وفي رواية أيوب عن مجاهد في المغازي: أتى عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت برمة، والقمل يتناثر على رأسي، زاد في رواية ابن عون، عن مجاهد في الكفارات: فقال: "ادن" فدنوت فقال: "أيؤذيك"؟ وفي رواية ابن بشر عن مجاهد فيه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تتساقط على وجهي فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، فأنزلت هذه الآية، وفي رواية أبي وائل عن كعب: أحرمت فكثر قمل رأسي فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني وأنا أطبخ قدرًا لأصحابي، وفي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، بعد بابين: رآه وإنه ليسقط القمل على وجهه فقال: "أيؤذيك هوامك" قال: نعم، فأمره أن يحلق وهم بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة قلت، حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها، زاد سعيد: وكنت حسن الشعر، وأول رواية عبد الله بن معقل بعد باب جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال:"ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى"، زاد مسلم من هذا الوجه فسألته عن هذه الآية ففدية من صيام الآية، ولأحمد من وجه آخر، وقع القمل في رأسي، ولحيتي حتى حاجبي، وشاربي فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إلىّ فدعاني فلما رآني قال:"لقد أصابك بلاء ونحن لا نشعر أدع عليّ الحجام فحلقني"، ولأبي داود عن الحكم بن عتيبة عن ابن أبي ليلى عن كعب أصابتني هوام حتى تخوفت على بصري، وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطبري فحك رأسي بأصبعه فانتثر منه القمل، زاد الطبري عن الحكم "أن هذا لأذى" قلت: شديد يا رسول الله، والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ به فرآه وفي قول عبد الله بن معقل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه فرآه أن يقال مرَّ به أولًا فرآه على تلك الصورة فاستدعي به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر، ويوضحه، قوله: في رواية ابن عون السابقة حيث قال: فيها فقال: "ادن فدنوت" فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه إذ مرَّ به وهو يوقد تحت القدر.
وقوله: "لعلك آذاك هوامك؟ قال القرطبي: هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم فلما أخبره بالمشقة التي نالته خفف عنه، والهوام بتشديد الميم، جمع هامة: وهي ما يدب من الأخشاش، والمراد بها: ما يلازم جسد الإنسان غالبًا إذا طال عهده بالتنظيف، وقد عين في كثير من الروايات أنها القمل، واستدل به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل، وتعقب بذكر الحلق فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه، وهما وجهان عند الشافعية يظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولم يقتل قملًا، قلت: عند المالكية الفدية مترتبة على الحلق، وعلى قتل القمل.
وقوله: "احلق رأسك وصم" قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في إلحاق الإزالة بالحلق سواء كان بموسى أو مقص، أو نورة أو غير ذلك، وأغرب ابن حزم فأخرج النتف عن ذلك، فقال: يلحق جميع الإزالات بالحلق إلَاّ النتف.
وقوله: "أو أطعم" ليس في هذه الرواية بيان قدر الإطعام وسيأتي البحث فيه بعد باب وهو ظاهر في التخيير بين الصوم، والإطعام، وكذا.
قوله: أو انسك بشاة، وفي رواية الكشميهني شاة بغير موحدة والأول تقديره: تقرب بشاة ولذلك عداه بالباء والثاني تقديره اذبح شاة، والنسك يطلق على العبادة وعلى الذبح المخصوص، وسياق رواية الباب موافق للآية وقد تقدم إن كعبًا قال:"إنها نزلت بهذا السبب، وقد قدمت في أول الباب أن رواية عبد الكريم صريحة في التخيير حيث قال: أي ذلك فعلت أجزا، وكذا رواية أبي داود التي فيها: "أن شئت وإن شئت" ووافقتها رواية ابن أبي نجيح أخرجها مسدد في مسنده، ومن طريقه الطبراني لكن رواية عبد الله بن معقل الآتية بعد باب تقتضي أن التخيير إنما هو بين الصيام والإطعام لمن لم يجد النسك، ولفظه قال: أتجد شاة؟ قال: لا، قال: فصم أو أطعم، ولأبي داود وفي رواية أخرى "أمعك دم؟ قال: فإن شئت فصم" ونحوه للطبراني عن عطاء، عن كعب ووافقهم أبو الزبير عن مجاهد عند الطبراني وزاد بعد.
قوله: "ما أجد هديًا" قال: فأطعم قال: ما أجد، قال: صم، ولهذا قال أبو عوانة: في "صحيحه": فيه دليل على أن من وجد نسكا لا يصوم يعني ولا يطعم، لكن لا يعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبري وغيره عن سعيد بن جبير قال: النسك شاة، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم، والدراهم طعامًا فتصدق به أو صام، لكل نصف صاع يومًا. أخرجه عن الأعمش عنه قال: فذكرته لإِبراهيم فقال: سمعت علقمة مثله. فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين، وقد جمع بينهما بأوجه منها ما قال: ابن عبد البر أن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه، ومنها ما قال النووي: ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزىء إلَّا لعادم الهدي بل المراد أنه استخبره هل معه هدي أو لا فإن كان واحده أعلمه أنه غير بينه وبين الصيام والإطعام، وإن لم يجده أعلمه أنه غير بينهما ومحصله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام، والصيام. ومنها ما قال غيرهما: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بوحي غير متلو فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح، والصيام، والإطعام فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام لعلمه بأنه لا ذبح معه فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه، ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل حيث قال: أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية ففدية {مِنْ صِيَامٍ