الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب من رغب عن المدينة
أي فهو مذموم، أرباب حكم من رغب عنها
الحديث الثامن
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لَا يَغْشَاهَا إِلَاّ الْعَوَافِ، يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا، فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا".
قوله: "تتركون المدينة" كذا للأكثر بتاء الخطاب، والمراد بذلك غير المخاطبين لكنهم من أهل البلد، أو من نسل المخاطبين، أو من نوعهم، وروى يتركون بتحتانية، ورجحه القرطبي.
وقوله: "على خير ما كانت". أي: على أحسن حال كانت عليه قبل من العمارة وكثرة الأشجار وحسنها، قال القرطبي: تبعًا لعياض، وقد وجد ذلك حيث صارت معدن الخلافة، ومقصد الناس وملجأهم وحملت إليها خيرات الأرض، وصارت من أعمر البلاد، فلما انتقلت الخلافة عنها إلى الشام ثم إلى العراق وتقلبت عليها الأعراب تعاورتها الفتن؛ وخلت من أهلها، فقصدتها عوافي الطير والسباع والعوافي جمع عافية، وهي التي تطلب أقواتها، ويقال للذكر: عاف، قال ابن الجوزي: اجتمع في العوافي شيئان أحدهما: أنها طالبة لأقواتها من قولك: عفوت فلانًا أعفو، وأنا عاف والجمع عفاة أي: أتيت أطلب معروفه، والثاني: من العفاء وهو الموضع الخالي الذي لا أنيس به، فإن الطير والوحش تقصده لأمنها على نفسها فيه، وقال النووي في "المختار": إن هذا الترك يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة، ويؤيده قصة الراعيين، فقد وقع عند مسلم بلفظ: ثم يحشر راعيان، وفي البخاري أنهما آخر من يحشر، ويؤيده ما رواه معن بن عيسى عن مالك في الموطأ، عن أبي هريرة رفعه:"لتتركن المدينة على أحسن ما كانت، حتى يدخل الذيب فيعوي على بعض سواري المسجد، أو على المنبر، قالوا: فلمن تكون ثمارها؟ قال: للعوافي الطير والسباع، ورواه جماعة من الثقات خارج "الموطأ"، ويشهد له أيضًا ما روى أحمد والحاكم وغيرهما عن محجن بن الأدرع الأسلمي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة ثم لقيني وأنا خارج من بعض طرق المدينة فأخذ
بيدي، حتى أتينا أُحدًا، ثم أقبل على المدينة، فقال:"ويل أمها قرية، يوم يدعها أهلها كأينع ما يكون"، قلت: يا رسول الله! من يأكل ثمرها؟ قال: "عافية الطير والسباع"، وروى عمر بن شبة بإسناد صحيح عن عوف بن مالك قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ثم نظر إلينا فقال: "أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعين عامًا للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع"، وهذا لم يقع قطعًا، وقال المهلب في هذا الحديث: إن المدينة تسكن إلى يوم القيامة وإن خلت في بعض الأوقات، لقصد الراعيين بغنمهما المدينة، وقد أنكر ابن عمر على أبي هريرة تعبيره في هذا الحديث بقوله:"خير ما كانت" وقال: إن الصواب: أعمر ما كانت، أخرج ذلك عمر بن شبة في أخبار المدينة عن مساحق ابن عمرو أنه كان جالسًا عند ابن عمر فجاء أبو هريرة فقال له: لم ترد على حديثي، فوالله لقد كنت أنا وأنت في بيت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يخرج منها أهلها، خير ما كانت" فقال ابن عمر: أجل؛ ولكن لم يقل: "خير ما كانت" إنما "قال: "أعمر ما كانت"، ولو قال: "خير ما كانت"، لكان ذلك وهو حي وأصحابه، فقال أبو هريرة: صدقت، والذي نفسي بيده، وروى مسلم عن حذيفة أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يخرج أهل المدينة من المدينة، ولعمر بن شبة عن أبي هريرة قيل: يا أبا هريرة من يخرجهم؟ قال: أمراء السوء.
وقوله: "آخر من يحشر راعيان من مزينة"، هذا يحتمل أن يكون حديثًا آخر مستقلًا، لا تعلق له بالذي قبله، ويحتمل أن يكون من تتمة الحديث الذي قبله، وعلى هذين الاحتمالين يترتب الاختلاف الذي حكيته عن القرطبي والنووي، والثاني أظهر كما قال النووي، وفي رواية مسلم عن الزهري:"ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة"، لم يذكر في الحديث حشرهما، وإنما ذكر مقدمته لأن الحشر إنما يقع بعد الموت، فذكر سبب موتهما والحشر يعقبه.
وقوله: "ينعقان" -بكسر المهملة بعدها قاف- النعيق: زجر الغنم، يقال: نعق ينعق بكسر العين وفتحها نعيقًا ونعاقًا ونعقًا ونعقانًا إذا صاح بالغنم، وأغرب الداودي فقال: معناه يطلب الكلأ، وكأنه فسره بالمقصود من الزجر لأنه يزجرها عن المرعى الوبيل إلى المرعى الوسيم.
وقوله: "فيجدانها وحوشًا" أي: يجدانها ذات وحش أو يجدان أهلها قد صاروا وحوشًا، وهذا على أن الرواية بفتح الواو أي: يجدانها خالية، وفي رواية مسلم: فيجدانها وحشًا أي: خالية ليس بها أحد والوحش من الأرض الخلاء، أو كثيرة الوحش لما خلت من سكانها، قال النووي: الصحيح أن معناه يجدانها ذات وحوش، قال: وقد يكون وحشًا بمعنى وحوش، وأصل الوحش كل شيء توحش من الحيوان، وجمعه وحوش، وقد يعبر بواحده عن جمعه، وحكى عن ابن المرابط أن معناه أن غنم الراعيين المذكورين تصير وحوشًا إما بأن تنقلب