الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
فضائل المدينة
باب حرم المدينة
كذا لأبي ذر عن الحموي وسقط للباقين سوى قوله: باب حرم المدينة وفي رواية أبي علي الشبوي باب ما جاء في حرم المدينة علم على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفن فيها، قال الله تعالى:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} فإذا أطلقت تبادر إلى الفهم أنها المراد وإذا أريد غيرها بلفظ المدينة فلابد من قيد فهي كالنجم للثريا، والبيت للكعبة وكان اسمها قبل ذلك يثرب، قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ} ويثرب اسم لموضع منها سميت كلها به قيل: "سميت بيثرب بن قانية من ولد أرم بن سام بن نوح لأنه أول من نزلها حكاه أبو عبيد البكري، وقيل: غير ذلك ثم سماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة كما يأتي في باب مفرد وكان سكانها العماليق، ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل قيل أرسلهم موسى عليه السلام، كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف، ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، وقيل بناها تبع الأكبر لما بشر بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه إنما يكون في مدينة يثرب وكانت يثرب يومئذ صحراء فبناها لأجله عليه الصلاة والسلام وكتب بذلك عهدًا، ومن يوم موت تبع إلى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة.
الحديث الأول
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْمَدِينَةُ حَرَمٌ" مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
قوله: عن أنس في رواية عبد الواحد، عن عاصم قلت لأنس. وسيأتي في الاعتصام وليزيد بن هارون عن عاصم سألت أنسًا، أخرجه مسلم.
قوله: "المدينة حرم من كذا إلى كذا" هكذا جاء مبهمًا وسيأتي في حديث علي رابع أحاديث الباب ما بين عائر إلى كذا فعين الأول، وهو بمهملة وزن فاعلٍ وذكره في الجزية وغيرها بلفظ عير بسكون التحتانية، وهو جبل بالمدينة، يأتي إيضاحه قريبًا، واتفقت روايات
البخاري كلها على إبهام الثاني وعند مسلم إلى ثور، فقيل إن البخاري أبهمه عمدًا لما وقع عنده أنه وهم، وقال صاحب المشارق والمطالع: أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه والأصل في هذا التوقف، قول مصعب الزبيري ليس بالمدينة عير ولا ثور وأثبت غيره عيرا ووافقه على إنكار ثور، قال أبو عبيد: ما بين عير إلى ثور هذه رواية أهل العراق؛ وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلًا عندهم يقال له ثور؛ وإنما ثور بمكة ونرى أن أصل الحديث ما بين عير إلى أحد، وقد وقع ذلك في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني وقال عياض: لا معنى لإنكار عير بالمدينة فإنه معروف وقد جاء ذكره في أشعارهم وأنشد أبو عبيد البكري عدة شواهد منها قول الأحوص المدني الشاعر المشهور:
فقالت لعمرو تلك يا عمرو ناره
…
تشب قفا عير فهل أنت ناظر
وقال ابن السيد: عير اسم جبل بقرب المدينة معروف وروى الزبير في أخبار المدينة قال سعيد بن عمرو لبشر بن السائب: أتدري لم سكنا العقبة قال: لا قال: لأنا قتلنا منكم قتيلًا في الجاهلية فخرجنا إليها فقال: وددت لو أنكم قتلتم منا آخر وسكنتم وراء عير، يعني جبلا كذا في نفس الخبر وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيري لعير وثور مسالك منها ما تقدم ومنها قول ابن قدامة، يحتمل أن يكون المراد مقدار ما بين عير وثور لا أنهما بعينهما في المدينة أو سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرًا وثورًا إرتجالًا، وقال ابن الأثير، قيل أن عيرًا جبل بمكة فيكون المراد أحرم من المدينة مقدار ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف ووصف المصدر المحذوف وقال النووي: يحتمل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك إما أُحد وإما غيره وقال المحب الطبري: في الأحكام بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحًا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض، وما فيها من الجبال فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور وتواردوا على ذلك فعلم أن ذكر ثور في الحديث صحيح وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته، وعدم بحثهم عنه وفي شرح القطب الحلبي قال لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه خرج رسولًا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل وكان يذكر له الأماكن والجبال، قال: فلما وصلنا إلى أحد إذ بقربه جبل صغير فسألته عنه فقال: هذا يسمى ثورًا فعلمت صحة الرواية، وذكر أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلًا صغيرًا إلى العمرة بتدوير يسمى ثورًا قال: وقد تحققته بالمشاهدة قال صاحب القاموس: ثور جبل بمكة، وجبل بالمدينة، ومنه الحديث الصحيح "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" وأما قول
ابن التين: أن البخاري أبهم اسم الجبل عمدًا لأنه غلط، فهو غلط بل إبهامه من بعض رواته، فقد أخرجه في الجزية فسماه كما مرَّ، ومما يدل على أن المراد بقوله: في حديث أنس من كذا إلى كذا جبلان، ما وقع عند مسلم عن أنس مرفوعًا "اللهم إني أحرم ما بين جبليها" لكن عند المصنف في الجهاد بلفظ ما بين لابتيها، وكذا في حديث أبي هريرة ثالث أحاديث الباب، وكذا في حديث رافع بن خديج وأبي سعيد وسعد وجابر كلها عند مسلم، وكذا رواه أحمد والبيهقي والطبراني بلفظ: ما بين لابتيها، واللابتان تثنية لابة بتخفيف الموحدة، وهي الحرة؛ وهي الحجارة السود، وقد تكرر ذكرها في الحديث وعند أحمد عن جابر:"وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها"، وادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية ما بين جبليها، وفي رواية ما بين لابتيها، وفي رواية مأزميها وتعقب بأن الجمع بينهما واضح، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح ولا شك أن رواية ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل أو أن لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة الغرب والشرق، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر وأما رواية مأزميها فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد والمأزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين، وقد يطلق على الجبل نفسه، والرواية من هذا المعنى الأخير.
وقوله: "لا يقطع شجرها" بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًا للمجهول، وفي رواية يزيد بن هارون، لا يختلى خلاها، وفي مسلم عن جابر لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها وعند أبي داود بإسناد صحيح لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ففي هذا أنه يحرم صيد المدينة وشجرها كما في حرم مكة قال ابن قدامة: يحرم صيد المدينة وقطع شجرها وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف: ليس للمدينة حرم كما لمكة فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وقطع شجرها واحتج الطحاوي بحديث أنس في قصة أبي عمير ما فعل بالنغير، قال: لو كان صيدها حرامًا ما جاز حبس الطير وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل قال أحمد من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله، لحديث أبي عمير وهذا قول الجمهور، ولكن لا يرد ذلك على الحنفية لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حرامًا ما فعله صلى الله عليه وسلم، وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما مرَّ في أوائل الصلاة في باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها، فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة
زال ذلك، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت، وأبو سعيد وغيرهم، كما أخرجه مسلم ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئًا أثم ولا جزاء عليه، في رواية لأحمد وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم، وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك، وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء، وهو كما في حرم مكة، وقيل: الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، وفي رواية لأبي داود من وجد أحدًا يصيد في حرم المدينة فليسلبه، قال القاضي عياض: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم، واختاره جماعة معه وبعده، لصحة الخبر فيه ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل، وأنه للسالب لكنه لا يخمس، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة ودعوى الإجماع مردودة، فبطل ما ترتب عليها، قال ابن عبد البر: لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، ولأبي داود عن أبي حسان، عن عليّ نحوه، وقال المهلب: في حديث أنس دِلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانًا مثلًا فلا يمتنع عليه قطع ما كان بتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه، وقيل: بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع للآدمي فيه، كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة، وعلى هذا يحمل قطعه عليه الصلاة والسلام النخل وجعله قبلة المسجد، ولا يلزم منه النسخ المذكور.
وقوله: "من أحدث فيها حدثًا" زاد شعبة وحماد بن سلمة عن عاصم عند أبي عوانة: "أو آوى محدثًا" وهذه الزيادة صحيحة إلا أن عاصمًا لم يسمعها من أنس كما يأتي بيانُ ذلك في كتاب الاعتصام.
وقوله: "فعليه لعنة الله" فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين، وفيه: أن المُحْدث والمؤوي للمُحْدِث في الإثم سواء، والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل، أو ما هو أعم من ذلك، قال عياض: واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله، قال: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر.