الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب المحصر، وجزاء الصيد
وقول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ثبتت البسملة للجميع، وذكر أبو ذر أبواب بلفظ الجمع، وللباقين باب بالإفراد، وقول الله بالجر عطف على المحصر وفي تفسير الإحصار اختلاف بين الصحابة وغيرهم، فقال كثير منهم: الإحصار من كل حابس حبس الحاج، من عدو ومن مرض وغير ذلك، حتى أفتى ابن مسعود رجلًا لدغ بأنه محصر، أخرجه ابن جرير عنه بإسناد صحيح، وبهذا قال عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي والثوري، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واحتج هؤلاء بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري، عند أحمد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق، وقد أخرجه الأربعة عن يحيى بن أبي كثير به، وفي رواية لأبي داود، وابن ماجه من عرج أو كسر أو مرض، فذكر معناه، وقال آخرون: وهم: الليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يكون الإحصار إلَاّ بالعدو فقط، فالمحصر بالمرض لا يحل دون البيت، وسواء عند مالك شرط على نفسه عند إحرامه التحلل أو لم يشترط، وقال الشافعي: له شرطه، وإذا نحر هديه وتحلل ينصرف، ولا قضاء عليه إلَاّ أن يكون ضرورة فيحج الفريضة، ولا خلاف بين مالك والشافعي وأصحابهما في ذلك، وقال مالك: أهل مكة في ذلك كأهل الآفاق؛ لأن الإِحصار عنده في المكي: الحبس عن عرفة خاصة، قال: فإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به، وافتدى وهو على إحرامه لا يحل من شيء، حتى يبرأ من مرضه، فإذا برأ من مرضه مضى إلى البيت، فطاف به سبعًا، وسعى بين الصفا والمروة، وحل من حجه أو عمرته، وإذا نحر المحصر هديه هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قوم: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال آخرون: بل يحلق؛ فإن لم يحلق فلا شيء عليه، وهذا قول أبي يوسف، وقال آخرون: يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاج والمعتمر، وهو قول مالك والشافعي، واحتج مالك والشافعي وموافقوهم على أن الإِحصار بالعدو خاصة؛ بما أخرجه عبد الرزاق والشافعي عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلَاّ من حبسه عدو فيحل بعمرة، وليس عليه حج ولا عمرة، وروى مالك في الموطأ والشافعي عنه عن ابن عمر قال: من حبس دون البيت بالمرض، فإنه لا يحل
حتى يطوف بالبيت، وروى مالك عن أيوب، عن رجل من أهل البصرة قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كسرت فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل، فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر، ثم حللت بعمرة، وأخرجه ابن جرير من طرق، وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير، وقال الشافعي: جعل الله على الناس إتمام الحج والعمرة، وجعل التحلل للمحصر رخصة، وكانت الآية في شأن منع العدو فلم نعد بالرخصة موضعها.
والثالث: قول ابني الزبير عبد الله وعروة: إن المرض والعدو سواء، لا يحل بالطواف، ولا نعلم لهما موافقًا من فقهاء الأمصار.
والقول الرابع: حكاه ابن جرير وغيره: وهو أنه لا حصر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: المحرم لا يحل حتى يطوف أخرجه في باب ما يفعل من أحصر بغير عدو، وأخرج ابن جرير عن عائشة بإسناد صحيح قالت: لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت، وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: لا إحصار اليوم، وروي ذلك عن عبد الله بن الزبير، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تفسير الإِحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة، منهم: الأخفش والكسائي، أن الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدو فهو الحصر، وبهذا جزم النحاس وأثبت بعضهم أن أحصر وحصر بمعنى واحد، يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرف، قال تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدو إياهم، وأما مالك والشافعي فحجتهم في أن لا إحصار بالعدو اتفاق أهل النقل على أن الآيات نزلت في قصة الحديبية حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت فسمى الله تعالى صدر البيت إحصارًا، وحجة الآخرين التمسك بعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وما مرَّ من الأحاديث، وقوله تعالى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} روي عن ابن عباس أنه قال: من الأزواج الثمانية، وروي عنه أنه قال: شاة، وبهذا قال عطاء، ومجاهد، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وروى عبد الرزاق عنه أنه قال: بقدر يسارته، وقال العوفي عنه: إن موسرًا فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلَاّ فمن الغنم، وروى ابن أبي حاتم عن عائشة، وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلَاّ من الإبل والبقر، والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة.
وقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} عطف على قوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وليس معطوفا على قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} كما زعمه ابن جرير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام
الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، وأما في حال الأمن والوصول، فلا يجوز الحلق حتى يبلغ الهدي محله، ويفرغ الناس من أفعال الحج والعمرة -إن كان قارنًا- أو من فعل أحدهما -إن كان مفردًا- أو متمتعًا.
ثم قال: "وقال عطاء: الإحصار من كل شيء يحبسه".
في اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار، وهي مسألة اختلاف كما مرَّ مستوفى قريبًا، وهذا الأثر وصله عبد بن حميد عن ابن جريج، عنه قال: في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: الإحصار من كل شيء يحبسه، وروى ابن المنذر، عن ابن عباس نحوه، ولفظه، فإن أُحصرتم قال: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده، أو عدو يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، فإن كانت حجة الإِسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد الفريضة فلا قضاء عليه، وقد وصله ابن أبي شيبة أيضًا، وعطاء قد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم.
ثم قال: "قال أبو عبد الله: حصورا لا يأتي النساء".
هكذا ثبت هذا التفسير هنا في رواية المستملي خاصة، ونقله الطبري عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد، وقد حكاه أبو عبيدة في المجاز، وقال: إن له معاني أخرى فذكرها، وهو بمعنى محصور؛ لأنه منع مما يكون من الرجال، وقد ورد فعول بمعنى مفعول كثيرًا، وكان البخاري أراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى أن المادة واحدة، والجامع بين معانيها المنع، قال القاضي عياض: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قاله بعضهم من أنه كان هيوبا أو لا ذكر له، بل أنكر حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا: هذه عيب ونقيصة، ولا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما معناه معصوم من الذنوب لا يأتيها، كأنه حصر عنها، وقيل: مانعًا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء، والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء كما قيل، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال، وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل من دعاء زكريا عليه السلام حيث قال:{هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} كأنه سأل ولدا له ذرية ونسل وعقب.
ثم قال المصنف: