الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب إذا أهدي للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل
أي: إذا أهدى الحلال للمحرم.
وفيه إشارة إلى أن الرواية التي تدل على أنه كان مذبوحا موهومة، قال النووي: ترجم البخاري يكون الحمار حيا وليس في سياق الحديث تصريح بذلك، وكذا نقلوا هذا التأويل، وهو باطل؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم الآتية قريبًا صريحة في أنه مذبوح، قال في "الفتح": وإذا تأملت ما تقدم وما يأتي قريبا لم يحسن إطلاق بطلان التأويل المذكور ولاسيما في رواية الزهري التي هي عمدة هذا الباب، وقد قال الشافعي في "الأم": حديث مالك أن الصعب أهدى حمارا أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار، وقال الترمذي: روى بعض أصحاب الزهري في حديث الصعب لحم حمار وحش، وهو غير محفوظ.
الحديث التاسع عشر
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهْوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ:"إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَاّ أَنَّا حُرُمٌ".
قوله: "عن ابن شهاب" الخ لم يختلف على مالك في سياقه معنعنًا، وإنه من مسند الصعب، إلَاّ ما وقع في "موطأ" ابن وهب، فإنه قال في روايته عن ابن عباس: إن الصعب بن جثامة أهدى فجعله من مسند ابن عباس، وكذا أخرجه مسلم عن ابن عباس قال: أهدى الصعب، والمحفوظ في حديث مالك الأول وسيأتي للمصنف في الهبة عن الزهري: أخبرني عبيد الله، أن ابن عباس أخبره أنه سمع الصعب -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه أهدى، والصعب يأتي تعريفه في السند قريبًا.
وقوله: "حمارًا وحشيًا" لم تختلف الرواة عن مالك في ذلك، وتابعه عامة الرواة عن الزهري، وخالفهم ابن عيينة عن الزهري فقال: لحم حمار وحش أخرجه مسلم، لكن بين الحميدي صاحب سفيان أنه كان يقول في هذا الحديث: حمار وحش، ثم صار يقول: لحم حمار وحش، فدل على اضطرابه فيه، وقد توبع على قوله: لحم حمار وحش من أوجه فيها مقال، منها: ما أخرجه الطبراني عن عمرو بن دينار، عن الزهري، وإسناده ضعيف، وأخرج
إسحاق في "مسنده" عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن الزهري فقال: لحم حمار، وقد خالفه خالد الواسطي، عن محمد بن عمرو فقال: حمار وحش كالأكثر، وأخرجه الطبري عن أبي إسحاق عن الزهري فقال: رجل حمار وحش، وابن إسحاق لا يحتج به إذا خولف، ويدل على وهم ما قال في ذلك عن الزهري أن ابن جريج قال: قلت للزهري: الحمار عقير؟ قال: لا أدري، أخرجه ابن خزيمة وأبو عوانة في "صحيحهما"، وأخرج مسلم عن الحكم، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس قال: أهدى الصعب إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلَ حمارٍ، وفي رواية عنده: عجزَ حمار وحش يقطر دمًا، وأخرجه أيضًا عن سعيد فقال تارة: حمار وحش، وتارة: شق حمار، ويقوي ذلك ما أخرجه مسلم عن طاوس، عن ابن عباس قال: قدم زيد بن أرقم فقال: له ابن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام؟ قال: أهدي له عضو من لحم فردَّه، وقال:"إنا لا نأكله إنا حرم" قال النووي: وهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح، وأنه إنما أهدي بعض لحم صيد لأكله، ولا معارضة بين رجل حمار وعجزه وشقه إذ تندفع بإرادة رجل معها فخذ وبعض جانب الذبيحة، فوجب حمل رواية: أهدي حمارًا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض، ويمتنع العكس، إذ إطلاق الرجل على كل الحيوان غير معهود؛ لأنه لا يطلق على زيد إصبع ونحوها؛ لأنه غير جائز لما عرف من أن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الإنسان، إذ لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وأما إطلاق العين على الرقيب فليس من حيث هو إنسان، بل من حيث هو رقيب، وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين، على ما عرف في التحقيقات، وهو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده الأكثر منها، ثم إن في هذا العمل ترجيحًا للأكثر، أو يحكم بغلط رواية الباب بناء على أن الراوي رجع عنها تبيينا لغلطه، وقد مرَّ أن ابن عيينة صار يقول: لحم حمار وحش، قال الحميدي: إلى أن مات، وهذا يدل على رجوعه وثباته على ما رجع إليه، والظاهر أنه لتبيينه غلطه أولًا، وقال البيهقي: كان ابن عيينة يضطرب فيه فرواية العدد الذين لم يشكوا فيه أولى.
وقوله: "وهو بالأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد: جبل من عمل الفُرْع بضم الفاء وسكون الراء بينه وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا، ويسمى بذلك لما فيه من الوباء، ولو كان كما قيل:، لقيل: الأوباء، وهو مقلوب عنه والأقرب أنه يسمى بذلك لأن السيول تتبوؤه أي: تحله.
وقوله: "أو بودان": شك من الراوي، وهو بفتح الواو وتشديد الدال، وآخره نون موضع بقرب الجحفة أو قرية جامعة من ناحية الفرع وودان أقرب إلى الجحفة من الأبواء فإن من الأبواء إلى الجحفة، للآتي من المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا، ومن ودان إلى الجحفة ثمانية أميال، والشك من الراوي، لكن جزم ابن إسحاق وصالح بن كيسان عن الزهري بودان، وجزم
معمر وعبد الرحمن بن إسحاق ومحمد بن عمرو بالأبواء.
وقوله: "فرده عليه" ولأبي الوقت: فرد عليه، بحذف ضمير المفعول أي: رد عليه الصلاة والسلام الحمار على الصعب، وقد اتفقت الروايات كلها على أنه عليه الصلاة والسلام رده عليه إلَّا ما رواه ابن وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن عن عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش -وهو بالجحفة- فأكل منه، وأكل القوم، قال البيهقي: إن كان هذا محفوظًا فلعله رد الحيّ وقبل اللحم، قال في الفتح: وفي هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فلعله رده حيًّا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصد لأجله، وقد قال الشافعي في الأم: إن كان الصعب أهدى له حمارًا حيًّا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حي، وإن كان أهدى له لحما، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له، ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله، فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة، وفي غيرها من الروايات بالأبواء، أو بودان، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحًا، ثم قطع منه عضوًا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارًا أراد بتمامه مذبوحًا لا حيًّا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه هداه له حيًّا، فلما رده عليه ذكاه، وأتاه بعضو منه ظانًا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل، قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات.
وقوله: "فلما رأى ما في وجهه" في رواية شعيب: "فلما عرف في وجهي رده هديتي"، وفي رواية الليث عن الزهري عند الترمذي:"فلما رأى ما في وجهه من الكراهية" وكذا لابن خزيمة، عن ابن جريج.
وقوله: "إنا لم نرده" أي: عليك، في رواية شعيب وابن جريج:"أليس بنا رد عليك"، وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عند الطبراني: إنا لم نرده عليك كراهية له، ولكنا حرم، قال عياض: ضبطناه في الروايات لم نردَّه بفتح الدال، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا: الصواب أنه بضم الدال لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجبها له ضمة الهاء بعدها قال: وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب في الفصيح، نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف وأوهم صنيعه أنه فصيح وأجازوا أيضًا الكسر، وهو أضعف الأوجه، وفي رواية الكشميهني بفك الادغام: لم نردده بضم الأولى وسكون الثانية ولا إشكال فيه.
وقوله: "إلا أنا حرم" قد مرت رواية صالح بن كيسان عند النسائي: "لا نأكل الصيد"