الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس
أي: الشرار منهم، وراعى في الترجمة لفظ الحديث وقرينة إرادة الشرار من الناس ظاهرة من التشبيه الواقع في الحديث، والمراد بالنفي الإخراج. ولو كانت الرواية تنقي بالقاف لحمل لفظ الناس على عمومه، وقد ترجم المصنف بعد أبواب المدينة تنفي الخبث.
الحديث الخامس
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ: يَثْرِبُ. وَهْيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ".
قال ابن عبد البر: اتفق الرواة عن مالك على إسناده إلا إسحاق بن عيسى الطباع، فقال: عن مالك، عن يحيى، عن سعيد بن المسيب -بدل سعيد بن يسار-، وهو خطأ، وتابعه أحمد بن عمر، عن خالد السلمي، عن مالك وأخرجه الدارقطني في غراب مالك وقال: هذا وهم، والصواب: عن يحيى، عن سعيد بن يسار.
وقوله: "أمرت بقرية" أي: أمرني ربي بالهجرة إليها أو سكناها، فالأول محمول على أنه قاله بمكة، والثاني على أنه قاله بالمدينة.
وقوله: "تأكل القرى" أي: تغلبهم وكنى بالأكل عن الغلبة؛ لأن الأكل غالب على المأكول، وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك: ما تأكل القرى قال: تفتح القرى، وبسطه ابن بطال فقال: معناه يفتح أهلها القرى، فيأكلون أموالهم، ويسبون ذراريهم قال: وهذا من فصيح كلام العرب تقول العرب: أكلنا بلد كذا، إذا ظهروا عليه، وسبقه الخطابي إلى معنى ذلك أيضًا.
وقال النووي: ذكروا في معناه وجهين:
أحدهما: هذا، والآخر: أن أكلها وميرتها من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها، قال ابن المنير: يحتمل أن يكن المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها، حتى تكاد تكون عدمًا، وما ذكره احتمالًا ذكره
القاضي عبد الوهاب، فقال: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلا رجوح فضلها عليها، وزيادتها على غيرها، ولكن دعوى الحصر مردودة لما مضى، ثم قال ابن المنير: وقد سميت مكة أم القرى والمذكور للمدينة، أبلغ منه لأن الأمومة إذا وجدت لا ينمحي ما هي له أم، لكن يكون حق الأم أظهر وفضلها أكثر.
وقوله: "يقولون: يثرب، وهي المدينة" أي: أن بعض المنافقين يسميها يثرب واسمها الذي يليق بها المدينة، وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب، وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين، وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه:"من سمى المدينة يثرب، فليستغفر الله هي طابة، هي طابة" وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدنية يثرب، ولهذا قال عيسى بن دينار المالكي: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة، قال: وسبب هذه الكراهة لأن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب، وهو الفساد، وكلاهما مستقبح وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن، ويكره الاسم القبيح، وذكر أبو إسحاق الزجاج وأبو عبيد البكري أنها سميت يثرب باسم يثرب بن قانية بن مهلايل بن عيل بن عيص بن أرم بن سام بن نوح؛ لأنه أول من سكنها بعد العرب، ونزل أخوه خيبور خيبر فسميت به، وسقط بعض الأسماء من كلام البكري.
وقوله: "تنفي الناس" قال عياض: وكأن هذا مختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة، والمقام بها معه، إلا من ثبت إيمانه، وقال النووي: ليس هذا بظاهر؛ لأن عند مسلم: "لا تقوم الساعة حت تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكبير خبث الحديد" وهذا -والله أعلم- زمن الدجال، قال في الفتح: قال: ويحتمل أن يكون المراد كلا من الزمنين، وكان الأمر في حياته عليه الصلاة والسلام كذلك للسبب المذكور، ويؤيده قصة الأعرابي الآتية بعد أبواب، فإنه عليه الصلاة والسلام ذكر هذا الحديث معللًا به خروج الأعرابي، وسؤاله الإِقالة عن البيعة، ثم يكون ذلك أيضًا في آخر الزمان؛ عندما ينزل بها الدجال، فترجف بأهلها، فلا يبقى منافق، ولا كافر إلا خرج إليه، كما يأتي بعد أبواب، وأما ما بين ذلك فلا.
وقوله: "كما ينفي الكير" أي: بكسر الكاف وسكون التحتانية، وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزّق الذي ينفخ فيه، لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد والصائغ، قال ابن التين: وقيل: الكير هو الزق والحانوت هو الكور، وقال صاحب المحكم: الكير الزق الذي ينفخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد له إلى أبي مودود، قال: رأى عمر بن الخطاب كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه، والخبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة أي: وسخه الذي تخرجه النار، والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة،
وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده، ونسبة التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع بها التمييز، واستدل بهذا الحديث على أن المدينة أفضل البلاد، قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإِسلام فصار الجميع في صحائف أهلها، ولأنها تنفي الخبث، وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة، فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين. قلت: في هذا الجواب نظر؛ لأن الذين فتحوا مكة -وإن كان معظمهم من أهلها- لم يفتحوها إلا باسم المدينة، والسكنى فيها، فلا ينفي ذلك فضل المدينة بهذه المزية، وعن الثاني بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة، وابن مسعود وطائفة، ثم علي وطلحة والزبير، وعمار، وآخرون وهم من أطيب الخلق فدلّ على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس، ووقت دون وقت.
قلت: هذا الخروج الواقع من أولئك الأفاضل لا يصدق عليه النفي، ولا يتناوله، وقال ابن حزم لو فتحت بلد من بلد، فثبت بذلك الفضل للأولى، للزم أن تكن البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما، مما فتح من جهة البصرة؛ وليس كذلك، قلت: من أين له بأن الأمر ليس كذلك، بل الظاهر أن الأمر كذلك، فتكون البصرة أفضل مما فتح بعدها لقدمها في الإِسلام.
وقد استنبط ابن أبي جمرة من قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة" التساوي بين فضل مكة والمدينة، ومباحث التفضيل بين الموضعين مشهورة، وقال الأبي من المالكية، واختار ابن رشد وشيخنا أبو عبد الله ابن عرفة تفضيل مكة، واحتج ابن رشد لذلك بأن الله تعالى جعل بها قبلة الصلاة، وكعبة الحج، وأن الله تعالى جعل لها مزية بتحريم الله تعالى إياها، إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، وأجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على من صاد بحرمها، ولم يجمعوا على وجوبه على من صاد بالمدينة، ومن دخله كان آمنًا، ولم يقل أخد بذلك في المدينة، والذنب في حرم مكة أغلظ منه في حرم المدينة، فكان ذلك دليلًا على فضلها عليها، قال: ولا حجة في الأحاديث المرغبة في سكنى المدينة على فضلها عليها، قال: ولا دليل في قوله: أُمرت بقرية تأكل القرى لأنه إنما أخبر أنه أمر بالهجرة إلى قرية تفتح منها البلاد، قلت: وهذا الذي أخبر به من كونها تفتح منها البلاد أي: مزية فوقه.