الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجاله سبعة:
قد مرّوا: مرَّ أصبغ في السابع والستين من الوضوء، وحفصة في الثالث والستين منه، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ سالم في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ محل ابن عمر قريبًا.
فيه التابعي عن التابعي، والصحابي عن الصحابية، ورواية الأخ عن أخته.
أخرجه مسلم والنسائي.
الحديث الثالث والعشرون
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يَقْتُلُهُنَّ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ".
قوله: "أخبرني يونس" ظهر بهذا أن لابن وهب عنه، عن الزهري فيه إسنادين سالم عن أبيه عن حفصة وعروة عن عائشة، وقد كان ابن عيينة ينكر طريق الزهري عن عروة، قال الحميدي: عن سفيان حدثنا والله الزهري، عن سالم عن أبيه، فقيل له: إن معمرًا يرويه عن الزهري عن عروة، عن عائشة فقال: حدثنا والله الزهري لم يذكر عروة وطريق معمر المشار إليها أوردها المصنف في بدء الخلق عن يزيد بن زريع عنه، ورواها النسائي عن عبد الرزاق، وطريق عن عروة رواها أيضًا سعيد بن أبي حمزة عند أحمد وأبان بن صالح عند النسائي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد تابع الزهري عن عروة هشام بن عروة، أخرجه مسلم أيضًا.
قوله: "خمس" التقييد بالخمس، وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أولًا ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم، فقد ورد في بعض طرق عائشة بلفظ أربع وفي بعض طرقها بلفظ ست، فأما طريق أربع فأخرجها مسلم عن القاسم عنها فأسقط العقرب، وأما طريق ست فأخرجها أبو عوانة في المستخرج عن هشام عن أبيها عنها فأثبتها، وزاد الحية، ويشهد لها طريق شيبان التي تقدمت عند مسلم وإن كانت خالية عن العدد، وأغرب عياض فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر الأفعى فصارت سبعًا وتعقب بأن الأفعى داخلة في مسمى الحية، والحديث الذي ذكرت فيه أخرجه أبو عوانة في المستخرج عن نافع في آخر حديث الباب، قال: قلت: لنافع فالأفعى قال: ومن يشك في الأفعى، وعند أبي داود عن أبي سعيد نحو رواية شيبان وزاد السبع العادي فصارت سبعًا، وعند ابن خزيمة وابن
المنذر عن أبي هريرة زيادة ذكر الذيب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور، ووقع ذكر الذيب في حديث مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود عن سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقتل المحرم الحية والذيب" ورجاله ثقات، وأخرج أحمد عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل الذيب للمحرم وفيه حجاج، وهو ضعيف وخالفه مسعر عن وبرة موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة فهذا جميع ما وقف عليه في الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة، ولا يخلو شيء من ذلك من مقال.
وقوله: "من الدواب" بتشديد الموحدة جمع دابة: وهو ما دب من الحيوان وقد أخرج بعضهم منها الطير، لقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية وهذا الحديث يرد عليه فإنه ذكر في الدواب الخمس، الغراب، والحدأة، ويدل على دخول الطير أيضًا عموم قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وقوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية وعند مسلم عن أبي هريرة في صفة بدء الخلق، وخلق الدواب يوم الخميس، ولم يفرد الطير بذكر، وقد تصرف أهل العرف في الدابة فمنهم من يخصها بالحمار، ومنهم من يخصها بالفرس، وفائدة ذلك تظهر في الحلف.
وقوله: "كلهن فاسق يقتلن" قيل: فاسق صفة لكل وفي يقتلن ضمير راجع إلى معنى كل، ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه: كلها فواسق، وفي رواية معمر التي في بدء الخلق: خمس فواسق، قال النووي: هو بإضافة خمس لا بتنوينه، وجوز ابن دقيق العيد الوجهين وأشار إلى ترجيح الثاني فإنه قال: رواية الإضافة تشعر بالتخصيص فيخالفها غيرها في الحكم من طريق المفهوم، ورواية التنوين تقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى فيشعر بأن الحكم المرتب على ذلك، وهو القتل معلل بما جعل وصفًا، وهو الفسق فيدخل فيه كل فاسق من الدواب، ويؤيده رواية يونس التي في حديث الباب، وقد مرَّ أن قوله:"فاسق" صفة لكل مذكر، وأن قوله:"يقتلن" فيه ضمير راجع إلى معنى كل، وهو جمع، وهو تأكيد لخمس، تعقب هذا في المصابيح بأن الصواب أن يقال خمس مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة وصفه ومن الدواب في محل رفع على أنه صفة لخمس. وقوله:"يقتلن" جملة فعلية في محل رفع على أنها خبر المبتدأ الذي هو خمس، وأما جعل كلهن تأكيد لخمس، فمما يأباه البصريون، وجعل فاسق صفة لكل خطأ ظاهر، والضمير في يقتلن راجع إلى خمس لا إلى كل إذ هو خبره، ولو جعل خبر كل امتنع الإتيان بضمير الجمع لأنه لا يعود عليها الضمير من خبرها إلَاّ مفردًا مذكرًا على لفظها، على ما صرح به ابن هشام في المغني، وعبر بقوله: فاسق بالإفراد، وفي رواية مسلم: فواسق بالجمع، وذلك أن كل اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر نحو {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} والمعرف المجموع نحو {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وأجزاء المفرد المعرف نحو كل زيد حسن، فإذا قلت: أكلت
كل رغيف لزيد كانت لعموم الأفراد، فإن أضفت الرغيف إلى زيد صارت لعموم أجزاء فرد واحد، ولفظ: كل مفرد مذكر، ومعناه بحسب ما يضاف إليه، فإن أضيف إلى معرفة، فقال ابن هشام: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها نحو: كلهم قائم أو قائمون، وقد اجتمعا في قوله تعالى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} الآية، ومن ذلك {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وفي الآية حذف مضاف، وإضمار لما دل عليه المعنى لا اللفظ، أي: إن كل أفعال هذه الجوارح كان المكلف مسئولًا عنه، وقد وقع في البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة في باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل أمتي يدخلون الجنة إلَاّ من أبى، قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" فقد أعاد الضمير من خبر كل المضاف إلى معرفة غير مفرد، وهذا الحديث فيه الأمران، ولا يتأتى فيه ما ذكره عن الآية، وذلك لأنه قال:"كلهن فاسق" بالإفراد، ثم قال:"يقتلن" قال النووي وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغةً الخروج، ومنه: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وقوله تعالى:{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج، وسمي الرجل فاسقًا لخروجه عن طاعة ربه، فهو خروج مخصوص، وزعم ابن الأعرابي أنه لا يعرف في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق -يعني بالمعنى الشرعي- وأما المعنى في وصف الدواب المذكورة بالفسق فقيل: لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله، وقيل: في حل أكله لقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد، وعدم الانتفاع، ومن ثم اختلف أهل الفتوى فمن قال بالأول ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم وفي الحل، ومن قال بالثاني ألحق ما لا يؤكل إلَاّ ما نهي عن قتله، وهذا قد يجامع الأول، ومن قال بالثالث يخص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد، وفي حديث أبي سعيد عند ابن ماجه قيل له: لم قيل للفأرة: فويسقة، فقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت، فهذا يومىء إلى أن سبب تسمية الخمس بذلك لكون فعلها يشبه فعل الفساق، وهو يرجح القول الأخير.
وقوله: "يقتلن في الحرم" تقدم في رواية نافع بلفظ: ليس على المحرم في قتلهن جناح، وعرف بذلك أن لا إثم في قتلها على المحرم ولا في الحرم وقد يؤخذ منه جواز ذلك للحلال، وفي الحل من باب الأولى، وقد وقع ذكر الحل صريحًا عند مسلم عن عروة بلفظ: يقتلن في الحل والحرم، ويعرف حكم الحلال بكونه لم يقم به مانع، وهو الإحرام فهو بالجواز أولى، ثم إنه ليس في نفي الجناح، وكذا الحرج في طريق سالم دلالة على أرجحية الفعل على الترك، لكن ورد في طريق زيد بن جبير عند مسلم بلفظ: أمر، وكذا في طريق معمر،
ولأبي عوانة عن عروة بلفظ: ليقتل المحرم، وظاهر الأمر الوجوب، ويحتمل الندب والإباحة، وروى البزار عن أبي رافع قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته إذ ضرب شيئًا، فإذا هي عقرب فقتلها، وأمر بقتل العقرب، والحية والفأرة والحدأة للمحرم، لكن هذا الأمر ورد بعد الحظر لعموم نهي المحرم عن القتل، فلا يكون للوجوب والندب، بل يكون للإباحة كما هي القاعدة، ويؤيد ذلك رواية الليث عن نافع بلفظ: أَذِنَ أخرجه مسلم والنسائي، لكن لم يسق مسلم لفظه وعن أبي هريرة عند أبي داود وغيره: خمس قتلهن حلال للمحرم.
وقوله: "الغراب" زاد في رواية سعيد بن المسيب، عن عائشة عند مسلم: الأبقع وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، وأخذ بهذا القيد بعض أصحاب الحديث كما حكاه ابن المنذر وغيره، وصرح ابن خزيمة باختياره، وهو قضية حمل المطلق على المقيد، وأجاب ابن بطال بأن هذه الزيادة لا تصح لأنها من رواية قتادة عن سعيد، وهو مدلس، وقد شذَّ، وقال ابن عبد البر: لا تثبت هذه الزائدة، وقال ابن قدامة: الروايات المطلقة أصح، وفي جميع هذا التعليل نظر، أما دعوى التدليس فمردودة بأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلسين إلَّا ما هو مسموع لهم، وهذا من رواية شعبة، بل صرَّح النسائي في روايته عن النضر بن شميل، عن شعبة بسماع قتادة، وأما نفي الثبوت فمردود بإخراج مسلم، وأما الترجيح فليس على شرط قبول الزيادة، بل الزيادة مقبولة من الثقة الحافظ -وهو كذلك هنا- نعم قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء، وتحريم الأكل، وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك، ويقال له: غراب الزرع، ويقال له: الزاغ، وأفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملتحقًا بالأبقع، ومنها: الغداف على الصحيح في الروضة، بخلاف تصحيح الرافعي، وسمى ابن قدامة الغداف: غراب البين والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع، قيل: سمي غراب البين لأنه بأن عن نوح لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فلقي جيفة فوقع عليها ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به، فكانوا إذا نعب مرتين قالوا: آذن بشر، وإذا نعب ثلاثًا قالوا: آذن بخير، فأبطل الإِسلام ذلك، وكان ابن عباس إذا سمع الغراب قال: اللهم لا طير إلَاّ طيرك، ولا خير إلَاّ خيرك، لا إله غيرك، وقال صاحب الهداية: المراد بالغراب في الحديث الأبقع والغداف؛ لأنهما يأكلان الجيف، وأما غراب الزرع فلا، وكذا اسثناه ابن قدامة، وما أظن فيه خلافًا، وعليه يحمل ما جاء عن أبي سعيد عند أبي داود -إن صح- حيث قال فيه: ويرمي الغراب ولا يقتله، وروى ابن المنذر نحوه عن علي ومجاهد، قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإِحرام، إلَاّ ما جاء عن عطاء قال: في مُحْرمٍ كسرَ قرن غراب فقال: إن أدماه فعليه الجزاء، وقال الخطابي: لم يتابع أحد عطاء على هذا، ويحتمل أن يكون مراده غراب الزرع، وعند المالكية اختلاف آخر في الغراب والحدأة، هل يتقيد جواز قتلهما بأن يبتدئا بالأذى؟ وهل
يختص ذلك بكبارهما؟ والمشهور عنهم كما قال ابن شاس: لا فرق، وفاقًا للجمهور.
ومن أنواع الغربان: الأعصم وهو الذي في رجليه، أو في جناحيه، أو بطنه بياض، أو حمرة، وله ذكر في قصة حفر عبد المطلب لزمزم وحكمه حكم الأبقع.
ومنها: العقعق: وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل: سمي بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعم، وبهذا يظهر أنه نوع من الغربان، والعرب تتشاءم به أيضًا، وفي فتاوى قاضي خان الحنفي: من خرج لسفر فسمع صوت العقعق فرجع كفر، وحكمه حكم الأبقع على الصحيح، وقيل: حكم غراب الزرع، وقال أحمد: إن أكل الجيف وإلَّا فلا بأس به.
وقوله: والحدأ بكسر أوله وفتح ثانيه بعدها همزة بغير مد، وحكى صاحب المحكم المد فيه ندورًا، وفي رواية الكشميهني في حديث عائشة: الحدأة بزيادة هاء بلفظ الواحدة، وليست للتأنيث، بل هي كالهاء في التمرة، وحكى الأزهري فيها حدوة بواو بدل الهمزة، وسيأتي في بدء الخلق من حديثها بلفظ: الحديث بضم أوله وتشديد التحتانية مقصور، ومثله لمسلم عن عروة قال: قال قاسم بن ثابت الوجه فيه الهمزة وكأنه سهل ثم أُدغم، وقيل: هي لغة حجازية وغيرهم يقول: حدية، ومن خواص الحدأة أنها تقف في الطيران، ويقال: إنها لا تختطف إلا من جهة اليمين، وقد مضى لها ذكر في الصلاة في قصة صاحبة الوشاح، ويلتبس بالحدأة: الحدأة بفتح أوله فاس له رأسان.
وقوله: "والعقرب" هذا اللفظ للذكر والأنثى وقد يقال: عقربة، وعقرباء، وليس منها العقربان، بل هي دويبة طويلة كثيرة القوائم، ويقال: إن عينها في ظهرها، وإنها لا تضر ميتًا ولا نائمًا حتى يتحرك، ويقال: لدغته العقرب بالغين المعجمة ولسعته بالمهملة، وقد تقدم اختلاف الرواة في ذكر الحية بدلها في حديث الباب، ومن جمعهما والذي يظهر لي أنه عليه الصلاة والسلام نبه بإحداهما على الأخرى عند الاختصار، وبين حكمهما معًا، حيث جمع، قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب، وقال نافع لما قيل له: فالحية؟ قال: لا يختلف فيها، وفي رواية: ومن يشك فيها؟ وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة عن شعبة أنه سأل الحكم وحمادًا فقالا: لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب، قال: وحجتهما أنهما من هوام الأرض، فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام، وهذا اعتلال لا معنى له، نعم عند المالكية خلاف في قتل صغير الحية، والعقرب التي لا تتمكن من الأذى، قاله في الفتح.
قلت: هذا القول -إن كان عند المالكية- في غاية الضعف.
وقوله: "والفأرة" بهمزة ساكنة، ويجوز فيها التسهيل، ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم، إلَاّ ما حكي عن إبراهيم النخعي فإنه قال: فيها جزاء إذا قتلها المحرم أخرجه ابن
المنذر وقال: هذا خلاف السنة، وخلاف قول جميع أهل العلم، وروى البيهقي بإسناد صحيح عن حماد بن زيد قال: لما ذكروا هذا القول ما كان بالكوفة أفحش ردًا للآثار من إبراهيم النخعي لقلة ما سمع منها، ولا أحسن اتباعًا لها من الشعبي لكثرة ما سمع منها، ونقل ابن شاس عن المالكية خلافًا في جواز قتل الصغير منها الذي لا يتمكن من الأذى.
والفأر أنواع منها: الجرذ بجيم بوزن عمر، والخلد بضم المعجمة وسكون اللام، وفأرة الإبل، وفأرة المسك، وفأرة الغيط، وحكمها في تحريم الأكل وجواز القتل سواء، وسيأتي في الأدب إطلاق الفويسقة عليها من حديث جابر، وتقدم سبب تسميتها بذلك من حديث أبي سعيد، وقيل: إنما سميت بذلك لأنها قطعت حبال سفينة نوح.
وقوله: "الكلب العقور" الكلب معروف، والأنثى كلبة، والجمع أكلب وكلاب وكليب بالفتح كأعبد وعباد وعبيد، وفي الكلب بهيمية وسبعية، كأنه مركب، وفيه منافع للحراسة والصيد كما سيأتي في بابه، وفيه من اقتفاء الأثر وشم الرائحة والحراسة وخفة النوم والتودد وقبول التعليم ما ليس لغيره، وقيل: إن أول من اتخذه للحراسة نوح عليه السلام، وقد سبق البحث في نجاسته في باب الطهارة، واختلف العلماء في المراد به هنا، وهل لوصفه لكونه عقورًا مفهوم أولًا؟ فروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: الكلب العقور الأسد، وعن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال: وأيِّ كلب أعقر من الحية، وقال زفر: الكلب العقور هنا الذيب خاصة، وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس، وعدا عليهم وأخافهم مثل: الأسد والنمر والفهد والذيب، هو العقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا الكلب خاصة، ولا يلتحق به في هذا الحكم سوي الذيب، واحتج أبو عبيد للجمهور بقوله عليه الصلاة والسلام:"اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك" فقتله الأسد، وهو حديث حسن أخرجه الحاكم عن أبي نوفل، عن أبي عقرب، عن أبيه، واحتج بقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فاشتقها من اسم الكلب، فلهذا قيل لكل جارح عقور، واحتج الطحاوي للحنفية بأن العلماء اتفقوا على تحريم قتل البازي والصقر وهما من سباع الطير، فدلَّ ذلك على اختصاص التحريم بالغراب والحدأة، وكذلك يختص التحريم بالكلب وما شاركه في صفته، وهو الذيب، وتعقب برد الإتفاق فإن مخالفيهم أجازوا قتل كلِّ ما عدا وافترس، فيدخل فيه الصقر وغيره، بل معظمهم قال: يلتحق بالخمس كل ما نهى عن أكله إلَّا ما نهي عن قتله، واختلف العلماء في غير العقور مما لم يؤمر باقتنائه، فصرح بتحريم قتله القاضيان حسين والماوردي وغيرهما، وفي الأم للشافعي الجواز، واختلف كلام النووي فقال في البيع مرة: لا خلاف بين أصحابنا في أنه محترم، ولا يجوز قتله. وقال في التيمم والغصب: إنه غير محترم، وقال في الحج: يكره قتله كراهة تنزيه، وهذا اختلاف شديد، وعلى كراهة قتله اقتصر الرافعي، وتبعه في