الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعداءِ اللهِ عز وجل، عندهمْ منْ الدَّأبِ والجلدِ والمثابرةِ والطُّموحِ: العَجَبَ العُجابَ. ووجدتُ كثيراً من المسلمين عندهمْ من الكسلِ والفتورِ والتَّواكُلِ والتَّخاذُلِ: ما اللهُ به عليمٌ، فأدركتُ عُمْق كلمةِ عُمَرَ رضي الله عنه.
انغمسْ في العملِ النافعِ
أنَّ الوليد بن المغيرةِ وأُمية بن خَلَفٍ والعاص بن وائل أنفقوا أموالهم في محاربةِ الرسالةِ ومجابهةِ الحقِ {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} . ولكنَّ كثيراً من المسلمين يبخلون بأموالِهمْ، لئلَاّ يُشاد بها منارُ الفضيلةِ، ويُبنى بها صرحُ الإيمانِ {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} ، وهذا جَلَدُ الفاجِر وعجْزُ الثقةِ.
في مذكّراتِ (جولدا مائير) اليهوديةِ، بعنوان (الحقد) : فإذا هي في مرحلةٍ منْ مراحلِ حياتِها تعملُ ستَّ عشرة ساعةً بلا انقطاعٍ، في خدمةِ مبادئِها الضّالَّةِ وأفكارِها المنحرفةِ، حتى أوجدتْ مع (بن جوريون) دولةً، ومنْ شاء فلينظُرْ كتابها.
ورأيتُ ألوفاً منْ أبناءِ المسلمين لا يعملون ولو ساعةً واحدةً، إنما همْ في لهو وأكلٍ وشُربٍ ونومٍ وضياعٍ {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} .
كان عمرُ دؤوباً في عمله ليلاً ونهاراً، قليل النوم. فقال أهلُه: ألا تنامُ؟ قال: لو نمتُ في اللّيلِ ضاعتْ نفْسِي، ولو نمتُ في النهارِ ضاعتْ رعيَّتِي.
في مذكراتِ الهالكِ (موشى ديان) بعنوان (السيفُ والحكمُ) : كان يطيرُ من دولةٍ إلى دولةٍ، ومنْ مدينةٍ إلى مدينةٍ، نهاراً وليلاً، سرّاً وجهراً، ويحضرُ الاجتماعاتِ، ويعقدُ المؤتمراتِ، وينسِّقُ الصَّفقاتِ، والمعاهدات، ويكتبُ المذكّراتِ. فقلتُ: واحسرتاهُ، هذا جَلَدُ إخوانِ القردةِ والخنازيرِ، وذاك عَجْزُ كثيرٍ من المسلمين، ولكنْ هذا جلدُ الفاجرِ وعَجْزُ الثقةِ.
لو كنتُ منْ مازنٍ لم تستبِحْ إبِلي
…
بنو اللَّقطيةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شيْبانا
لقدْ حارب عمرُ العطالة والبطالة والفراغ، وأخرج شباباً سكنوا المسجد، فضربهم وقال: اخرجوا واطلبوا الرِّزق، فإنَّ السماء لا تمطرُ ذهباً ولا فضةً. إنَّ مع الفراغ والعطالةِ: الوساوس والكدَرَ والمرضَ النفسيَّ والانهيارً العصبيَّ والهمَّ والغمَّ. وإنَّ مع العملِ والنشاطِ: السرور والحُبُور والسعادة. وسوف ينتهي عندنا القلقُ والهمُّ والغمُّ، والأمراضُ العقليَّةُ والعصبيَّةُ والنفسيَّةُ إذا قام كلٌّ بدورِهِ في الحياةِ، فعُمِلتِ المصانعُ، واشتغلتِ المعاملُ، وفتحتِ الجمعيّاتُ الخيريَّةُ والتعاونيَّةُ والدعويَّةُ، والمخيماتُ والمراكزُ والمُلتقياتُ الأدبيَّةُ، والدَّوراتُ العلميَّةُ وغَيْرُها.. {وَقُلِ اعْمَلُواْ} ، {فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} ، {سَابِقُوا} ، {وَسَارِعُواْ} ، ((وإن نبيَّ اللهِ داود كان يأكلُ من عملِ يدِه)) .
وللرّاشدِ كتابٌ، بعنوان (صناعةُ الحياةِ) ، تحدَّث عنْ هذهِ المسالةِ بإسهابٍ، وذَكَرَ أنَّ كثيراً من الناسِ لا يقومون بدورِهم في الحياةِ.
وكثيرٌ من الناسِ أحياءٌ، ولكنَّهم كالأمواتِ، لا يُدركون سرَّ حياتِهم، ولا يُقدمون لمستقبلهم ولا لأُمَّتِهمْ، ولا لأنفسِهم خيراً {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} ، {لَاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} .
إنَّ المرأة السوداء التي كانتْ تقُمُّ مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قامتْ بدورِها في الحياةِ، ودخلتْ بهذا الدَّورِ الجنة {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} .
وكذلك الغلامُ الذي صَنَعَ المِنْبر للرسولِ صلى الله عليه وسلم أدَّى ما عليهِ، وكسب اجراً بهذا الأمرِ، لأنَّ موهلته في النّجارةِ {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَاّ جُهْدَهُمْ} .
سمحتِ الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيَّةُ عام 1985 م بدخولِ الدُّعاةِ المسلمين سجون أمريكا، لأنَّ المجرمين والمروِّجين والقَتَلَةَ، إذا اهتدَوْا إلى الإسلامِ، أصبحوا أعضاءً صالحين في مجتمعاتِهمْ {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} .
دعاءانِ اثنانِ عظيمانِ، نافعانِ لمنْ أراد السَّداد في الأمورِ وضبْطِ النفسِ عند الأحداثِ والوقائعِ.
الأولُ: حديثُ عليٍّ، أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهُ:((قُلْ: اللهمَّ اهدنِي وسدِّدْني)) . رواهُ مسلمٌ.
الثاني: حديثُ حُصيْن بن عبيدٍ، عند أبي داود: قال له صلى الله عليه وسلم: ((قلْ: اللَّهمَّ ألهمني رُشدْي، وقِني شرَّ نَفَّسي)) .
إذا لمْ يكنْ عونٌ من اللهِ للفتى
…
فأكثرُ ما يجني عليه اجتهادُهُ
التَّعلُّقُ بالحياة، وعشْقُ البقاءِ، وحبُّ العيْشِ، وكراهِيَةُ الموتِ، يُوردُ العبدَ: الكدَرَ وضِيقَ الصَّدرِ والمَلَقَ والقلق والأرق والرَّهق، وقد لام الله اليهود على تعلُّقِهم بالحياةِ الدنيا، فقال:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .
وهنا قضايا، منها: تنكيرُ الحياةِ، والمقصودُ: أنَّها أيَّ حياةٍ، ولو كانتْ حياة البهائمِ والعجْماواتِ، ولو كانتْ شخصيةً رخيصةً فإنَّهمْ يحرصون عليها.
ومنها: اختيارُ لفظِ: ألفِ سنةٍ لأنَّ اليهوديَّ كان يلقى اليهوديَّ فيقولُ لهُ: عِمْ صباحاً ألف سنةٍ. أي: عِشْ ألف سنةٍ. فذكر سبحانه وتعالى أنهمْ يريدون هذا العمر الطويل، ولكنْ لو عاشوهُ فما النهايةُ؟! مصيرُهم إلى نارٍ تلظَّى {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} .
منْ أحسنِ كلماتِ العامةِ: لا همَّ واللهُ يُدْعى.
والمعنى: أنَّ هناك إلهاً في السماءِ يُدعى، ويُطلبُ منهُ الخيْرُ، فلماذا تهتمّ أنت في الأرضِ، فإذا وكَّلت ربَّك بهمِّك، كشَفَه وأزاله {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .
أخلِقْ بذي الصَّبرِ أنْ يحظى بحاجتِهِ
…
ومُدْمِنِ القرْعِ للأبوابِ أن يلِجا
في حياتِك دقائقُ غاليةٌ
رأيتُ موقفيْنِ مُؤثِّريْنِ مُعبِّريْنِ للشيخِ علي الطنطاويِّ في مذكّراتهِ:
الموقفُ الأولُ: تحدَّثَ عن نفسِه وكاد يغرقُ على شاطئِ بيروت، حينما كان يسبحُ فأشرف على الموتِ، وحُمِل مَغْمِيّاً عليهِ، وكان في تلك اللحظاتِ يُذعِنُ لمولاهُ، ويودُّ لو عادَ ولو ساعةً إلى الحياةِ، ليجدِّد إيمانه وعملهُ الصّالح، فيَصلِ الإيمانُ عنده منتهاه.
والموقفُ الثاني: ذَكَرَ أنه قدِم في قافلةٍ منْ سوريا إلى بيتِ اللهِ العتيقِ، وبينما هو في صحراءِ تبوك ضلُّوا وبَقُوا ثلاثة أيام، وانتهى طعامُهُم واشرابُهُم، وأشرفوا على الموتِ، فقام وألقى في الجموعِ خطبة الوداعِ من الحياةِ، خطبةً توحيديَّة حارَّةً رنَّانة، بكى وأبكى الناس، وأحسَّ أنَّ الإيمان ارتفع، وأنه ليس هناك مُعينٌ ولا مُنقذٌ إلا اللهُ جلَّ في علاه {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} .
يقولُ سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} .
إنَّ الله يحبُّ المؤمنين الأقوياء الذين يتحدَّون أعداءهم بصبرٍ وجلادةٍ، فلا يهِنون، ولا يُصابون بالإحباطِ واليأسِ، ولا تنهارُ قواهُم، ولا يستكينون للذِّلَّةِ والضعْفِ والفشلِ، بل يصمُدون ويُواصلون ويُرابطون، وهي ضريبةُ إيمانِهم بربِّهم وبرسولِهمْ وبدينِهمْ ((المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ والضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ)) .
جُرحتْ أُصْبُعُ أبي بكرٍ رضي الله عنه في ذاتِ اللهِ فقال:
هلْ أنتِ إلا إصْبَعٌ دَمِيتِ
…
وفي سبيلِ الله ما لقِيتِ
ووضع أبو بكرٍ إصبعهُ في ثَقْبِ الغارِ ليحمي بها الرسول صلى الله عليه وسلم من العقربِ، فلُدغ، فقرأ عليها صلى الله عليه وسلم فبرئتْ بإذِن اللهِ.
قال رجلٌ لعنترة: ما السِّرُّ في شجاعتِك، وأنك تغِلبُ الرِّجال؟ قال: ضعْ إصبعك في فمي، وخُذ إصبعي في فمك. فوضعها في فمِ عنترة، ووضَعَ عنترةُ إصبعه في فمِ الرَّجلِ، وكلٌّ عضَّ إصبع صاحبِه، فصاح الرجلُ من الألم، ولم يصبرْ فأخرجَ له عنترةُ إصبعه، وقال: بهذا غلبتُ الأبطال. أي بالصَّبرِ والاحتمالِ.
إنَّ ممَّ يُفرحُ المؤمن أن لُطفَ اللهِ ورحمته وعفوه قريبٌ منه، فيشعرُ برعايةِ اللهِ وولايتِهِ بحسبِ إيمانِهِ. والكائناتُ والأحياءُ والعجماواتُ والطيورُ والزواحفُ تشعرُ بأنَّ لها ربّاً خالِقاً ورازقاً {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .
يا ربّ حمداً ليس غيرُك يُحمدُ
…
يا منْ لهُ كُلُّ الخلائِقِ تصْمدُ
عندنا، العامَّةُ وَقْتَ الحرْثِ يرمون الحبَّ بأيديهمْ في شقوقِ الأرضِ، ويهتفون: حبٌّ يابسٌ، في بلدٍ يابسٍ، بين يديك يا فاطر السماوات والأرضِ {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ {63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} . إنَّها نزعةُ توحيدِ البري، وتوجُّهُ إليهِ، سبحانه وتعالى.
قام الخطيبُ المِصْقعُ عبدُالحميدِ كشكُ - وهو أعمى - فلمَّا علا المِنْبرَ، أخرج منْ جيبهِ سعفة نخلٍ، مكتوبٌ عليها بنفسِها: اللهُ، بالخطِّ الكوفيِّ الجميلِ، ثم هَتَفَ في الجموعِ:
انظُرْ لتلك الشَّجرهْ
…
ذاتِ الغُصُونِ النَّضِرهْ
منِ الذي أنبتها
…
وزانها بالخضِرهْ
ذاك هو اللهُ الذي
…
قُدرتُه مُقْتدِرهْ
فأجْهش الناسُ بالبكاءِ.
إنهُ فاطرُ السماواتِ والأرضِ مرسومةٌ آياتُه في الكائناتِ، تنطقُ بالوحدانيَّةِ والصَّمديةِ والربوبيَّةِ والألوهيَّةِ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} .
منْ دعائمِ السرورِ والارتياحِ، أنْ تشْعُرَ أنَّ هناك ربّاً يرحمُ ويغفرُ ويتوبُ على منْ تاب، فأبشِرْ برحمةِ ربِّك التي وسعتِ السماواتِ والأرض، قال سبحانه:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ، وما أعظم لطفهُ سبحانه وتعالى، وفي حديثٍ صحيحٍ: أنَّ أعرابيّاً صلًّى مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أصبح في التَّشهُّدِ قال: اللهمَّ ارحمني ومحمداً، ولا ترحمْ معنا أحداً. قال صلى الله عليه وسلم:((لقدْ حجرت واسعاً)) . أي: ضيَّقت واسعاً، إنَّ رحمة الهِ وسعتْ كلَّ شيءٍ {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، ((اللهُ أرحمُ بعبادِهِ منْ هذهِ بولدِها)) .
أحرق رجلٌ نفسه بالنارِ فراراً منْ عذابِ اللهِ عز وجل، فجمعه سبحانه وتعالى وقال له:((يا عبْدِي، ما حَمَلَك على ما صنعت؟ قال: يا ربِّ، خِفْتُك، وخشيتُ ذنوبي. فأدخلهُ اللهُ الجنّة)) . حديثٌ صحيحٌ.
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .