الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنا أعرضُ عليك ثلاث حقائق:
الأولى: متى تظنُّ أنك سوف تهدأُ وترتاحُ وتطمئنُّ، إذا لم ترض عن ربَّك وعنْ أحكامِه وأفعالِه وقضائِه وقدرِه، ولم ترض عنْ رزقِك، ومواهبِك وما عندك!
الثانية: هلْ شكرت على ما عندك من النِّعم والأيادي والخبرات حتى تطلب غيرها، وتسأل سواها؟! إنَّ منْ عَجَزَ عن القليلِ، أوْلى أن يعجز عن الكثير.
الثالثة: لماذا لا نستفيدُ من مواهبِ اللهِ التي وهبنا وأعطانا، فنثمِّرُها، وننمِّيها، ونوظِّفُها توظيفاً حسناً، وننقيها من المثالبِ والشَّوائبِ، وننطلقُ بها في هذه الحياةِ نفعاً وعطاءً وتأثيراً.
إن الصِّفاتِ الحميدة والمواهب الجليلة، كامنةٌ في عقولِنا وأجسامِنا، ولكنَّها عند الكثير منّا كالمعادنِ الثمينةِ في التُّرابِ، مدفونةٌ مغمورةٌ مطمورةٌ، لم تجِد حاذقاً يُخرِجُها من الطينِ، فيغسلُها وينقِّيها، لتلمع وتشعَّ وتُعرف مكانتُها.
التَّوارِي من البطْش حلٌّ مؤقَّتٌ ريثما يبرُقُ الفرجُ
قرأتُ كتاب (المتوارين) لعبدِ الغني الأزديِّ، وهو لطيفٌ جذَّاب، يتحدَّث فيه عمَّن توارى خوفاً من الحجاجِ بن يوسف، فعلمتُ أنَّ في الحياةِ فسحةً، وفي الشَّرِّ خياراً، وعنِ المكروهِ مندوحةً أحياناً.
وذكرتُ بيتينِ للأبيورديِّ عن تواريهِ، يقولُ:
تستَّرْتُ مِن دهري بظِلِّ جناحِهِ
…
فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسألِ الأيام عنُي ما دَرَتْ
…
وأين مكاني ما عرفت مكاني
هذا القارئُ الأديبُ اللامعُ الفصيحُ الصَّادِقُ، أبو عمرو بنُ العلاءِ، يقولُ عن مُعاناتِه في حالة الاختبار: «أخافني الحجَّاجُ فهربتُ إلى اليمن، فولجتُ في بيتٍ بصنعاء، فكنتُ من الغدواتِ على سطحِ ذلك البيتِ، إذْ سمعتُ رجلاً يُنشدُ:
رُبَّما تجزعُ النُّفوسُ من الأمـ
…
ـرِ لهُ فُرْجَةٌ كحلِّ العِقالِ
قال: فقلتُ: فُرْجةٌ. قال: فسُررتُ بها. قال: وقالَ آخرَ: مات الحجّاجُ. قال: فواللهِ ما أدري بأيِّهما كنتُ أُسَرُّ، بقولهِ: فرْجةٌ. أو بقولِه: مات الحجّاجُ» .
إنَّ القرار الوحيد النافذ، عند من بيده ملكوتُ السماواتِ والأرضِ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} .
توارى الحسنُ البصريُّ عنِ عين الحجَّاج، فجاءه الخبرُ بموتِهِ، فسجد شكراً اللهِ.
سبحان اللهِ الذي مايز بين خلْقِه، بعضُهم يموتُ، فيُسجدُ غيْرُهُ للشُّكر فرحاً وسروراً {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} . وآخرون يموتون، فتتحوَّلُ البيوتُ إلى مآتِم، وتقرحُ الأجفانُ، وتُطعنُ بموتهم القلوبُ في سويدائِها.
وتوارى إبراهيمُ النَّخعِيُّ من الحجَّاج، فجاءه الخبرُ بموتِهِ، فبكى إبراهيمُ فرحاً.
طفح السرورُ عليَّ حتى إنني
…
منْ عظمِ ما قد سرَّني أبكاني
إنَّ هناك ملاذاتٍ آمنة للخائفين في كَنَف أرحمِ الراحمين، فهو يرى ويسمعُ ويُبصرُ الظالمين والمظلومين، والغالبين والمغلوبين {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} .
ذكرتُ بهذا طائراً يسمَّى الحُمَّرة، جاءت تُرفرفُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالسٌ مع أصحابِه تحت شجرةٍ، كأنها بلسانِ الحالِ تشكو رجلاًَ أخذ أفراخها منْ عشِّها، فقال صلى الله عليه وسلم:((منْ فجع هذه بأفراخِها؟ رُدُّوا عليها أفراخها)) .
وفي مثل هذا يقولُ أحدُهم:
جاءتْ إليك حمامةٌ مُشتاقةٌ
…
تشكو إليك بقلبِ صبِّ واجفِ
منْ أخبر الورْقاء أنَّ مكانكم
…
حَرَمٌ وأنَّك ملجأٌ للخائِفِ
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: واللهِ لقد فررتُ من الحجَّاج، حتى استحييتُ من اللهِ عز وجل. ثم جيءَ به إلى الحجّاج، فلمَّا سُلَّ السيفُ على رأسِه، تبسَّم. قال الحجاجُ: لِم تبتسمُ؟ قال: أعجبُ منْ جُرأتك على اللهِ، ومن حِلْمِ الله عليك. يا لها من نفْسٍ كبيرةٍ، ومن ثقةٍ في وعدِ اللهِ، وسكونٍ إلى حُسْنِ المصيرِ، وطِيبِ المُنقلَب. وهكذا فليكُنِ الإيمانُ.