الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ساكناً يعرفُ مصيرَهُ ومنقلبه، والثاني عاش ممزَّق الإرادةِ، مبعثر الجهدِ، لم يبردْ غليلُه من مرادِه، ولا يعرفْ مستقبلهُ.
عند المسلمين أعظمُ دواءٍ عرفتْه البشريةُ، وأجلُّ علاجٍ اكتشفتْه الإنسانيةُ. إنه الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ، حتى قال بعضُ الحكماءِ: لن يسعد في الحياةِ كافرٌ بالقضاءِ والقدرِ. وقد أعدتُ عليك هذا المعنى كثيراً، وعرضتُه لك في أساليب شتَّى، وأنا على عمْد، لأنني أعرفُ من نفسي ومن كثير مثلي أننا نؤمنُ بالقضاءِ والقدرِ فيما نحبُّه، وقد نتسخَّطُ عليه فيما نكرهُهُ، ولذلك كان شرطُ الملَّةِ وميثاقُ الوحيِ:((أن تؤمن بالقدرِ خيرِه وشره، حلوِه ومرِّه)) .
ومن يؤمنْ بالله يهدِ قلبَه
أسوقُ هنا قصةً لتظهر سعادة من رضي بالقضاءِ، وحيرة وتكدُّر وشكَّ منْ سخِط مِن القضاءِ:
فهذا كاتبٌ أمريكيٌ لامعٌ، اسمُه «بودلي» مؤلّفُ كتابِ «رياح على الصحراءِ» ، و «الرسول صلى الله عليه وسلم» وأربعة عشرَ كتاباً أخرى، وقد استوطن عام 1918 م إفريقية الشمالية الغربية، حيث عاش مع قومٍ من الرُّحَّل البدوِ المسلمين، يصلُّون ويصومون ويذكرون الله. يقولُ عن بعضِ مشاهدِه وهو معهم: هبَّتْ ذات يومٍ عاصفةٌ عاتية، حملت رمال الصحراءِ وعبرتْ بها البحر الأبيض المتوسط، ورمتْ بها وادي الرون في فرنسا، وكانت العاصفة
حارةً شديدةً الحرارةِ، حتى أحسستُ كأنَّ شعْر رأسي يتزعزعُ من منابتِهِ لفرطِ وطأةِ الحرِّ، فأحسستُ من فرطِ الغيظِ كأنني مدفوعٌ إلى الجنون، ولكنَّ العرب لم يشكوا إطلاقاً، فقد هزُّوا أكتافهم وقالوا: قضاءٌ مكتوبٌ. واندفعوا إلى العمل بنشاطٍ، وقال رئيسُ القبيلةِ الشيخُ: لم نفقدِ الشيء الكثير، فقد كنا خليقين بأن نفقد كلَّ شيءٍ، ولكن الحمدُ للهِ وشكراً، فإن لدنيا نحو أربعين في المائة مِن ماشيِتنا، وفي استطاعِتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد.
وثمَّة حادثةٌ أخرى.. فقدْ كنا نقطعُ الصحراء بالسيارةِ يوماً فانفجر أحدُ الإطارات، وكان الشائقُ قد نسي استحضار إطار احتياطيٍّ، وتولاني الغضبُ، وانتابني القلقُ والهمُّ، وسألتُ صحبي من الأعرابِ: ماذا عسى أن نفعل؟ فذكَّروني بأن الاندفاع إلى الغضبِ لن يُجدي فتيلاً، بل هو خليقٌ أن يدفع الإنسان إلى الطيشِ والحُمْقِ، ومنْ ثم درجتْ بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس إلا، لكنها ما لبثت أن كفَّتْ عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفَدَ، وهناك أيضاً لم تثرْ ثائرة أحدٍ منْ رفاقي الأعرابِ، ولا فارقهُم هدوؤهم، بل مضوْا يذرعون الطريق سيراً على الأقدامِ، وهم يترنَّمون بالغناءِ!
قد أقنعتني الأعوامُ السبعةُ التي قضيتُها في الصحراءِ بين الأعرابِ الرحَّلِ، أنَّ الملتاثين، ومرضى النفوسِ، والسكيرين، الذين تحفلُ بهم أمريكا وأوربة، ما هم إلا ضحايا المدينةِ التي تتخذُ السرعة أساساً لها.
إنني لم أعانِ شيئاً من القلق قطُّ، وأنا أعيشُ في الصحراءِ، بل هنالك في جنةِ اللهِ، وجدتُ السكينة والقناعة والرضا، وكثيرون من الناسِ يهزؤون بالجبريةِ التي يؤمن بها الأعرابُ، ويسخرون من امتثالِهِم للقضاءِ والقدرِ.
ولكن منْ يدري؟ فلعلَّ الأعراب أصابُوا كبِد الحقيقة، فإني إذ أعودُ بذاكرتي إلى الوراءِ.. وأستعرضُ حياتي، أرى جلياً أنها كانت تتشكَّلُ في فتراتٍ متباعدةٍ تبعاً لحوادث تطرأ عليها، ولم تكنْ قطُّ في الحُسبانِ أو مما أستطيعُ له دفعاً، والعربُ يطلقون على هذا اللون من الحوادث اسم:«قدَر» أو «قِسْمة» أو «قضاءُ اللهِ» ، وسمِّه أنت ما شئت.
وخلاصةُ القولِ: إنني بعد انقضاءِ سبعةَ عشر عاماً على مغادرتي الصحراء، ما زلتُ أتخذ موقف العربِ حيال قضاءِ اللهِ، فأقابلُ الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة، ولقد أفلحت هذه الطباعُ التي اكتسبتُها من العرب في تهدئِة أعصابي أكثر مما تفلحُ آلاف المسكِّناتِ والعقاقيرِ!
…
اهـ.
أقولُ: إن أعراب الصحراءِ تلقَّنُوا هذا الحقَّ من مشكاةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإن خلاصة رسالةِ المعصومِ هي إنقاذ الناسِ من التِّيهِ، وإخراجِهم من الظلماتِ إلى النورِ، ونفْضِ الترابِ عن رؤوسِهم، ووضعِ الآصارِ والأغلالِ عنهم. إنّ الوثيقة التي بُعِث بها رسولُ الهُدى صلى الله عليه وسلم فيها أسرارُ الهدوءِ والأمنِ، وبها معالمُ النجاةِ من الإخفاق، فهي اعترافٌ بالقضاء وعمل بالدليل، ووصول إلى غاية، وسعي إلى نجاة، وكدح بنتيجة. إن الرسالة الربانية جاءت لتحدد لك موقعك في الكون المأنوس، ليسكن خاطرك، ويطمئن قلبك، ويزول همك، ويزكو عملك، ويجمُل خلقك، لتكون العبد المثالي الذي عرف سرَّ وجوده، وأدرك القصد من نشأته.