الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منْ هذا الضَّنْكِ، وساق لنا التَّنوخيُّ في كتابِه الطويل الشائقِ، أكثَرَ منْ مائتي قصَّةٍ لمن نُكبُوا، أو حُبسُوا أو عُزلُوا، أو شُرِّدُوا وطُردُوا، أو عُذِّبُوا وجُلدُوا، أو افتقرُوا وأملقوا، فما هي إلا أيام، فإذا طلائع الإمداد وكتائب الإسعاد وافتْهم على حين يأس، وباشرتْهم على حين غفلةٍ، ساقها لهم السميع المجيب. إنَّ التنوخيَّ يقولُ للمصابين والمنكوبين: اطمئنُّوا، فلقد سبقكُم فوقٌ في هذا الطَّريقِ وتقدَّمكم أُناسٌ:
صحِب الناسُ قبْلنا ذا الزَّمانا
…
وعناهُم مِنْ شأنِهِ ما عنانا
رُبَّما تُحْسِنُ الصَّنِيع ليـ
…
ـالِيه ولكنْ تُكدِّرُ الإحْسانا
إذنْ فهذه سُنَّةٌ ماضية {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} . إنها قضيَّةٌ عادلةٌ أنْ يُمحِّص اللهُ عباده، وأنُ يتعَّبدهم بالشّدَّةِ كما تعبَّدهُمْ بالرخاءِ، وأنْ يُغايِر عليهم الأطوار كما غاير عليهم الليل والنهار، فلِم إذن التَّسخُّطُ والاعتراضُ والتَّذمُّرُ {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَاّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} .
صنائعُ المعروفِ تقي مصارع السُّوءِ
منْ أجملِ الكلماتِ، قولُ أبي بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه: صنائع المعروف تقي مصارع السوءِ. وهذا كلامٌ يُصدِّقه النَّقلُ والعقلُ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . تقولُ خديجةُ
للرسول صلى الله عليه وسلم: ((كلا واللهِ لا يُخزيك اللهُ أبداً لتصِلُ الرَّحِم، وتحمِلُ الكلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتُعينُ على نوائِبِ الدَّهْرِ)) . فانظُرْ كيف استدلَّتْ بمحاسنِ الأفعالِ على حُسْنِ العواقبِ، وكَرَمِ البدايةِ على جلالِة النهايةِ.
وفي كتاب «الوزراء» للصابي، و «المنتظم» لابنِ الجوزي، و «الفَرَجِ بعد الشِّدَّةِ» للتنوخي قصَّةٌ، مفادُها: أن ابن الفراتِ الوزير، كان يتتبَّعُ أبا جعفرٍ بن بسطامٍ بالأذِيَّة، ويقصدُه بالمكاره، فلقي منه في ذلك شدائد كثيرةً، وكانت أُمّ أبي جعفر قد عوَّدته - منذُ كان طفلاً - أنْ تجعل له في كلِّ ليلةٍ، تحت مخدَّته التي ينامُ عليها رغيفاً من الخبزِ، فإذا كان في غدٍ، تصدَّقتْ به عنه. فلمَّا كان بعد مُدَّة من أذيَّةِ ابنِ الفراتِ له، دخل إلى ابن الفراتِ في شيءٍ احتاج إلى ذلك فيه، فقال له ابنُ الفراتِ: لك مع أُمِّك خُبْزٌ في رغيف؟ قال: لا. فقال: لابُدَّ أن تصدُقني. فذكر أبو جعفر الحديث، فحدَّثه به على سبيل التَّطايُبِ بذلك منْ أفعالِ النساءِ. فقال ابنُ الفراتِ: لا تفعلْ، فإنّي بتُّ البارحة، وأنا أُدبِّرُ عليك تدبيراً لو تمَّ لاستأصلْتُك، فنمتُ، فرأيتُ في منامي كأنَّ بيدي سيفاً مسلولاً، وقد قصدتُك لأقتلك به، فاعترضتْني أُمُّك بيدِها رغيفٌ تُترِّسُك به منّي، فما وصلتُ إليك، وانتبهتُ. فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما، وجعل ذلك طريقاً إلى استصلاحِه، وبذل لهُ منْ نفْسِه ما يريدُه منْ حُسْنِ الطاعةِ، ولم يبرحْ حتى أرضاهُ، وصارا صديقيْن. وقال له ابنُ الفراتِ: واللهِ، لا رأيت منِّي بعدها سُوءاً أبداً.