الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإعجاز في التصوير القرآني
مدخل
…
الإعجاز في التصوير القرآني:
كان النظم أحد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم عند كثير من العلماء والنقاد قبل الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي أفاض فيه، وفصل القول فيه تفصيلًا وتحليلًا يقوم على العمق والاستيعاب والتذوق الأدبي، فتحقق على يديه من التضويح الدقيق لمفهوم النظم، وتحديد لأصوله وقواعده وسماته وخصائصه، مع التفسير والتحليل والتطبيق وغير ذلك، مما لم يكن موجودًا على مثاله من قبل، ولا عند السابقين عليه في تعرضهم لقضية النظم، واعتمد عبد القاهر في كل ذلك على ذوقه الأدبي المحنَّك والمرهف، وحسَّه النقدي المعمور بالتجارب والممارسة والاستيعاب، والتراكم الفكري والثقافي والعملي والروحي، مما أدَّى إلى إصابته وتوفيقه في التعرف على مصادر الجمال في النص الأدبي، وعلى روعة الجلال في القرآن الكريم، بصورة عميقة ودقيقة، وشاملة، لم تكن عند الذين سبقوه من النقاد والعلماء بهذه الكيفية، بل كانت دونها بكثير، وخاصة في كتابيه المشهورين:"دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة".
تحدَّث عبد القاهر عن الصورة الأدبية في موضعين، الموضع الأول: في فصل قضية النظم، التي شغلته كثيرًا، حتى يظن القارئ أنه لم يخرج عنها، ولم يتعدَّ إطارها، لكن من تأمل في تحليله، وأمعن النظر في عرضه وتطبيقاته، لوجده يتحدث عن الصورة الأدبية حديثًا عميقًا، لم يعهد من قبل؛ فهي تتولد عنده من خيوط النظم، وتستمد روافدها من العلاقات بين أجزاء النظم وأركانه، كما يظهر ذلك من خلال حديثه عن النظم، يقول: "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا
يعترضه الشك، أنه لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبني بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب تلك، وإذا كان كذلك، فعلينا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما محصوله"1.
ويوضح ذلك أكثر فيقول: "إنك ترى الرجل قد يهتدي في الأصباغ، التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه، الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها، وكيفية مزجها لها، وترتيبها إياها، إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، وكذلك حال الشاعر في توخِّيهما معاني النحو ووجوهه، التي علمت أنها محصول النظم"2.
الموضع الثاني: عندما عرض عبد القاهر قضية السرقات الأدبية تعرض للصورة الأدبية، فوضح أن التغاير في عرض وأسلوب المعنى الواحد بأسلوب آخر يكون حتمًا نتيجة للاختلاف في هيئة الصورة الأدبية، في أسلوب كل من الشاعرين، مع أن المعنى الأصلي كان واحدًا، ولا يمكن أن يتم الاتفاق إلا في حالة واحدة؛ وذلك حينما يغيّر الشاعر المتأثر واللاحق كل لفظ عند الشاعر السابق بلفظ يشبه الأول في المعنى، وهكذا في بقية الألفاظ، حتى يتحقق الإنفاق التام بين اللاحق والسابق، لأن الشاعر الثاني واللاحق والمتأثر لم يعرض المعنى في صورة جديدة.
1 دلائل الإعجاز: ص97.
2 المرجع السابق: ص123.
لذلك نجد عبد القاهر يتَّهم من سبقه بالخطأ في فهم الصور؛ فيقول: "وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين؛ فلما رأوا، إذا قيل في الكلمتين أن معناهما واحد، لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن للمعنى في أحدهما حال، لا يكون له في الأخرى، ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل، وقد غلطوا فأفحشوا؛ لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين؛ مثل صورته في الآخر البتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت، فيضع مكان كل لفظة منه لظفة في معناها، ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن نقول في بيت الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها
…
واجلس فإنك أنت الآكل اللابس
وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكونبه اعتداد
…
ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من وصف، بأنه أخذ المعنى، وذلك لأنه لا يكون بذلك صانعًا شيئًا، يستحقّ أن يدّعي من أجله واضع كلام، ومستأنف عبارة، وقاتل شعر"1.
لذلك انقسم عنده من تناول معنى متحدًا إلى قسمين: قسم يكون فيه أحد الشاعرين قد أخفق في تصويره، لأنه أتى بالمعنى غفلًا ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب، وقسم ترى فيه شاعرًا
1 دلائل الإعجاز: 429، 431، تناولت ذلك بالتفصيل في كتابي الصورة الأدبية تأريخ ونقد، من 56- 88.
منهما، قد صنع في المعنى وصور1.
فالإمام عبد القاهر كما ترى قد قصر النظم على التصوير الأدبي، بحيث لا يتعدَّاه إلى غيره، وجعل النظم بهذه الكيفية هو الوجه في الإعجاز القرآني، لكنني أختلف معه في هذا التعميم والإطلاق، لأن النظم من وجهة نظري قد يكون حقلًا خصبًا للتصوير الأدبي؛ إذا اجتمعت فيه روافد البلاغة وعناصر الجمال في الأدب، وقد يكون النظم خاليًا من كل ذلك، فلا يكون موطنًا للتصوير الأدبي؛ فيعتمد على أسلوب علمي، ونظم كلمات دقيقة في معناها اللغوي، بحيث لا تتعدَّد المعاني في اللفظ، ولا يتراسل بالإيحاء والظلال، بل تؤدي الألفاظ في النظم معانيها اللغوية والحقيقة بدقة وإحكام، لتنتهي إلى نتيجة علمية بحتة، أو برهان عقلي يعتمد على مقدمات محدودة، ومسلمات يقينية، لا تفسح لإيحاء أو تلميح، ولا تتراسل بظلال أو أضواء، بل تكون واضحة صريحة، ونافذة دقيقة في أداء معانيها؛ فلا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا الأسلوب العلمي قائم على النظم بين الألفاظ على النحو السابق، كما لايستطيع أحد أن يستمد من روافده صورة أدبية، أو يتولد منه تصوير أدبي بحال، وقضية النظم بهذه الكيفية والعموم عند عبد القاهر كانت أحد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، مما جعلني اختلف معه في إطلاقه وعمومه على النحو الذي وضحته آنفًا.
لذلك جعلت التصوير القرآني واحدًا من الوجوه المتنوعة للإعجاز في القرآن الكريم، بل يعدُّ عندي من أدقِّ الوجوه في الوقوف على أبعاده، وفي معرفة أسرار الجلال فيه، لأن روافد التصوير القرآني
1 دلائل الإعجاز: 429، 431، الصورة الأدبية تاريخ ونقد: 56- 88.
وعناصره كثيرة ومتنوعة، فلا تقتصر على الخيال بصوره المختلفة في أبواب "علم البيان"؛ كالتشبيه، والمجاز، والاستعارة التصريحية والمكنية، والكناية، مما يدخل في مفهوم الصورة الأدبية ومقوماتها عند معظم النقاد في العصر القديم والعصر الحديث، ولا تقتصر على روافد الصورة المستمدة من أبواب "علم المعاني" كالتقديم والتأخير والحذف والذكر والتعريف والتنكير والقصر والالتفات وغيرها، كالشأن في مفهوم الصورة الأدبية عند النقاد في النقد القديم، وخاصة عند عبد القاهر الجرجاني، ولا تقتصر على الروافد المستمدة من الإيقاع والموسيقى الداخلية والخارجية والنسق، كالشأن في مفهوم الموسيقى في النقد القديم والحديث معًا، بل روافد التصوير القرآني تعتمد عليها وعلى غيرها، فهي أعظم من ذلك وأكثر من ذلك مما نعلمه وما لا نعلمه، والله جل جلاله وحده يعلمه، كالإعجاز في تصوير الحقائق العلمية والقيم التشريعية والقيم الخلقية وغيرها مما سنوضحه في الفصول اللاحقة إن شاء الله تعالى، بل التصوير القرآني أجل من ذلك حينما تقشعر القلوب من جلاله، فيغمر العاطفة والوجدان والشعور والعقل بالجلال والرهبة والرغبة والهيبة والخوف، كما وضحنا ذلك في الفرق بين الجمال والحلاوة والجلال، حينذاك يقف الإنسان عاجزًا عن معرفة مصادره المحسوسة، لكن يعدها واحدة بعد الأخرى، فيضطر أن يعترف بالجلال الذي امتلأ به قلبه ووجدانه، وامتلك عليه عقله وعوارفه، قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] ،
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] .
لهذا آثرت التعبير مع القرآن الكريم بـ" التصوير القرآني"، لتفرده بالإعجاز فيه، فهو أسمى ما عرفه البلغاء على الإطلاق قديمًا وحديثًا وفي كل عصر، على أن ينسب التصوير إلى القرآن؛ فينسب المصطلح إلى أصله، وما هو له، ويتصف الموصوف وهو "التصوير" بصفته وهو "القرآني" ليتصف بصفاته، وتنسحب عليه سماته وخصائصه، فنقول:"التصوير القرآني، ليكون خبرًا تتم به الفائدة، أي: "هذا هو التصوير القرآني"، أو يضاف "تصوير" إلى "القرآن"، فتقول: "تصوير القرآن"؛ فيأخذ المضاف حكم المضاف إليه، ويتصف بسماته وخصائصه، ليكون خبرًا تمَّ به الفائدة، أي: "هذا هو أدب القرآن"، أو خبرًا عن سمات الإعجاز، والتقدير: "الإعجاز في التصوير القرآني"، وهو عنوان الكتاب وأشرت إليه في مقدمته، فهذا أو ذاك هو الصنيع الوحيد والصحيح والأدق والأولى بجلال القرآن وقدسيته؛ لأنه كلام الله الخالق، وكتابه المقدس، وهو يختلف تمامًا عن كلام خلقه من البشر، وليس أدب القرآن مثل أدب خلق الله من الناس، حينئذ يكون التصوير منسوب إلى مصدره الإلهي الأعظم، فهو مختلف عن غيره من التعبيرات والمصطلحات النقدية في أدبهم، وعن الأوصاف التي وصف بها النقاد "التصوير القرآني" من القيم الفنية والبلاغية في الأدب والنقد، وأختلف معهم في كل ذلك؛ فئلا أعبّر مثهلم كما يعبرون فيقولون: "التصوير الأدبي في القرآن الكريم"؛ لأن هذا السلوك يقتضي تطبيق هذا المصطلح النقدي في الأدب الإنساني للبشر على
القرآن الكريم، وعلى تصويره، مما يجعل القرآن الكريم -معاذ الله تعالى- نصًّا أدبيًّا مثل غيره من النصوص الأدبية شعرًا ونثرًا، يجري عليه أحكامها سواء بسواء، وهذا من وجهة نظري مرفوض عندي بكل مقومات الرفض ووسائله، لأنه لا يتناسب مع قداسة القرآن الكريم، لأنه لا يصح أن يوضع في مجال الموازنة، ولا المعادلة، ولا المقارنة، ولا التفاضل، حتى ولو عبر بعض النقاد بأن القرآن الكريم هو النص الأدبي الأول، مما يقتضي أن ما بعده الثاني والثالث؛ فقد وضعه في كفف الموازين النقدية مع النصوص الأدبية؛ لخلق الله جل جلاله كما يقول أحدهم بالنص:"منذ بدء الحياة الإسلامية، إذن أخذ القرآن مكان الصدارة بصفة كونه" النص الأدبي الأول "لهذه الأمة"1، ويقول أيضًا في موطن آخر:"ودارس القرآن من الوجهة الأدبية عليه ثانيًا أن يذكر أن القرآن نصّ أدبي، بل هو كتاب الأدب العربي الأول"2.
وإذا تسامح بعضهم -وهو دون الأولى والأفضل- في قولهم: "التصوير الأدبي في القرآن الكريم"، وهو يريد أن يستخرج سمات القرآن في الصورة الأدبية، التي تختلف عن غيرها من التصوير الأدبي؛ فهذا أيضًا عندي غير مقبول، لأن هذا المصطلح يكون قاصرًا وغير دقيق وواضح، لأن القائل به قد وضعه في مقام سؤال، يحتاج إلى إجابة تكشف الغموض فيه، وبه تتم الفائدة كالشأن في خبر المبدأ، فإذا قلت: التصوير الأدبي في القرآن الكريم، يترتب عليه أسئلة، وهي: ما سمات هذا التصوير؟ وما صفته التي تريد تحديدها؟ وما مقوماته وعناصره؟
1 من الوجهة الأدبية في دراسة القرآن الكريم: د. السيد تقي الدين ص37 ج1، مكتبة نهضة مصر بالقاهرة، رقم الإيداع 2280.
2 المرجع السابق: ج1 ص8.
وما أشبه ذلك من الأسئلة، فتأتي الإجابة مكملة للمصطلح، وعلى سبيل المثال تقول: التصوير الأدبي في القرآن الكريم معجز، أو سماته هكذا، وهكذا، وهكذا، وهو مرفوض أيضًا، ولا يصح أن نتعامل به مع كتاب الله المقدس حتى لو جعله بعضهم عنوانًا لبحثه أو كتابه المنشور.
وكذلك ما جاء على مثال: "الصورة الأدبية في القرآن الكريم" من المصطلحات النقدية التي تعامل بها النقاد مع الأدب ونقده بصفة عامة مثل:
"التصوير الفني في القرآن"1، و"الفن القصص في القرآن"2، و"القرآن
…
ونظرية الفن"3، و"من الوجهة الأدبية في دراسة القرآن الكريم"4، و"التعبير الفني في القرآن الكريم"5، وغيرها من المصطلحات عند كثير من النقاد المحدثين والمعاصرين، فإنهم يقولون: "الموسيقى في القرآن"، و"الإيقاع في القرآن"، و"الأسلوب في القرآن"، و"التعبير في القرآن"، و"النظم في القرآن"، و"الوحدة العضوية في القرآن"، و"الفن في القرآن"، و"البيان في القرآن"، و"الوجدان الفني في القرآن"، وهكذا في بقية المصطلحات النقدية في الدراسات الأدبية والنقدية في الأدب العربي الحديث ونقده؛ فما خلا كتاب في النقد الأدبي الحديث تعرَّض للقرآن إلا تجد فيه مثل هذه التعبيرات والمصطلحات النقدية، التي يتعامل بها النقاد مع كتاب الله
1 عنوان كتاب للمرحوم الشيخ سيد قطب.
2 عنوان كتاب للدكتور محمد خلف الله أحمد.
3 عنوان كتاب للدكتور حسين علي محمد، مطبعة وهبه بالقاهرة 1413 هـ، 1992م.
4 عنوان كتاب للدكتور السيد تقي الدين، مكتبة نهضة مصر بالقاهرة.
5 عنوان كتاب للدكتور بكري شيخ أمين، دار الشروق -بيروت 1976م.
المقدس جل جلاله "القرآن الكريم".
ولا أقول الأولى والأفضل والأدق، بل أقول: الصحيح والحق، ألا نتعامل مع القرآن الكريم بهذه المصلطحات النقدية، كما وضحت ذلك في التعبير بـ "التصوير الأدبي في القرآن الكريم" للأسباب التي ذكرتها بالتفصيل، ولدفع الغموض والنقص والقصور الظاهر في التعبير بها؛ فنقول مع القرآن الكريم:
"التصوير القرآني"، و"الأسلوب القرآني"، و"النظم القرآني" و"التعبير القرآني"، و"الموسيقى القرآنية"، و"الإيقاع القرآني" و"النسق القرآني"، و"البيان القرآني"، و"القصص القرآني"، و"الوحدة القرآنية" وهكذا مع جميع المصطلحات النقدية، فتكون على سبيل ذكر الموصوف والصفة المنسوبة إلى القرآن كما سبق، أو على سبيل الإضافة، إضافة المصطلح إلى القرآن "تصوير القرآن"، وقد وضحت ذلك.
ومن هنا تتحول المصطلحات النقدية من مفهومها العام بعد نسبتها إلى القرآن الكريم، إلى مفهوم مقيد بالقرآن، يضفي عليها قدسيته وجلاله وروحه وسماته وخصائصه؛ فتكون مصطلحات قرآنية، لا أدبية ولا نقدية، لأن القرآن الكريم كلام الله الخالق ذي الجلال والإكرام، ومهما بلغت فنون الأدب القمة، فهي صادرة عن خلق الله من البشر؛ فقد أبدعه الله تعالى، وخلقه في أحسن تقويم.
والقرآن الكريم حين خاطب العقل والشعور والعاطفة والوجدان، والروح والقلب جميعًا، خاطبها بأجل الوسائل في التعبير، فبهرها بـ "التصوير القرآني"، التي تلتقي فيه كل روافد الإعجاز، ليكشف عنها
أروع كشف، في جلاء ووضوح، وتأثير وإقناع في التصوير القرآني قمة الإعجاز، لأنه بمعناه الواسع العميق والشامل الثري بقيمه الكثيرة، يفيض بكل ذلك، فهو جسد وروح معًا، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، ولا نقصد بالتصوير كما وضحت قبل ذلك الصور التقليدية والجزئية التي اقتصرت على ألوان البيان، كالتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها، أو اقتصرت على اللفظ والعبارة، أو اقتصرت على النظم في علاقة الكلمات بمعانيها وترابطها، دون الأبعاد النفسية والشعورية، التي يعلمها خالق النفس والشعور سبحانه وتعالى، بل الأمر أعمق من كل ما سبق، وأرحب أفقًا، إن التصوير القرآني كائن حي خالد، يلتقي فيه ما اجتمع في الإنسان من كل وسائل الحياة في ارتباط شكله بمضمونه جملة وتفصيلًا، وما وراء ذلك من مشاعر النفس وخوالجها، وعواطلها والصدق فيها، بل الحقيقة الكبرى التي يعلمها الله وحده وغيرها من مقومات التصوير وعناصره، التي تملك زمام التأثير على النفس وتدفع صاحبها إلى الاقتناع العقلي على سبيل الاعتقاد الصادق، والإيمان الراسخ.
والتأثير والإقناع هما الغاية من الإعجاز في التصوير القرآني، وبهما تحول الوليد بن المغيرة من معاند فاتك إلى مهزوم ضعيف، يسترحم محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويضع كفه على فمه الشريف فزعًا مذعورًا ويقول:"أمسك عليك يا ابن أخي"، ثم يذهب إلى صناديد الكفر، الذين كانوا ينتظرون منه الفتك به والقضاء عليه؛ فإذا بالحق ينطق به قلبه وعقله، وينطلق على لسانه، ليجري مجرى المثل والحكمة، وإن كان المثل من الكافر فيصف التصوير القرآني بقوله:"إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى"،
وصدق الله العظيم إذ يقول تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] .