الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضية الحلاوة:
انتهى النقد الأدبي إلى أن الجمال في الأدب له قواعد وعناصر وأصول تقوم على الأسباب والمسبّبات، والعلل والتعليل، وإقامة الأدلة والمقارعة بالحجة والدليل، حتى ينتهي الأمر بالقبول والتسليم، أو بالرفض والإنكار والجدل، لكن قضية الحلاوة في النقد الأدبي تختلف عنها كثيرًا، فقد يكون الناقد مبهورًا بحلاوة النص بحاسته النقدية وذوقه الأدبي؛ فيحكم عليه بأن جودته وصلت إلى القمة عند الجميع؛ فإذا اجتمع النقاد على أن يستخرجوا منه عناصر الجودة، فلا يجدون منها إلا القليل من أصول وقواعد قضية الجمال، لكن الأسباب الرئيسة التي سمت به إلى الحلاوة، إذا فتشوا عنها؛ فلن يجدوا منها سببًا حسِّيًّا، يعدونه على أصابع اليد الواحدة، ولا دليلًا يدفعون به الخصوم، ولا حجة ترد المنكرين؛ لكنه على الرغم من أنفه يحكم الناقد والخصم على النص الأدبي بالحلاوة دون أن ينتزع منه عناصرها ومقوماتها، ودون أن يقف على سبيل التحديد والحصر على أسباب الحلاوة، ويخفق تمامًا في الوقوف على الأسباب والمسببات كلها، ويفتقد في المناقشة أن يستنجد بأدلة يحتج بها، أو يعتمد على تعليل يقنع به الخصوم، وتراه في كل محاولاته ينتهي القول بالحكم عليه بالحلاوة، التي تنطبق على كل أطرافه وحواشيه، ولا ينهض بحال أن يصفه بالرداءة والقبح، وإلا كان مفتقدًا لمقاييس النقد الأدبي، وحاسة الذوق الفني، وتجد ذلك واضحًا عند الأدباء والشعراء، وعند الشعراء النقاد حين يتعرضون لنصوصهم الأدبية، وقد ناقشت ذلك في كتابي: "الصورة الأدبية
…
تأريخ ونقد"، وسأكتفي بموقف واحد فقط أعين القارئ فيه على توفير الجهد في البحث والدراسة والفهم والتحصيل والإقناع، هذا الموقف لناقد كبير من النقاد
العرب في النقد الأدبي القديم، وهو صاحب الوساطة القاضي عليبن عبد العزيز الجرجاني، وإن اشترك معه غيره في قضية الحلاوة كالآمدي، وعبد القاهر، وابن خلدون، وغيرهم.
يقول القاضي الجرجاني: "وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتقف بالتمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة وتناسب الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بـ "الحلاوة"، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم -وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت -لهذه المزية سببًا، ولما خصت به مقتضيًا، ولو قيل لك كيف صارت هذه الصورة وهي مقصرة عن الأولى في الإحكام والصنعة، وفي الترتيب والصبغة، وفيما يجتمع أوصاف الكمال، وينتظم أسباب الاختيار، أحلى وأرشق وأحظى وأوقع، لأقمت السائل مقام المتعنِّت المتجانف، ورددت المستبهم الجاهل، ولكن أقصى ما في وسعك، وغاية ما عندك، أن تقول موقعه في القلب ألطف، وهو بالطبع أليق، كذلك الكلام منثوره ومنظومه، ومجمله ومفصله، تجد منه المحكم الوثيق، والجزل القوي، والمصنع المحكك، والمنطق الموشح، قد هذب كل التهذيب، وثقف غاية التثقيف، وجهد فيه الفكر، وأتعب لأجله الخاطر، حتى أضحى ببراءته عن المعايب، واحتجز بصحته عن المطاعن، ثم تجتد لفؤادك عنه نبوة، وترى بينه وبين ضميرك فجوة"1.
ثم يضرب صورة للجميل المثقل بالبديع من البيان، والمكتظ بشتَّى فنون البديع، وصور أدبية أخرى لما هو دون ذلك، مجردة من هذه
1 الوساطة للقاضي الجرجاني ص37.
الأثقال والأحمال من علم البيان وعلم البديع، تعتمد على اللفظ السهل القريب، والنظم الخالي من الصنعة والتهذيب، حتى كادت أن تخلو من صور البيان ومحسنات البديع، ولا تجد الصورة الأدبية لها طريقًا إلى القلب، ولا تهز وترًا من أوتار العاطفة، بينما تجد للصورة الأدبية الثانية لها سحرًا وبراءة في القلب؛ فتستريح إليها النفس، وتنشي العاطفة لها نشو، وتهتزّ لها طربًا؛ فيقول القاضي: "وقد تغزَّل أبو تمام فقال:
دعني وشرب الهوى يا شارب الكأس
…
فإنني للذي حسيته حاسي
لا يوحشنك ما استسمجت من سقمي
…
فإن منزله من أحسن الناس
من قطع أوصاله توصيل مهلكتي
…
ووصل ألحاظه تقطيع أنفاسي
متى أعش بتأميل الرجاء إذا
…
ما كان قطع رجائي في يدي باسي
فلم يخل بيت منها من معنى بديع، وصفة لطيفة، طابق وجانس، واستعار فأحسن، وهي معدودة من المختار من غزله -وحق لها-، فقد جمعت على قصرها فنونًا في الحسن، وأصنافًا من البديع، ثم فيها من الإحكام والمتانة والقوة ما تراه، ولكن ما أظنك، تجد له من سورة الطرب، وارتياح النفس ما تجده لقول بعض الأعراب: