الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وينشر الأمن والألفة، فتزداد الثقة ويحيا الضمير، وتصفو الروح، ويزكو القلب، فتتقدم الأمم، وتنهض المجتمعات، وما أحوج الأمم الراقية إلى هذا الخلق الفاضل، الذي تقام عليه الصروح، وتنهض به الأمم.
الأمل الكاذب:
إلى هؤلاء الطغاة الذين ينشدون البطولة في الأمل الكاذب، ويحلمون بالمجد وراء السراب الخادع، ويعتقدون أنهم فوق البشر؛ وإلى من حولهم من أذناب، ينفخون فيهم، ويتخذون منهم أولياء ومصلحين ومجددين؛ فهم كما قال الله عز وجل:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] .
يصور القرآن الكريم إليهم هذا السراب الخادع والأمل الكذاب في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] .
الإعجاز في التصوير القرآني:
سما التصوير القرآني إلى حدِّ الإعجاز الإلهي في الإبداع الرباني؛ لتفيض كل صورة قرآنية بأروع ما عرفته البشرية من العمق والدقة والإحاطة والشمول، وشرف الغاية ونبل المضمون، وروعة التأثير على النفس والعاطفة، وقوة الإفحام بالحجة الدافعة التي يخرُّ لها العالم ساجدًا لربه تعالى.
وحينما يصور القرآن الكريم أعمال الكافرين الحسنة التي يحسبون أنها ستنفعهم يوم القيامة، فتخفف عنهم شيئًا من العذاب، فيتعلَّقون بها كما يتعلق الظمآن في اليوم القائظ بالسراب الخادع في الصحراء القاسية الجافة؛ فيزداد ندامة وحسرة، ويبوء بالخسران المبين كما آية النور السابقة.
فقد صور القرآن الكريم في هذا التشبيه المعنى الذهني المجرد في صورة محسة تدرك بالحواس لا بالعقل وحده؛ فجاءت أعمال الذين كفروا في الدنيا من حسن المعاملة، وبذل المال، وقول المعروف، وصلة القربى، والإحسان للناس، وغيرها مما يعلقون عليها الأمل والنفع، فإذا بهم لا تنفعهم في الآخرة؛ فلم يجدوا فيها ثوابًا يعينهم على هول يوم القيامة، وهم في أشد الحاجة إلى ذلك، ثم جاء التشبيه فصور المشبه به: هذه المعاني الفكرية في صورة تدرك بالحس، وهي صورة السراب، الذي يتراءى في الصحراء ماءً للرائي، فيتلهف إليه الظمأن بين أحشائه، حتى إذا ما انتهى إليه لم يجد شيئًا، وإنما يجد هولًا وعذابًا وعقابًا شديدًا.
وبذلك تتحرك هذه المعاني في مشهد حتى يموج بالحيوية والحياة والجدة والحركة، من خلال أدواته التي يسمع وقعها الأليم، وفي دقات القلب السريعة، وفرقعات السير وضجيجه؛ فترى العين هذه المعاني من خلال الظلال والألوان: ترى طريقًا وشخصًا يطويها، وصحراء واسعة وضبابًا حينًا، وشمسًا حارقة أحيانًا، وسرابًا يراوغ العين، كما يتذوق مرارة الجوع، وحرقة المعاناة والكد، ولظى المفاجأة، وخيبة الرجاء.
الغاية من هذه الصورة القرآنية:
يجتمع الطرفان "المشبه والمشبه به" المتقابلان في غاية واحدة: الصورة الذهنية الفكرية المجردة، وهي الأعمال الحسنة الخاسرة للذين كفروا، والصورة المرئية المحسة، وهي السراب الخادع في الصحراء القاسية، فالصورتان هنا يجمعهما معنًى واحد، وهو أن الكافر لا ينتفع بشيء من أعماله الحسنة في الدنيا ولا في الآخرة، مع أنه في أشدِّ الحاجة إليها حينئذ، كما يتعلق الظامئ بالسراب وانخداعه به، فهو متلهف به يعلق عليه حياته، وقد عبَّر عن هذه الغاية الرماني بإيجاز فقال:"وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة"1.
منابع التصوير القرآني وعناصره:
روعة الإعجاز في التصوير القرآني تعتمد على منابع حية وثرية، وعناصر عميقة فريدة، هي في ذاتها غاية لأداء المراد منها: فالكافرون في أشد الحاجة للانتفاع بالأعمال الحسنة آنذاك من المؤمنين، والأعمال -أي: الحسنة لا السيئة- لها دورها الكبير في كمال الصورة وعمقها، والسراب لا الماء؛ لأن السراب هو العدم والخداع، والأمل الضائع، بقيعة أي بصحراء بواد غير ذي زرع ولا بحقل، ولا بطريق تحفه المزارع؛ لأن الحاجة إلى الماء في الصحراء أشدّ، والحرص على تأمينه ووجوده أعظم؛ فمن يسر في الوادي وبين المزارع يجد الماء دائمًا بين مرحلة وأخرى، والحسبان لا اليقين؛ فلو وجد الماء على سبيل اليقين لتحقق الأمن، وقل الظمأ، وخفت المعاناة، وهدأ الجهد في سبيله، والظمآن: أي العطشان عطشًا شديدًا، وحاجة الظمآن إلى الماء كحاجة الجسد إلى الروح؛ فلا
1 ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: للخطابي والرماني والجرجاني ص 82.
حياة للجيد بلا روح، وإلا كان جثة هامدة، كما أن الرّيّ يرد الروح إلى الجسد، فيعيد إليه الحياة من جديد؛ فلو حلَّ محله لفظ إنسان لما أوحي بهذه المعاني العميقة والحسية، و"ماء": لأن فيه الحياة، وكم يتمنى العطشان أن يرى الماء بعينيه؟ فما بالك حين يروي ظمأه؟ إنه الحياة!، ولو حل شيء مكان الماء لما عمرت الصورة بالخصوبة والثراء، ولما اتسعت للإحاطة والاستيعاب، ولما نبضت بالوحي والإشارة، و"حتى": تفيد أن غاية الظامئ الحبيبة إلى نفسه هي الماء، لا يريد غير ذلك، فما بالك إذا خاب الرجاء، وباءت المفاجأة بالفشل، فتكون الطامة الكبرى، و"إذا": التي تدل على التحقيق والإصرار على الوصول إلى السراب، والحصول على الماء، لأن العطشان لا يستغني عنه بحال، كما لا يستغني الجسد عن الروح، ولم يجد شيئًا؛ فجاءت شيئًا في سياق النفي؛ لتدل على العدم المطلق؛ فلا شيء مطلقًا؛ فلو حل الماء محله لبقيت هنا بوارق الأمل في أن يجده بعد ذلك، أو يجد جزءًا منه، قال الرماني:"ولو قيل يحسبه الرائي ماء ثم يظهر أنه على خلاف ما قُدِّر لكان بليغًا، وأبلغ منه لفظ القرآن؛ لأن الظمآن أشد حرصًا عليه وتعلق قلبه به"1، ووجد الله عنده: المراد وجد عقاب الله وعذابه؛ لكن التصوير القرآني جعل في ذكر الله جل جلاله من الرهبة والخوف مما يبهت الكافر ويمحقه في إنكاره لوجود الله عنده، بعد أن أنكر حساب الله وعقابه، ثم يفاجأ بعد الرغبة والمشقة بتلك الحقيقة القاهرة، وهي وجود الله أمامه وهو سريح الحساب، وقوله تعالى:{فَوَفَّاهُ حِسَابَه} لتوحي الفاء بسرعة العقاب، وعاقبة العمل السيء، فمعناها الترتيب والتعقيب؛ فتدلُّ على تلاحق العذاب بلا ترتيب، لينزل به بمجرَّد تبدُّد الأمل وانعدام الرجاء، و"وفاه": لا
1 ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 82.
أعطاه، لأن العطاء قد يقلّ عما يجب أو يزيد، بينما الوفاء يكون بميزان دقيق في إعطاء الشخص ما يستحق دون زيادة أو نقصان، قال تعالى:{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أي: بأن يأخذ المكيال حقّه موفى بلا زيادة ولا نقصان، وحينما تضاف التوفية إلى الله تعالى كما في إضافة ضميره إليها، يكون العدل والإنصاف والحساب الدقيق:{لَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .