الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسماء والماء لنداء الله تعالى لها، فإذا بالأرض تبتلع الماء، والسماء تكفُّ عن المطر، والسفينة ترسو على الأرض، فتستوي على الجودي بسرعة، فتتسلط عليها قوى كبرى غير ظاهرة للعيان، يسخرها الله عز وجل لتلبي النداء في لمح البصر، ثم تأمل التشخيص في التصوير القرآني الذي حول مظاهر الطبيعة إلى قوى حية جبارة لها إرادتها القوية والفاعلة يأمرها الله عز وجل فتستجيب طائعة لأمر الله تعالى، قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] ، وما أروع التصوير القرآني في بناء الفعل للمجهول وطي ذكره في توجيه اللعنة والبعد للقوم الظالمين، لأن رحمة الله تعالى سبقت غضبه، ولا يرضى لعباده الكفر من قوله تعالى:{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، وما أروع التقاسيم الموسيقية في هذه الآية الكريمة، والتوازن والتآلف بين إيقاعات العبارات الثمانية، ثم ذلك التقابل الموسيقى بين الأرض والسماء والماء، وبين ابلعي وأقلعي وغيض، وبين قضي الأمر واستوت، وغير ذلك كثير في بلاغة الإعجاز لكتاب الله الخالد.
حتى ينسى يعقوب:
قال الله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85] .
هذا التصوير القرآني البديع جاء على هذا النمط الغريب، الذي يحتاج إلىتأمل، فهو يصر مشاعر فياضة، تركت أثرا كبيرا في نفس يعقوب عليه السلام حين فقد أعز أبنائه، فهو يصور عاطفة تجاوزت العادة، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، حتى:{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَِى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86]
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] ، مثل هذه التجربة الإنسانية الصادقة في عاطفتها المحمومة، ومشاعرها البليغة، تحتاج إلى تصوير قرآني معجز، يخفف من غلوائها، ويحدّ من طغيانها حتى لا يتضاعف الضرر أكثر من ذلك، ولا يتأتى إلا باستخدام مقومات في التصوير لا تكشف هذا الأمر أكثر، ولا تفضح أسراره الفياضة، فيسوق إليها سحبًا من الغرابة تغطي خيوط المأساة، وتستدل عليها ستائر من الوحشة تهدئ من غلواء المصيبة، فيستخدم القرآن الكريم أغرب الألفاظ والأساليب، التي تصرف المتلقى عن المباشرة الصريحة إلى التأمل وطول النظر، وفي التحول تهدئة وانكسار، فاتخذ غرائب الألفاظ لينقل المتلقي من التلقائية الحادة والقاتلة إلى الروية والتفكير الطويل، وفي التهدئة والانتقال امتصاص للحزن، تخفيفًا لعنفه وضرره، فالقريب في التعبير المألوف أن تقول في مثل هذا الموقف: بالله لا تفتأ حتى تفنى أو لا تصير شيئًا يذكر، فتكون من الهالكين، وهذا تعبير مباشر وصريح، يتجاوز العمى إلى الموت، لذلك انصرف الأخوة عن الصراحة إلى الغرابة والوحشية، فجاء القسم بالتاء، والمألوف الواو والباء "والله -وبالله"، وحذف النفي الملازم للفعل "تفتأ"، والأصل "لا تفتأ" بمعنى لا تبرح، لزيادة الغرابة والوحشة والتحول، وأهمل لفظ الفناء والبلى المباشر في المعنى إلى التأمل في لفظ "حرضًا" الغريبة والبعيدة في معناها وموسيقاها الثقيلة المتئدة، ليزداد المعنى غموضًا في التصوير القرآني، التي تزاحمت فيه مقومات الغرابة والحذف حتى ينصرف يعقوب عن الحزن إلى التأمل، فينسى هذه المأساة حينًا، ويتحول عنها قليلًا، مما يتلاءم مع مقصود الأخوة الذين يريدون أن ينسى والدهم يوسف وأخاه، فيبتعد قلبه عنهما، والذي ضاق بهم،