الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأحيانًا تقتضي الموسيقى القرآنية حذف حرف غير مسبوق بجازم، للمفاجأة والسرعة إلى تحقيق الغاية من الرحلة، وهو اكتشاف الأستاذ ليتلقى العلم على يديه، فحذفت الياء من الفعل:"نبغي" في قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] ، للإيقاع القرآني السريع المعجز في التصوير.
الأمة الواحدة:
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 92، 93] .
الإعجاز في التصوير القرآني في الآيتين الكريمتين، جاء متنوعًا في مقوماته وعناصره التي تضفي عليه الجلال، فقد جاءت الصورة القرآنية الأولى على طريق الخطاب المباشر، فقد خاطب الله عز وجل أمته بقوله:"أمتكم -ربكم- فاعبدون"، أي: أنتم، ثم انتقل من الخطاب إلى أسلوب الغيبة في الصورة القرآنية الثانية في قوله تعالى:{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ -بَيْنَهُمْ- رَاجِعُونَ} ، أي: هم.
والأسرار البلاغية في هذا التصوير القرآني يعود إلى أمة الإسلام حين تتوحد، وتعتصم بكتاب الله عز وجل، تكون قريبة من الرحمن تسعد بالشهود في حضرته، وتشرف بمخاطبته لهم فيكلمهم، ويتلقى منهم مباشرة، فينظر إليهم، ويتمتعون برؤيته بالبصيرة لا الباصرة، ولا يغيبون عنه سبحانه، فهم في مقام التكريم، لأنهم راشدون مصلحون في قوة وعزة، لترابطهم في أمة واحدة كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وغير ذلك مما تفيده بلاغة الخطاب بأنتم، وقيمه الخلقية السامية.
وما أروع التقابل بين المعاني والقيم السامية في الصورة القرآنية الأولى، وبين التنفير والإنكار لنقائض هذه المعاني والقيم في الصورة الثانية، التي تصور تمزق الأمة وتقطع أوصالها في قوله تعالى:{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} ، وكذلك التقابل بين الإيقاع القرآني في موسيقى الصورة الأولى الهادئة الرقيقة المناسبة كانسياب الماء العذب البارد، وبينه في موسيقى الصورة الثانية العنيفة الشديدة الهادرة المدمرة بالتقطيع والتمزق، لأن الله تعالى ينصرف عن الأمة الممزقة، فيغيبون عن ساحة مشاهدته وحضرته، ولا يستحقون منه النظر ولا الخطاب لانصرافهم عن منهج القرآن وتفرقهم عن سبيله، فينصرف الله عنهم ولا يخاطبهم، لأنهم غائبون عنه بعيدون عن رحمته وحضرته، وهذا هو الإعجاز في الانصراف عن الخطاب إلى الغيبة.
وما أروع التصوير القرآني لتمزق الأمة وتقطعها إربًا إربًا، ليذهب كل فريق بجزء بعد أن كانوا كيانًا واحدًا وجسدًا قويًّا، وذلك في التعبير بصيغة "تقطعوا" لتدل من حيث معناها اللغوي على التمزُّق والضعف والذلة وعظيم البلاء، وللتنفير من الخلاف والدعوة إلى التضامن والوحدة، وتدل أيضًا من حيث المبنى والإيقاع بين أصوات حروفها على عنف الموسيقى القرآنية الصاخبة والمدمرة، مما يبث الخوف والرهبة من هذه الكارثة، وبحث على الترغيب في وحدة الأمة والاعتصام بكتاب الله تعالى، ثم يأتي التذييل في الصورة القرآنية الثالثة:{كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُون} ، للتهديد لهم باستحقاق العقاب الشديد، لأن الله تعالى لا يرضى لهم الضعف والهوان، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، لتكون كما أراد الله عز وجل خير أمة أخرجت للناس.