المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإعجاز في التصوير القرآني لليل والنهار: - التصوير القرآني للقيم الخلقية والتشريعية

[علي علي صبح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: معالم التصوير القرآني

- ‌القرآن: المعجزة الخالدة

- ‌وجوه الإعجاز

- ‌حقيقة التصوير القرآني

- ‌الأدب القرآني:

- ‌الجلال والحلاوة والجمال

- ‌قضية الجمال:

- ‌قضية الحلاوة:

- ‌قضية الجلال:

- ‌الإعجاز في التصوير القرآني

- ‌مدخل

- ‌من التصوير القرآني:

- ‌تلاحم الموسيقى والمعاني والقيم:

- ‌إبداع في تصوير النوم المعجزة:

- ‌الكهف إبداع بياني وجغرافي:

- ‌التكييف الرباني لأهل الكهف:

- ‌كلب أهل الكهف:

- ‌عدد أهل الكهف:

- ‌وَازْدَادُوا تِسْعًا:

- ‌تقديم السمع…على البصر:

- ‌الموسيقى التصويرية لطلب العلم:

- ‌الأمة الواحدة:

- ‌بين فظاعة اليهود…ورقة النصارى:

- ‌بلاغة التعبير عن الندمّ:

- ‌غضبة السماء والأرض:

- ‌حتى ينسى يعقوب:

- ‌التصوير القرآني لنماذج النفاق:

- ‌صفقات النفاق وصفاقة المنافق:

- ‌طموح المنافق شعاع يبدِّده الظلام:

- ‌آمال المنافق صواعق:

- ‌أخطر صور النفاق ذلاقة اللسان وحلاوة الحديث

- ‌الأمل الكاذب:

- ‌التصوير القرآني لفريضة الحج

- ‌من وحي المناسك في الحج:

- ‌الفصل الثاني: التصوير القرآني لتعاقب الليل والنهار

- ‌مدخل

- ‌تقديم الليل على النهار أكثر من مسين مرة

- ‌تقديم النهار على الليل في أربع مرات:

- ‌الإعجاز في خلق الليل والنهار:

- ‌الإعجاز في التصوير القرآني لليل والنهار:

- ‌الفصل الثالث: التصوير القرآني للصوم والصيام

- ‌بين الصوم والصيام في القرآن والسنة الشريفة

- ‌معنى الصوم والصيام في اللغة

- ‌الصوم والصيام في اصطلاح الشريعة الإسلامية:

- ‌الفرق بين المعنى اللغوي والاصطلاح الإسلامي:

- ‌مبنى الصوم والصيام:

- ‌الصيام والصوم في القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌آيات الصيام:

- ‌البناء الجسدي:

- ‌ البناء الأخلاقي:

- ‌أدب التعبير عن المباح:

- ‌أنوار الإمساك والإفطار:

- ‌الفصل الرابع: تربية النشء ومراحله في التصوير القرآني والسنة الشريفة

- ‌أدب الطفولة بين القرآن الكريم والسنة الشريفة

- ‌أدب الرحمة بالطفل عبادة وسلوك تربوي:

- ‌تلاوة الأطفال للقرآن وسماعه تأديب وتربية وتعليم:

- ‌وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للغلام عبد الله بن عباس:

- ‌وصية لقمان لابنه:

- ‌أدب الإسلام في استئذان الأطفال:

- ‌أدب القصة القرآنية والنبوية للأطفال:

- ‌المنهج الإسلامي في تربية النشء ومراحله

- ‌مدخل

- ‌مرحلة العدم أثناء الخطبة الزوجية:

- ‌بعد الزواج مباشرة:

- ‌أثناء الحمل وهو جنين حتى الولادة:

- ‌حق الرضاعة والغذاء:

- ‌في الأسبوع الأول من الولادة:

- ‌الرضاعة:

- ‌الحضانة:

- ‌التربية والتعليم

- ‌مرحلة الشباب والمراهقة والرجولة

- ‌مدخل

- ‌أولًا: مرحلة النضج:

- ‌ثانيًا: مرحلة الرجولة:

- ‌في مرحلتي الكهولة والشيخوخة

- ‌الفصل الخامس: العقود والمعاملات في التصوير القرآني والسنة الشريفة

- ‌سمات الاقتصاد الإسلامي في العقود والمعاملات

- ‌الاقتصاد الإسلامي تشريع إلهي:

- ‌العبادات وأثرها في بناء القيم الاجتماعية والاقتصادية:

- ‌التصوير القرآني للأعمال الحرفية

- ‌التصوير القرآني لحرفة الزراعة:

- ‌التصوير القرآني لحرفة الرعي والصيد:

- ‌التصوير القرآني لحرفة الصناعة:

- ‌التصوير القرآني لحرفة التجارة:

- ‌الأخلاق الإسلامية ودورها في الإنتاج والعمل:

- ‌منهج الشريعة الإسلامية في محرمات العقود والمعاملات:

- ‌القيم الإسلامية في العقود:

- ‌الفهارس:

الفصل: ‌الإعجاز في التصوير القرآني لليل والنهار:

لذلك بُهت "النمروذ" الذي كفر، حين حاجه إبراهيم عليه السلام فطلب منه أن يحول تعاقب الليل والنهار؛ فيقلب ويغيّر موازين الشروق والغروب فيأتي بالشمس من المغرب وقت الشروق أو النهار، ويأتي بها من المشرق آخر النهار؛ فأخرسته الحجة البالغة، وتجمد عقله أمام قدرة الخالق وحده "فأنى يؤفكون"، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] ، هذا من حيث إبداع البديع في خلق الليل والنهار، أما من حيث "التصوير القرآني" فنتعرض له بعلامات وبإشارات تفتح الطريق أمام الكتاب والباحثين.

ص: 125

‌الإعجاز في التصوير القرآني لليل والنهار:

أما من حيث النظم العجيب والإعجاز القرآني في التصوير؛ فالله عز وجل البديع في خلق الليل والنهار، هو سبحانه وتعالى أيضًا البديع في نظمه وتصويره القرآني، وقفت دونه أساطين الفصاحة والبلاغة عاجزة مبهورة، حتى قال أحدهم وهو الوليد بن المغيرة:"فإنه يعلو ولا يعلى عليه"، تأمل كيف ينسلخ النهار عن الليل، فيسود الظلام في الكون شيئًا فشيئًا، وتغيب الشمس رويدًا رويدًا، حتى تختفي؛ فيسود الظلام؛ وذلك مثل كشط الجلد عن لحم الشاة شيئًا فشيئًا، حتى ينكشف اللحم كله، والشأن في الجلد -بالنسبة للحم الذي تحته- أن يكون مضيئًا، فهو كالنهار للناظر، كما أن الشأن في اللحم تحت الجلد أن يكون مظلمًا للرائي، فهو كالليل، جاء ذلك في تصوير قرآني معجز حين عبر

ص: 125

بالفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار والتجدد شيئًا فشيئًا في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] ؛ فيتلاشى النهار عن الليل كما ينسلخ الجلد عن اللحم رويدًا رويدًا؛ فكلما انسحب جزء من النهار أظلم الكون قليلًا بمقدار هذا الجزء، وهكذا حتى يسود الليل، ويعم الظلام، ثم يتعاقب عليه بعد ذلك النهار، فتبدأ حركة الأرض مع الشمس فتظهر شيئًا فشيئًا، لتضيء وجهًا من وجوه الأرض، وهكذا حتى ينتشر النهار كله، ثم يعقبه الليل؛ ليظهر فيه القمر منيرًا؛ فيكتمل بذلك يوم محسوب في عدد السنين والحساب.

هذا التفسير وأبلغ منه دون ما جاء في تصوير قرآني معجز بل دونه بكثير وكثير، قال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37-40]، وقال سبحانه:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] .

وتقديم الليل على النهار دليل على أنه هو الأصل في الوجود، فيسود الظلام بصفة عامة، وعلى كوكب الأرض بصفة خاصة، ثم يأتي النهار تاليًا لليل، وهذا ما أثبته القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنًا، فيكون ذلك واضحًا وحقيقة في عصرنا الحديث، وسيكون أكثر وضوحًا

ص: 126

في المستقبل متجددًا خالدًا إلى قيام الساعة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] .

وكذلك الأمر في قضية تكوير الأرض؛ لتكور الليل على النهار، وتكور النهار على الليل، مما يدل على أن الأرض كروية الشكل؛ فالقرآن الكريم في تصويره لتكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل أثبت كروية الأرض للإنسان منذ خمسة عشر قرنًا، قال تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5] .

وتأمل تصوير الليل متقدمًا على النهار في أكثر من خمسين مرة، تجده قد تنوع تنوعًا بديعًا ومعجزًا، فتارة يكون مع الجعل وتارة مع التسبيح أو الاختلاف أو التكوير، وهكذا مما سنقف معه بإشارات تفتح الطريق أمام الباحثين.

تصوير الليل والنهار في آيات الجعل:

صور القرآن الكريم الليل والنهار بـ"الجعل"، بمعنى أن الله عز وجل صير الليل والنهار، وهيأهما لعباده ليتمتعوا بنعم الله عز وجل بالليل، فيسكنوا فيه ويستريحوا ويتأملوا إلى غير هذا من النعم التي تتلاءم مع الليل، فتأتي متقدمة لتقدم الليل، وليتمتعوا أيضًا بنعم الله سبحانه وتعالى بالنهار فينتشروا في الأرض، ويبتغوا من فضل الله إلى غير هذا من النعم التي تتلاءم مع النهار؛ فتتأخر عن نعم الليل، لتأخر

ص: 127

النهار عن الليل، وذلك من خلال تقابل وتزاوج بينهما في نسق قرآني بديع، ثم تعجب أيضًا لهذا النسق القرآني بين السماوات والأرض في الآية، وبين الليل والنهار، فالأرض مضيئة لانعكاس ضوء الشمس على سطحها، فتتأخر عن السموات -وهي مظلمة بالنسبة لنا- لتتلاءم وتتوازن مع تأخر النهار، هذا التفسير وأبلغ منه مهما بلغ دون ما جاء في التصوير القرآني للجعل بكثير وكثير، قال تعالى:{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 66، 67] مرة واحدة.

وهذه الآية الأولى في التصوير القرآني "للجعل" من آيات الليل والنهار، التي بلغت ثلاثة عشر موقعًا غالبًا من القرآن الكريم في هذه الدراسة، وهذه بقية المواقع:

قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] ، وجاء الجعل مرتين هنا، وقال تعالى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] ، والشمس مقترنة بالنهار لذلك وقعت بعد الليل مرة واحدة، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:

ص: 128

47] ، مرة واحدة، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 623] ، مرة واحدة، وقال تعالى:{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل: 86] ، مرة واحدة، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71-73] ، ثلاث مرات، وقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر: 61] ، مرة واحدة، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10، 11] ، مرة واحدة، وقال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] .

تصوير الليل والنهار في آيات التسبيح:

من أجل نعم الله تعالى على عباده تعاقب الليل والنهار بما يتناسب مع حاجة الجسد من الراحة والسكن، وحشد الطاقة وتجديدها في سكن

ص: 129

الليل والنوم فيه، وبما يتلاءم مع مطالب الحياة من كدٍّ وسعي وتحصيل، وتمتع الإنسان بما لذَّ وطاب من متاع الحياة الدنيا في النهار؛ لذلك وجب على الإنسان أن يشكر ربه؛ فيسبح الوهاب المنعم على عباده بهذه النعم بالليل والنهار، وينزِّه الله عز وجل بالوحدة والتقديس؛ فهو وحده الجدير بالعبادة والتنزيه والحمد والثناء؛ فجاء التسبيح مع الليل والنهار سبع مرات في القرآن الكريم في هذا البحث.

قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] ، جاء التسبيح مع الليل والنهار هنا مرتين، فالتسبيح مرة، والأخرى آناء الليل، وأطراف النهار، وقال تعالى:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، مرة واحدة، وقال تعالى:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] ، مرة واحدة.

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39، 40] ، فاقتران الليل مع النهار هنا جاء مرة واحدة، وهي التسبيح قبل طلوع الشمس، والمراد الليل، وقبل الغروب والمراد النهار، أما قوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} فقد اتفقت جماعة الصحابة والتابعين على أن زمن التسبيح هنا في الليل من أوله إلى آخره حتى الفجر {وَمِنَ اللَّيْل} أي: في بعض أجزاء الليل: أوله أو وسطه أو

ص: 130

آخره، و {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} النوافل بعد المغرب أو الوتر بعد العشاء1، والتسبيح هنا في الليل أيضًا، وعلى ذلك فلم يجتمع الليل مع النهار في هذه الآية الثانية وإنما اقتصر على الليل، إلا إذا كان السجود كناية عن النهار لكثرة عدد فروضه في النهار، حيث يشتمل على الصبح والظهر والعصر والمغرب، بينما ينفرد الليل بصلاة العشاء فقط، وعلى ذلك فتدل الصورة القرآنية {أَدْبَارَ السُّجُود} على النهار، فيكون التصوير القرآني مع التسبيح مرتين.

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48، 49] ، مرة واحدة، أي من الليل فسبحه، أي أثناء الليل، وإدبار النجوم بعد الفجر، وظهور ضوء النهار، لتختفي النجوم وتولي دبرها.

وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 25، 26] ، مرة واحدة، فالبكرة تصوير لليل، والأصيل تصوير للنهار، ثم جاء التسبيح في الليل وحده غير مقترن بالنهار في الآية الثانية، أما من جعل البكرة والأصيل لطرفي النهار يقابل الليل في الآية، فيكون النهار متقدمًا على الليل.

تصوير الليل والنهار في آيات الاختلاف:

ويظهر الإعجاز في التصوير القرآني لآيات اختلاف الليل والنهار في النسق القرآني البديع، فحينما تلتقي -في آية واحدة أو موقف واحد-

1 تفسير الكشاف: الزمخشري: ص392، 393، وفتح القدير: الشوكاني 80، 81.

ص: 131

السماوات والأرض مع اختلاف الليل والنهار، نجد هذا التناسق القرآني في تقدم السماء لتتلاءم مع تقدم الليل، لأن السماوات بالنسبة لنا ظلمات، والليل ظلمات، وتتأخر الأرض بعد السماوات لتتلاءم مع تأخر النهار بعد الليل؛ لأن الأرض ينعكس عليها ضوء الشمس في النهار وضوء القمر في الليل، وعلى ذلك فالأرض مضاءة والنهار ضياء وهكذا جاء التصوير القرآن لاختلاف الليل والنهار ست مرات في هذه الدراسة، والاختلاف والخلفة بمعنى خلفه، أي جاء بعده، والمعنى أن يأتي أحدهما بعد الآخر، وهكذا يتعاقبان: أي يختلف أحدهما بعد الآخر.

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال تعالى:{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

ص: 132

وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3-5] .

تصوير الليل والنهار في آيات الإيلاج:

ولج أولج يولج بمعنى دخل وأدخل ويدخل؛ فيولج: أي يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل؛ فيصير ليلًا، أما الأولى فيصير نهارًا، وعلى ذلك فقد عددت آيات الإيلاج من الآيات التي تبدأ بذكر الليل أولًا وتقدمه من حيث اللفظ والظاهر، لا من حيث المضمون والشكل، كما في الآيات الأربع السابقة التي تقدم فيها ذكر النهار متقدمًا على الليل، وإن كان مختلفًا من حيث المعنى في آيات الإيلاج.

فأما آية الإيلاج الأولى في تصوير الليل والنهار فهي في قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] ، وتعجب كل العجب في نسقها القرآني؛ من خلال التصوير المعجز، وذلك في تلاحم التقابل والتزواج، فتصوير النهار أولًا في قوله تعالى:{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} لأن النهار حياة ونشاط وعمل يتلاءم مع المتقدم وهو الحياة في الفقرة الأولى من الآية {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّت} ، وكذلك في تصوير الليل ثانيًا في قوله تعالى:{وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل} ، والليل سكون وصمت وموت، فيه الموتة الصغرى وهي "النوم"، وقد تتحول إلى الموتة الكبرى فيه، فتأخر تصوير الليل هنا عن النهار مع تصوير الموت، الذي وقع متأخرًا أيضًا في قوله تعالى:{وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} إنه البديع سبحانه وتعالى في التنسيق بين

ص: 133

المعاني والمشاهد في جلال التصوير القرآني المعجز.

وأما الآية الثانية فهي في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 29] .

ويظهر الإعجاز هنا أيضًا في التصوير القرآني للإيلاج، فيولج الليل في النهار ليعم الضياء، وتخرج الشمس من خدرها، ويبتغي الناس من فضل الله عز وجل، ويسعى الخلق إلى معاشهم وأعمالهم، ويولج النهار في الليل، ليعم الظلام ويتألق القمر والنجوم، ويسكن الناس، ويستريحوا من جهاد العمل والكسب، نجد هذه المعاني وأكثر منها في التصوير القرآني لإيلاج الليل في النهار، ليكون ليلًا، بعد تصوير النهار، ليتلاءم مع القمر، الذي ورد متأخرًا عن الشمس، لأن القمر يتألق في الليل مع النجوم، الذي ورد متأخرًا عن الشمس، لأن القمر يتألق في الليل مع النجوم، هذه المعاني والمشاهد قطرة من بحر التصوير القرآني المعجز في كل مشهد ولكل معنى، وصدق الله العظيم إذ يقول:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41]، وقال سبحانه وتعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .

وأما الآية الثالثة في تصوير الإيلاج فهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61] .

ص: 134

وأما الرابعة فهي قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] ، فالتنسيق القرآني في التصوير المعجز لهذه الآية على نحو ما جاء في الآية السابقة، فتقدمت الشمس لتقدم تصوير النهار، وتأخر القمر لتأخر تصوير الليل في تلاؤم وتوازن وإتساق:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192، 193] .

وأما الخامسة فهي قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: 5، 6] ، معنى الإيلاج هو أن يحل مكان الليل في مكان النهار فيصير ليلًا على وجه الأرض غير المقابل للشمس، وأن يحل مكان النهار في مكان الليل فيصير نهارًا على وجه الأرض المقابل للشمس، وذلك على سبيل الحركة والتبادل بين الليل والنهار، والتعاقب فيهما في تغيير وتجدد واستمرار، وهو ما يدل عليه الفعلان المضارعان "يولج" ويؤدي ذلك إلى نتيجتين، النتيجة الأولى، كروية الأرض فليست سطحًا واحدًا بل لها وجهان متكوران، يتعاقب عليها الليل والنهار على سبيل التبادل والتغيير، والنتيجة الثانية: هي حركة الأرض حول محورها مقابل الشمس، لأن التبادل والتعاقب لحلول الليل مكان النهار والعكس يدل على الحركة المغزلية.

تصوير الليل والنهار في آيات القسم:

عظائم الأمور، وجلائل النعم تنال من العناية والتقدير منزلة عالية

ص: 135

تسمو إلى درجة القسم بها، فإذا ما أقسم الخالق سبحانه وتعالى بها أزدادت منزلة ورفعة، للدلالة على عظم خلقها، وعميم نفعها وفضلها، لهذا أقسم الله عز وجل بالليل والنهار في القرآن الكريم أربع مرات في هذا البحث.

قال تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 32-34] ، تقدم الليل على الصبح والنهار، لتجاوره مع القمر، الذي تصدر به القسم، والقمر كوكب ليلي يظهر في الظلام أكثر منه في النهار.

وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 15-21] ، تقديم تصوير الليل على الصبح لتجاوره مع النجوم الخنس والجواري السيارة السبعة، وهذه كلها تخنس أي:"تغيب" وتكنس أي: "تختفي" في النهار، وتظهر في الظلام والليل، فهي كواكب ليلية، تتلاءم مع الليل في تجاورها له.

وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 16-19] ، وهنا تقدم الشفق على الليل، لأنه أول الليل حيث يظهر بعد الغروب وقبيل العشاء، ثم كان القسم الثالث بالقمر؛ لأنه يبدو أكثر ظهورًا وتألقًا بالليل منه في وقت الشفق، وقال تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1، 2] .

ص: 136

تصوير الليل والنهار في آيات الإغشاء:

غشى غشيًا وغشيانًا، وأغشى إغشاء، وغشى تغشية، كلها بمعنى غطاه وستره تغطية وستره، وحل محله، فأغشى الليل والنهار، أي غطاه وستره فيعم الظلام ويسود الليل، وأغشى النهار الليل بمعنى غطاه وستره، فينتشر الضياء، ويسيطر النهار على الكون، وجاء الإغشاء في تصوير الليل والنهار مرتين في هذه الدراسة.

قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] ، فالإعجاز في التصوير القرآني يظهر في كل مرة حسب القراءات، فالقراءة المشهورة:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} -بضم الياء وكسر الشين غير المشددة، ونصب الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات-، بمعنى يغطي الليل النهار ويستره ويطلبه حثيثًا، كما يطلب الشمس والقمر والنجوم حالة كونها مسخرات بأمره؛ وإن كان البعض قد نصب الشمس وما بعدها بالفعل "خلق" عطفًا على السماوات والأرض، وإن طال العطف هنا وفصل بقول تعالى:{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} .

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتشديد الشين ورفع النهار ونصب اللليل، والمعنى: يستر النهار الليل ويغطيه، فيضيء الدنيا ويسيطر النهار على الكون، ومن هنا كان حسن التلاؤم وروعة الاتساق حين تجاورت

ص: 137

الشمس مع النهار متقدمة على ما بعدها، ويؤيد هذا التصوير البديع قراءة رفع الشمس وما بعدها على الاستئناف، فهي مصدر النور في النهار، ويؤيد هذا التصوير المعجز أيضًا قراءة حميد بن قيس:"يغشي الليل النهار" بفتح الياء والشين غير المشددة ونصب الليل ورفع النهار1، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة: 77- 81] .

قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 2، 3] فالتصوير القرآني هنا بالفعل المضارع "يغشي" يدل على حقائق: الأولى: أن تقديم الليل على النهار يجعل الظلام هو الأصل، وأن الضوء يحدث نتيجة حركة الأرض في مواجهة الشمس، والثانية: معنى يغشى: يغطي، ودلالته محسوسة، وعلى ذلك فالمراد بالليل: الظلام، وهو زمن، وبالنهار: الضياء، وهو زمن أيضًا، والمعنى يغطي الله بظلمه الليل مكان النهار على الأرض فيحدث زمن الليل، ويغطي الله بنور النهارمكان الليل على الأرض فيحدث زمن النهار، الثالثة: دلالة صيغة المضارعة على التكرار المعكوس لدلالته على التجدد والتغيير والاستمرار

1 الكشاف: الزمخشري، 109/ 2، فتح القدير: الشوكاني 211/ 2.

ص: 138

فيهما والتعاقب، وهذا هو الإعجاز في التصوير القرآني، فلا يصح أن يقال: يغشي الليل النهار، ويغشي النهار الليل، لأن الغشيان بمعنى التغطية إن تلاءم مع الليل، فلا يتلاءم مع النهار، لأنه تجلية ونور وضياء لا تغطية وقتام وظلام.

وتأمل كيف تقدمت السماوات بما فيها من آيات الله على الأرض بما عليها من نعم وآلاء، ليتسق ذلك ويتلاءم مع تقدم الليل على النهار كما تقدمت السماوات على الأرض، وقد ظهر فيها روعة الإعجاز في التصوير القرآني على نحو ما أشرنا إليه قبل ذلك.

تصوير الليل والنهار في آيات التسخير:

سخر الله عز وجل الليل والنهار لعباده بمعنى ذللهما وهيأهما لهم، وجعل كلا منهما يلبي حاجات البشر، ويستجيب لرغباته وطبيعته البشرية، التي تحتاج إلى كل منهما، وجاء التسخير هنا مرتين، قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 33]، وقال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12] .

ومن روعة الإعجاز في التصوير القرآني في مجال ذكر النعم التي سخرها الله تعالى لعباده؛ لينتفعوا بها، مع تأتي النعمة الأكثر نفعًا والأعظم فضلًا للعباد متقدمة على ما دونها في النفع والفضل؛ لذلك تقدمت الشمس على القمر، لأن نعمة الشمس أكثر نفعًا وأعم فضلًا من نعمة القمر، ويؤيد هذا اتساق الآيات بعضها مع بعض، وتلاؤم ما

ص: 139

بعدها وما قبلها في ترابط وتلاحم وثيق؛ فالآية الأولى في سورة إبراهيم جاء قبلها قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32]، وجاء بعدها قوله تعالى:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، والآية الثانية في سورة النحل جاءت قبلها آيات تجمع كثيرًا من النعم من أول قوله تعالى:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} 1، وجاءت بعدها آيات تجمع كثيرًا من النعم تنتهي بقوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.

تصوير الليل والنهار في آية الصيام:

قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] ، فتقدمت ليلة الصيام عن ظهور الخيط الأبيض مع الخيط

1 الآيات: 5-11.

2 الآيات: 13-18.

ص: 140

الأسود من الفجر، والمراد به هو النهار.

تصوير الليل والنهار مع الإنفاق:

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] ، وانظر إلى تقدم السر لتقدم الليل، وتأخر العلانية لتأخر النهار.

تصوير الليل والنهار مع الخفاء والظهور:

قال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] ، فما أروع النسق القرآني بين الغيب ومستخف من النهار والليل، وبين الشهادة وسارب وهو أكثر ظهورًا من الخفاء كالسراب والنهار في الآية السابقة:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] .

تصوير الليل والنهار مع الخلق:

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] ، خلق الليل والنهار على الأرض، وخلق الشمس والقمر وجعلها جميعًا تسبح في الفضاء، وتدور الأرض حول محورها وحول الشمس، ويدور القمر حول الأرض، وتدور الشمس حول مركز المجرة، روى ابن كثير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال:"يدورون كما يدور المغزل في الفلكة"، ومن العجيب أن ابن عباس عبر بالجمع كالجمع في يسبحون ليضم الأرض إلى الشمس والقمر، لأن الليل والنهار في الآية كناية عن الأرض، فذكر الليل والنهار يستلزم الأرض، ولم يلحظ ذلك مجاهد حين عقب على رأي

ص: 141

ابن عباس فلم يذكر الأرض، فقال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر1.

تصوير الليل والنهار مع السكن:

قال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 12، 13] ، فما أروع التناسق في التصوير القرآني في تقدم السماوات والأرض مع تقدم الليل على النهار على نحو ما ذكرناه من قبل؟ وتقدم السميع على العليم، لأن السمع بالليل أدق وأقوى، وتحصيل العلم وتعليمه للناس يتصل بالنهار أكثر من الليل، تناسق وتلاحم بين عناصر التصوير القرآني المعجز.

تصوير الليل والنهار مع التوفي:

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] .

تصوير الليل والنهار مع الكلأ وهو الحفظ:

قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] .

1 ابن كثير: 187/ 3.

ص: 142

تصوير الليل والنهار مع التقليب:

قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44] .

تصوير الليل والنهار مع النوم:

قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 22، 23] .

تصوير الليل والنهار مع السير:

قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ: 18] ، وغالبًا إذا ما أطلق اليوم يراد به النهار، وخاصة في مقابلة الليل هنا.

تصوير الليل والنهار مع المكر:

قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33] .

ص: 143

تصوير الليل والنهار للسلخ:

قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] .

تصوير الليل والنهار للسبق:

قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 0] .

تصوير الليل والنهار للسجود:

قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] .

تصوير الليل والنهار مع القيام والتهجد:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا، إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 1-8] .

تصوير الليل والنهار مع الإغطاش:

قال تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 29، 30] .

ص: 144

تصوير الليل والنهار مع التقدير:

قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] .

تصوير الليل والنهار مع التكوير:

قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5] ، والتصوير القرآني لتكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل، يدل على استدارة الأرض وكرويتها، وأنها تتحرك حول محورها؛ لأن معنى التكوير اللف والنشر في استدارة لا تسطيحًا، كما قال: كار الرجل العمامة على رأسه أي لفها في استدارة، ونشرها حول رأسه، ومعنى التكوير أن الله سبحانه وتعالى يلف الأرض الكروية حول محورها أمام الشمس، التي تنير نصفها المواجه لها نهارًا، ويكون النصف الآخر غير المواجه لها ليلًا، وبذلك يتكور الليل والنهار فيحدثان في وقت واحد مصداقًا لقوله تعالى:{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} ، ومعنى "أو" الإباحة، أي أنهما موجودان حول الأرض في وقت واحد، لذلك جاء لفظ التكوير مرتين بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على التتابع في جهتين مختلفتين والاستمرار والتجدد كل يوم.

إنه التصوير القرآني المعجز لليل والنهار، أنزله البديع الحق بالحق، لأنه الحقيقة والحق، حينما يدركه الذين أوتوا العلم فليؤمنوا به يخرون

ص: 145

للأذقان سجدًا ويقولون متعجبين مبهورين من إعجازه وبديع تصويره:

"سبحان ربنا"، قال تعالى:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا، قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 105- 109] .

تعاقب الليل والنهار:

قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] ، فالإعجاز في التصوير القرآني في هذه الآية الكريمة يبهر العقول، ويحير الأفئدة، فالتنكير في "آية" يدل على تعظيم الليل والنهار، وفي مضمونها العجيب، فالإبداع في خلق الليل والنهار وتعاقبهما في حركة متوازنة ومستمرة لا تتخلف، وتسخيرها للعوالم والمخلوقات من أعجب العجائب، تلك هي الصورة القرآنية الأولى، وأما الثانية في قوله تعالى:{اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار} فهي صورة قرآنية بلغت حد الإعجاز في المعنى والمضمون وفي النظم القرآني، وفي الخيال القائم على التشبيه، وفي تقديم الليل عن النهار، فأما من حيث المعنى والمضمون، فلا يستطيع أحد أن يسير الليل والنهار متعاقبين إلى ما شاء وجل، فالليل والنهار آيتان من آيات الله سبحانه وتعالى العجيبة، التي اعتادها الإنسان، ولا يدري الأسرار الخفية في خلقهما وحركتهما

ص: 146

وتعاقبهما، سبحان الله الخالق الذي أحسن خلقه وأبدعه، وأما من حيث النظم القرآني المعجز في تصويره كيفية سلخ النهار عن الليل، فتغرب الشمس وتختفي أنوارها ويسود الظلام في الكون كله، وكيفية سلخ النهار تعتمد على انسحابه رويدًا رويدًا، فينخلع شيئًا فشيئًا، فكلما انسحب منه جزء أظلم الكون بمقدار هذا الجزء المنسحب، فيظهر فيه الليل، ليبدّد جزءًا من النهار، وفي هذا يصور حركة الأرض حول الشمس وحركة الأرض حول مدارها، فكلما اختفى جزء من ضوء الشمس يؤدي إلى ظلام جانب من الأرض بينما تضيء بقية الجوانب الأخرى، وهكذا حتى يختفي قرص الشمس كله، فيعم ظلام الليل، وأما من حيث الخيال القاسم على التشبيه الذي يقرر الحقيقة العلمية السابقة، فقد شبه هذا التعاقب الحثيث البطيء بعملية واقعية حقيقية، يتعامل معها الإنسان حين يقوم بسلخ جلد الحيوان عن لحم جسده شيئًا فشيئًا ليجسم بعض أسرار التعاقب في صورة محسة مألوفة تتمكن من النفس أيما تمكن، فيشكر الله عز وجل على الانتفاع بنعمتي التعاقب والطعام معًا، وأما من حيث تقديم الليل على النهار لإقامة الدليل على أن الأصل هو سيادة الظلام على كوكب الأرض لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء، ثم يأتي النهار تاليًا له، فقد أثبته القرآن الكريم ذلك منذ خمسة عشر قرنًا، قبل أن يقرّره العلماء؛ فجاءت أكثر من خمسين آية تقدم فيها الليل على النهار، إلا في أربع آيات تقدم فيها النهار على الليل لغرض بلاغي، ومن الكثير الغالب قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، وغيرها، ومن القليل قوله تعالى:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} لمجاورة النهار

ص: 147

للقمر والشمس والتلاؤم معهما.

المشرقان والمغربان:

قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 17، 18] ، اقتضت البلاغة عند العرب أن يعبروا عن المتقابلين بتثنية أحدهما على سبيل التغليب والاكتفاء بواحد عن الاخر للدلالة عليه، فقالوا القمران لا الشمسان للشمس والقمر، والأسودان للتمر والماء. وهكذا، ويعدُّ ذلك من بلاغة الإيجاز؛ فعارضهم القرآن الكريم على نحو بلاغة أسلوبهم، فجاء بالإعجاز الرباني في تصويره القرآني في هذه الآية الكريمة؛ فعجزوا عن مجاراتها لأنهم لم يفطنوا إلى الحقيقة العلمية، التي تتجدد مع الزمان والمكان، فئقد انتهى العلماء في العصر الحديث إلى أن الأرض تدور حول محورها وحول الشمس، وأن الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، وأن هناك عوالم أخرى اكتشفت حديثًا تقابل العوالم القديمة على سطح الأرض الكروي وهي الأمريكتان واستراليا، وقد صور القرآن الكريم هذه الحقائق العلمية منذ خمسة عشر قرنًا، لكن العرب قديمًا لم يفطنوا إليها ولم يستطيعوا تفسيرها حتى يقفوا على حقيقة المشرقين والمغربين، لأن الشروق عندهم في جهة واحدة وهي الشرق، وكذلك الغروب في جهة الغرب، وقد ظهر لنا حديثًا أن العوالم لم يكن لها مشرق واحد بل مشرقان، وكذلك لها مغربان، بل للعوالم مشارق ومغارب لأن كروية الأرض تجعل بعض العوالم في قارات آسيا وإفريقيا وأوربا تشرق عليها الشمس جميعًا في وقت واحد تقريبًا وهو جهة الشرق، ويطلق عليها "مشرقًا" وهي نفسها تسمى

ص: 148

"مغربًا" في الجهة المقابلة لها من الأرض عند عوالم الأمريكتين واستراليا تقريبًا، وحينما تشرق الشمس على الأمريكتين واستراليا تسمى هذه الجهة عندهم "مشرقًا"، وهي نفسها تسمى "مغربًا" في الجهة المقابلة لها من الأرض عند عوالم آسيا وإفريقيا وأوربا، لذلك فهم العرب هذه الآية على سبيل التغليب كالقمرين، ولم يستطيعوا تفسيرها على النحو العلمي الحديث، لأنهم كانوا يعتقدون بمشرق واحد ومغرب واحد، بل إن القرآن الكريم أعطى حقيقة علمية أخرى في قوله تعالى:{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40]، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] ، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] ، على اعتبار تنوع الأقاليم والدول وما أكثرها في جهتي الأرض، فأصبحت لكثير من الدول مشارق في جهة من الأرض ولكثير من الدول في الجهة المقابلة من الأرض مغارب، بل إن لكل دولة مشارق ومغارب، لأن زمن الشروق والغروب وزواياهما تختلف في كل يوم من أيام السنة يتراوح ما بين دقيقة فأكثر، لذلك يصير للدولة الواحدة مشارق ومغارب تختلف حسب الأيام والفصول والسنوات، وهذا لا يتم إلا بسبب دوران الأرض حول محورها مرة كل يوم، وحول الشمس مرة كل عام، لأن دوران الأرض وكرويتها، تجعل لكل دولة مشارق ومغارب، ولا يتأتى ذلك إذا كانت الأرض مسطحة، فلو كانت مسطحة لا بد لها من مشرق واحد، ومغرب واحد.

وفي جميع الأحوال السابقة أعطى التصوير القرآني لكل جيل وعصر تفسيرًا علميًّا يتلقاه العقل بالقبول والإقناع والإيمان، ولا يتعارض

ص: 149

مع حقائق الكون، بل يستجيب لحقائق العلم في كل عصر، ولا يتعارض معها مطلقًا، ويعطي لكل عقل حاجته ليزداد صاحبه إيمانًا على إيمانه، فالتصوير القرآني متجدد دائمًا مع الأجيال والعصور والتقدم العلمي والفكري والحضاري والإنساني، وهذا هو الإعجاز في كتاب الله عز وجل الخالد:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

دوران الشمس والقمر:

قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يس: 38-40] ، يظهر الإعجاز القرآني لحركة الشمس وتسابق القمر معها في إيقاع الحروف وموسيقى الكلمات، وحيوية التشخيص؛ فأما الموسيقى التصويرية لحركة الشمس البطيئة في قوله تعالى:{تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} في مقابلة حركة القمر السريعة في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ؛ فقد انتهى العلماء حديثًا بأن الشمس تدور في مجرّتها حول محروها، وتجري في فلكها المستقر لها، فلا ينبغي لها أن تدرك القمر في سباقه، فجري الشمس دون سرعة القمر حول الأرض، التي تصل إلى درجة السباق، كما في قوله تعالى:{وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار} ، فالشمس والقمر والأرض كل له فلكه، وإن كانت جري الشمس دونهما، ويتضح ذلك من الموسيقى القرآنية لحركة الشمس البطيئة الصادرة من الشدَّتين في "الشمس، ومستقر لها" مع حرفي اللين في "تجري-ولها"، كما ترى السباق السريع للقمر والأرض الصادر من الإيقاع السريع في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ

ص: 150

كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، فهو دون جري الشمس في عدد الشدات، مما يمنحها سرعة أكثر، مع أنهم يسبحون بقدرته الخارقة:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، وأما الصورة القرآنية المستمدة من الخيال لتقرير حقائق علمية سبق إليها القرآن قبل أن يصل إلى بعضها العلم الحديث، وذلك من خلال التشخيص الحي للكواكب الثلاث، فالشمس تجري كالإنسان لها إرادتها وعقلها، الذي يقيد السرعة مقدرة في إطارها ومستقرها وفلكها، لذلك انتهت الصورة القرآنية بهذا التذييل البديع من التقدير للعزيز العليم:{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وأما التشخيص لحركة القمر والأرض معًا؛ فهو يعطي حركة أسرع من حركة الشمس حتى تصل إلى درجة السباق فلا تستطيع الشمس أن تدركهما؛ فكأن للقمر والأرض عقلًا وإرادة يقومان بتحديد أبعاد الحركة والسباق كما يظهر في قوله تعالى:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} ، وصورة الليل سابق النهار كناية عن حركة الأرض وسرعتها، ثم تأمل روعة التشخيص والتشبيه في قوله تعالى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، فالتعبير بالفعل "عاد" هلالًا كالعرجون كما كان في أول الشهر هلالًا أيضًا، وبتشخيص القمر في رحلته الشهرية حين يبدؤها هلالًا حتى يتكامل بدرًا، ثم يعود هلالًا كما بدأ، وما أروع تشبيه الهلال الذي تقادم عليه العهد مثل العرجون الذي قضى مدة حتى جفَّ وتقوَّس، كما توحي الصورة بمعانٍ أخرى وهي أن العرجون شيء تافه لا يلتفت إليه كالهلال تراه ضالًا في السماء، لا تتعلق به الأبصار، وأن كلًّا منهما موضع العناية؛ فالعرجون حامل الثمر والنفع، والهلال يرسل النور ويهدي الضال ليلًا، وأما دلالة التصوير المعجز على كروية الأرض وحركتها حول محورها في شهر، وحول الشمس في سنة، وكذلك

ص: 151

حركة القمر حول الأرض، وجري الشمس في فلكها، ودلالتها على التسبيح والسجود الذي خلقها سبحانه كما في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]، وفي قوله تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] ، فحركة هذه الأفلاك تشبه حركة المصلي في تسبيحه وسجوده لله تعالى، ولا فرق بينهما، فما من مخلوق في السماوات والأرض إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم سجود الشمس وتسبيحها لله عز وجل فيما رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أتدرون أين تذهب الشمس؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخرّ ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت؛ فترجع طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئًا، حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش؛ فيقال لها: ارتفعي اصبحي طالعة من مغربك؛ فتصبح طالعة من مغربها، أتدرون متى ذلك؟ ذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا".

يقول الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: الحديث الشريف يصور اندفاع الشمس في فلكها الحلزوني الذي اكتشف حديثًا جدًّا، وهي ترتفع وتجري ثم ترتفع وتجري، ومعنى لا يستنكر الناس منها هذه الحركة؛ لأنهم لا يشعرون بحركتها لتحرك الأرض تحتهم حول نفسها

ص: 152

وحول الشمس، فيصعدون معها حين تصعد، ويهبطون معها أينما هبطت؛ لذلك لا يستنكرون حركة الشمس، لكونهم يتحركون معها، ومعنى سجود الشمس تحت العرش، أن ملكوت السماوات والأرض في جوف ملكوت الكرسي، كما في قوله تعالى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وملكوت الكرسي في جوف ملكوت العرش، كما في الحديث الشريف الذي رواه أنس رضي الله عنه:"الكرسي في جوف العرش"، إذن فالسماوات والأرضين كرة داخل كرة أكبر منها هي ملكوت الكرسي، وهذه كرة داخل كرة أخرى هو ملكوت العرش.

وعلى ذلك فالسماوات والأرضون تحت الكرسي، والكرسي تحت العرش، ولما كان كل ما في السماوات والأرض يسجد لله تعالى، فإنما يسجدون له تحت العرش، فالشمس أينما كانت تسجد تحت العرش، والناس جميعًا على الأرض يسجدون تحت العرش، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم.

ومعنى تطلع الشمس من مغربها أن العلماء اكتشفوا أن الكون يتسع الآن، وسيظل يتسع إلى أن يأتي زمن يتوقف فيه عن الاتساع، ويبدأ في الانكماش تدريجيًّا، حينئذ تنعكس حركات كل الكواكب والنجوم فتشرق الشمس من المغرب، وتغرب في الشرق، يحدث ذلك قبيل انفجار الكون وقيام الساعة، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"فتصبح الشمس طالعة من مغربها، ثم قال: أتدرون متى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك حين لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا".

ص: 153