الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقة التصوير القرآني
1:
بين الأدب القرآني والأدب العربي:
لا يشكُّ عاقل لحظة واحدة ألَّا مجال للموازنة ولا المقارنة بين الأدب القرآني، وفنون الأدب العربي ونقده، فشتَّان بين كلام الله عز وجل الأزلي، وبين كلام خلقه الذي أبدعهم وخلقهم، فمهما بلغت اللغة العربية قمَّة البلاغة على يد أربابها صقلًا وتهذيبًا وحضارة، فقد عجزوا عن مجاراة القرآن الكريم ومعارضته بعد أن تحدَّاهم، إذن فلا تصحُّ الموازنة ولا المقارنة بحال بين الأدب القرآني وبين أدبهم العربي.
فالقرآن الكريم كلام الله جل جلاله مبدع الكون كله، والأدب العربي كلام البشر المخلوقين، فكل منهما يتميز بخصائص ينفرد بها عن الآخر، ويتضح ذلك أكثر حينما نقف على أطوار كلمة "الأدب" منذ نشأتها حتى صارت تشمل جميع الفنون الأدبية المختلفة من شعر ونثر فني، فقد انتقلت من المعنى الحسي والواقعي لها قديمًا، وهو بمعنى "المأدبة" التي يلتقي على مائدتها أهل الجودة والكرم وذو الأخلاق الفاضلة، إلى المعنى الأخلاقي المجرد عن الحس، وهو ما يحسن من الأخلائق والمكارم والفضائل، قال عتبة بن ربيعة لابنته هند عن أبي سفيان: "يؤدب أهله ولا يؤدبونه؛ فقالت له: سآخذه بأدب
1 "التصوير القرآني": بحث علمي أكاديمي رقيت به مع بحوث أخرى إلى درجة "أستاذ" في الأدب والنقد عام 1983، وكان منشورًا قبل ذلك في ذي القعدة 1401هـ/ سبتمبر 1981م في مجلة الوعي الإسلامي عدد "203" ص82 بالكويت، وزدت عليه في بحث نشر عام 1987م في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة العدد الخامس ص365، وفي بحث آخر نشر عام 1995 في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة في العدد الثالث عشر ص3- 23.
البعل"1، وقال النعمان بن المنذر في رسالته إلى كسرى: "وقد أوفدت أيّها الملك رهطًا من العرب لهم فضل في أحسابهم وآدابهم"2.
وفي العصر الإسلامي أخذت كلمة "الأدب" معنى إضافيًّا جديدًا يجمع بين التهذيب الأخلاقي والتعليم والتربية الخلقية والعلمية والسلوكية، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أدَّبني ربي فأحسن تأديبي"، وقال أيضًا:"إلزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم"، وفي الأثر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"طفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار"، وقال أيضًا لابن عباس رضي الله عنه: "هل تروي لشاعر الشعراء، قال: ومن هو؟ قال: الذي يقول:
ولو أن حمدًا يخلد الناس أخلدوا
…
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
قلت: ذاك زهير، قال: فذلك شاعر الشعراء، قلت: وبم؟ قال: لأنه لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدًا إلا بما فيه"؛ والشعر فن فنون الأدب عندهم، وقال عن لامية العرب للشنفري رضي الله عنه: "علموا أولادكم لامية العرب، فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق"3.
وترددت كلمة "الأدب" كثيرًا في العصر الأموي بمعنى التعليم، وتحصيل العلم، قال معاوية رضي الله عنه: "اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر
1 الأمالي: للقالي 2/ 104.
2 العقد الفريد: ابن عبد ربه 1/ 169.
3 الأغاني: الأصفهاني 10/ 289.
آدابكم"، واشتهرت في هذا العصر طبقة المعلمين، الذين كانوا يؤدِّبون أبناء الخلفاء والأمراء والولاة بالأخبار واللغة ورواية الشعر والخطب والقصص الأدبي والوصايا الأدبية والأمثال العربية، وأطلق عليهم آنذاك لقب: "المؤدبين" و"الأدباء"، قال عبد الحميد الكاتب، الذي اشتهر بأدب الكتابة: "بدئت الكتابة بعبد الحميد، وخُتمت بابن العميد"، قال في رسالة الكاتب: "فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب"، ومن هنا نشأت حرفة "الأدب"، وقال الخليل بن أحمد عن الأدباء: "لأنهم كانوا يتكسبون بالتعليم"1.
وفي العصر العباسي اهتمَّ العلماء والرواة بالكتاب؛ فتنوعت الدراسات عندهم، فكانت تشمل: النحو والصرف وعلوم اللغة والاشتقاق والبلاغة والعروض والقافية وعلم الأخبار والأنساب وتاريخ الأمم، فكان يطلق عليهم وعلى الشعراء لتكسُّبهم بالأدب:"الأدباء"، قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب:"اصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على أن يسموا العالم بالنحو والشعر وعلوم العرب: "أديبًا"، ويسموا هذه العلوم "الأدب"، وذلك كلام مولد؛ لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام"2.
وأصبحت كلمة "الأدب" تطلق على الموسوعات في سائر العلوم شعرًا ونثرًا ولغة وبلاغة وتاريخًا ونحوًا وصرفًا، وغيرها كـ"البيان والتبيين" للجاحظ "م 255هـ"، و "الكامل" للمبرد "285 هـ"، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي "م 328هـ"، و "الأمالي"
1 ثمار القلوب: للعثالبي ص529.
2 شرح أدب الكاتب: الجواليقي ص14.
لأبي علي القالي "م 356هـ"، ولما كان القرن الرابع الهجري، أصبح "الأديب" يطلق على الشاعر والكاتب والناقد فقط، قال ابن خلدون في حد الأدب:"هذا العلم لا موضوع له، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليبهم ومناهجهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصيل به الملكة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساوٍ في الإجادة"1.
وهكذا ظلَّ الأدب في العصر الحديث يطلق على الشعر والنثر الفني الجيد، الذي يترك المتعة الفنية عند القارئ والمتلقي، وما يتصل بهما من تاريخ الآداب ونقدهما والعلوم والثقافة؛ فالأدب عند الدكتور طه حسين هو مأثور الكلام نظمًا كان شعرًا أو نثرًا، ومؤرخ الأدب لا يكتفي بمأثور الكلام، وما يتصل به من علوم ومن دراسة تاريخ العقل الإنساني وتاريخ العلوم والفلسفة والفنون2، ويقول الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي:"فالأدب هو كل كلام عبَّر عن معنى من معاني الحياة وجلًا صورة من صورها بأسلوب جميل، ولفظ بديع فتثير معانيه العاطفة، وتستثير بلاغته الإعجاب. فإن أجود البيان نثره ونظمه ما صدر عن الطبع وجاء عفو القريحة من غير تكلف ولا استكراه ولا إغراب، ومتى كان الكلام جيدًا على هذا النحو فهو الذي نسميه أدبًا"3.
والأدب يختلف من عصر إلى عصر، لذلك قسمه الأدباء والنقاد إلى عصور أدبية على النحو التالي: العصر الجاهلي، وعصر صدر
1 المقدمة: ابن خلدون ص488.
2 الأدب الجاهلي: 1/ 18، 19.
3 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص4.
الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي الأول، والعصر العباسي الثاني، والعصر الأندلسي، وعصر الدويلات، وعصر المماليك، والعصر العثماني، والعصر الحديث، والأدب المعاصر.
هذه الأطوار المختلفة للأدب وتاريخه ونقده، تنوَّعت واختلفت من حيث المفهوم والأصول والقواعد والفنون، بل أصبحت تختلف من عصر إلى عصر، حسب تنوع الروافد والعلوم والثقافات والتيارات المختلفة، لذلك صار الأدب العربي ونقده خاضعًا للتغيرات والعصور والبيئات، لا يثبت على حال، ولا يستقر على أصول ولا مصطلحات وقواعد؛ لأنه صورة للحياة فيكل عصر، وقطعة منها، يتردَّد صداها في نفس الأديب، فيصورها حسب الاتجاهات الأدبية والنقدية المعاصرة، ثم يميّز الناقد الأدبي بين الجيد منها والرديء، حسب مطابقة الأدب لمقاييس النقد الأدبي الجيد ومصطلحاته في كل عصر؛ فيصفه بالجودة والإحسان، أو مخالفته لهذه القواعد والمصطلحات؛ فيصفه بالرداءة.
تلك هي طبيعة وخصائص الأدب العربي ونقده؛ فهي خاضعة للتغيير والتجديد والتحديث، لأنها نتاج البشر المخلوق، الذي لا يثبت على حال، بل يزدهر ويتقلَّب بين سائر الأحوال والثقافات؛ فهذه الخصائص الفنية لأدبه وكلامه، وهما على النقيض تمامًا لكلمات الله العليا، والأدب القرآني المقدس؛ فليس من المنطق المستقيم التسوية في الموازنة بينهما، ولا يقبل العقل والوجدان والحس أن يتعامل معهما على السواء؛ بل لكلٍّ مجاله وسماته وخصائصه التي ينفرد بها عن الآخر، كما يتضح ذلك أكثر في توضيح الأدب القرآني.