الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، والمشعر الحرام في المزدلفة، وقال تعالى في بيان المبيت بمنى ورمي الجمار:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] ، أي من استعجل النظر من منى بعد يومين من الرمي فلا إثم عليه، ومن تأخر حتى يرمي في اليوم الثالث وهو النفر الثاني فلا حرج لمن اتقى وأراد الأكمل، ليتزود وخير الزاد التقوى، قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97] .
من وحي المناسك في الحج:
فريضة الحج ركن من أركان الإسلام، يجب على المسلم أداؤها إذا توفرت له القدرة والاستطاعة، قال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، ويعذب بتركها؛ فإذا أدَّاها رجع بلا ذنب ولا جريرة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" 1، وقال أيضًا: والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"2.
1 رواه مسلم: ج1، ص526.
2 رواه مسلم: ج1، ص526.
ومن يتأمل هذه الفريضة يعلم أن مشاعرها لا يكفي أداؤها بالقول والفعل فقط، بل ينبغي أن يعيش المؤمن مع أسرارها، وما توحي به من مقاصد أخلاقية وغايات روحية؛ فينفعل مع المناسك بوجدانه، ويسبر أغوارها، ويتعمق في أبعادها، ويقف على أهدافها ومقاصدها؛ فلكل منسك من مناسك الحج إيحاءاته الروحية الصافية التي تهذب النفس وتسمو بها، وأخلاقياته الإيمانية الفاضلة التي تظهر الروح، ومن تلك الإيحاءات العميقة، وهذه الأخلاقيات السامية:
الفرق بين الحج وغيره من الأركان:
الصلاة تحتاج إلى نية للدخول فيها، والصوم يحتاج إلى تبيين نية الصيام قبل طلوع الفجر، والزكاة لا تصح إلا بنية فريضة الزكاة، حتى تتميز عن الصدقة العامة وعن التبرع والتطوع، وعن النفقة الواجبة على من تجب عليه.
أما الحج فهو لا يحتاج إلى تلك الإضافات في الأركان السابقة، لأنه في ذاته هو النية والقصد كما تواضع عليه أهل اللغة والشرع، وعلى ذلك فهو يتميز عن غيره، بأنه لا يحتاج إلى إضافة ولا ضميمة، ولا إلى تقديم أو إلى تثبيت، ولا إلى تهيئة أو إلى تمييز؛ فإذا قال الحاج عند الإحرام سأحج هذا العام لله تعالى يكفيه عن أن يقول: نويت أداء فريضة الحج لله تعالى، كما يقول في الصيام: نويت صوم رمضان هذا العام لله تعالى، وهذا هو الفرق بينهما.
وحي الإحرام:
إذا لبس الحاج رداء الإحرام وإزاره، وتجرد من كل مظاهر الزينة
والتفاخر والتمايز، فإنه يرجع بذلك إلى بداية حياته، وإلى نهايتها، وإلى يوم محشره، حين خرج إلى الدنيا مولودًا مجردًا من كل شيء تتلقاه لفاقة تستر عورته، وتحفظ جسده من الحر والقر؛ فهو أشبه بثياب الإحرام بلا مخيط ولا زينة، وكذلك حين يخرج من الدنيا فيلف جسده في لفافة أو لفافتين بلا مخيط ولا زينة ليشيع إلى مقره الأخير، ثم أخيرًا يبعث يوم القيامة مجردًا من كل ذلك، ليدل هذا كله على أن متاع الحياة الدنيا ذاهب، ومظاهر النعيم فيها عرض زائل، إلا ما كان في طاعة الله تعالى، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ليس لك يا ابن آدم من مالك إلاما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، او تصدقت فأبقيت"1.
وحي أم القرى:
إذا أقبل الحاج على "أم القرى" رجع بعقله وقلبه إلى الماضي البعيد حين أذن خليل الله تعالى عليه السلام في الناس بالحج؛ ليظل هذا النداء باقيًا إلى قيام الساعة، يحرك المؤمن في شوق ولهفة أكثر من مرة، مصداقًًا لقوله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] ، كما يتذكر أيضًا دعوته المستجابة في أرض صحراء مقفرة، لا ماء فيها ولا زرع ولا ضرع، فإذا بها الماء والزرع والضرع، بل أكثر من ذلك حين تنهال على "أم القرى" دائمًا جميع الخضروات والفواكه لجميع فصول السنة من أنحاء العالم خلال العام كله، مما لا يوجد في أي قطر من أقطار الدنيا، مصداقًا لقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
1 متفق عليه.
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] ، ويتذكر أيضًا أن "مكة المكرمة" هي المدينة الوحيدة في العالم، التي يجتمع فيها المسلمون للعبادة كل عام من جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ لذلك سميت "أم القرى"، وأثبت العلم حديثًا أنها المركز الوسيط بين مدارات الأرض.
وحي الكعبة المشرفة:
وحين يستقبل الحجيج بيت الله الحرام، يشعر كما قال الله تعالى أنه في أول بيت:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، لذلك تشد إليه الرحال ويضاعف فيه الأجر إلى مائة ألف ضعف؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" 1، وفيه الكعبة المشرفة، التي رفع قواعدها خليل الله وابنه إسماعيل عليهما السلام جد العرب والنبي صلى الله عليه وسلم، وتوحي للمؤمن وهو يطوف بها بتوحيد قلوب المسلمين قبلة واحدة في جميع بقاع الأرض:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ؛ ليعبدوا ربًّا واحدًا، في عقيدة وشريعة واحدة جاء بها الإسلام، وما عداها فهو باطل، مهما تفرقت الشيع والمذاهب والأحزاب، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] .
1 رواه مسلم، ج1 ص522.
وحي ماء زمزم:
ويتذكر الحاج أن ماء زمزم ليس ماء عاديًّا، وإنما هو آية عجيبة من المعجزات، تتعطل معها علل العقل البشري وقوانينه الوضعية؛ فبينما السيدة هاجر أم إسماعيل عليه السلام تهرول بين الصفا والمروة سبع مرات للبحث عن الماء حتى تروي طفلها بعد أن أشرف على الموت، وإذا به يضرب بقدميه الضعيفتين الأرض من تحته؛ فينفجر منها الماء، فيه شراب وشفاء وطعام، وتسرع إليه أمه فتزم الماء حتى لا يتبدد سدى، وأصبح يسمى "ماء زمزم"، ليعلم الإنسان أن الأرزاق يصرفها الخالق؛ فالأم بعد أن أضناها التعب وأهلكها السعي بين الصفا والمروة يتفجر الماء تحت قدمي طفلها، الذي لم يفكر فيه ولا يقوى على السعي والحركة؛ فيصير الماء معينًا لاينضب إلى يوم القيامة فيه شراب وطعام وشفاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ماء زمزم لما شرب له"، وما أكثر آيات الله المعجزة وعجائبه الباهرة، من حيث مصدره وطبيعته وثرائه المتنوع.
وحي السعي بين الصفا والمروة:
ومن أشق مناسك الحج السعي بين الصفا والمروة سبع مرات، يخرج منها الساعي مرهقًا وقد خارت قواه؛ ليوحي إلى المؤمن، بأن عليه أن يبذل غاية جهده في البحث عن رزقه ورزق من يعوله، كما فعلت السيدة هاجر أم العرب ابتغاء مرضاة ربه، ولا ينتظر أن يأتيه لا من هذا السبيل، ولا من ذاك، وربما يكون من غيره؛ فيسلم أمره لله مقدر الأرزاق، ومقسم العطايا من أي موقع وفي أي وقت، وما عليه إلا أن يتخذ الأسباب ويتوكل على الله بلا تواكل ولا تقاعس ولا كسل؛ لأن رزقه قد يجريه الله تعالى على يد إنسان آخر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25] .
وحي عرفة:
في اليوم التاسع من ذي الحجة يلتقي الحجيج جميعًا في إزار ورداء واحد من بقاع شتى في أنحاء العالم، وقد اختلفت ألسنتهم وأجناسهم وألوانهم وأعمارهم وقاماتهم وشعورهم وأنواعهم، يرددون شعارًا واحدًا:"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، يناجون إلهًا واحدًا لا شريك له، ويخشون عذابه، ويطمعون في رحمته وجنته في خشوع وخضوع، وذلة وانكسار، ودعاء ورجاء وخوف، ورغبة ورهبة في هذا الموقف المهيب الرهيب، يتذكر الإنسان تجرد الناس في المحشر يوم القيامة:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]، {يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33] ، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89] ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34-36]، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 16- 17] .
وحي جبل الرحمة:
يقف الحجيج بجوار جبل الرحمة كما وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على مرتفع منه راكبًا ناقته القصواء يستمعون إليه في خطبته
المشهورة رضي الله عنهم جميعًا، تلك الخطبة الجامعة التي أوحت بأن دين الإسلام قد اكتمل، فقد جاء الحق وزهق الباطل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وأن الرحمة قد عمت جميع الخلق، وتحقق قول الله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فأحس المسلمون بقلوبهم الطاهرة الصافية بأن هذا العام عام الوداع، وأن هذه الحجة هي حجة الوداع، إنهم يودعون خاتم الأنبياء والمرسلين، بعد أن أظهر الله على يديه الإسلام؛ فبكى كبار الصحابة رضي الله عنهم لمرارة الفراق، ولذلك سميت هذه الخطبة بـ "خطبة الوداع" التي أصبحت وثيقة تشريعية جامعة لمنهج الشريعة الإسلامية، حيث يقول في ختامها:"اللهم بلغت ثلاثًا اللهم اشهد".
وحي المزدلفة والمشعر الحرام والإفاضة:
بعد غروب الشمس من يوم عرفة يفيض الحجيج رجالًا وركبنًا إلى المزدلفة والمشعر الحرام طاهرين من كل الذنوب والأوزار كما ولدتهم أمهاتهم، فيباهي الله تعالى بهم الملائكة بأنه قد غفر لهم بعد أن وفقهم إلى أداء هذه الفريضة، فأمرهم بالذكر والشكر على هذه المنة بعد أن هداهم إليه في قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] ، ثم يوجههم بعد الغفران إلى كيفية الدعاء والاستغفار النافع لهم في الدنيا والآخرة، فيقول سبحانه بعد ذلك مباشرة: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 199- 202] ، فينطلق الحاج بعد رمي الجمرة الكبرى يوم النحر إلى آخر أركان الحج وهو "طواف الإفاضة" ثناء على الله تعالى وشكرًا له على أن هداه لمغفرته ورضوانه.
وحي الجمرات والأضحية والهدي:
في يوم عيد الأضحى وأيام التشريق الثلاثة في منى حين ترمي الجمرات الثلاث يتأمل الحاج هذا الموقف؛ فيتذكر جهاد النفس مع هواها ومع الشيطان في كل حين، فهو يجري من النفس "كمجرى الدم من العروق" لينتصر عليه ويرد كيده ويحبط ألاعيبه، كما انتصر عليه في مواقع الجمرات الثلاث خليل الله إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل عليه السلام، وهو في كل مرة يصرفه عن ذبح فلذة كبده كما أراه تعالى في رؤيا الأنبياء الصادقة، ولم يتردد لحظة، بل ازداد في كل موقع منها تصميمًا وإصرارًا، حتى وضع السكين وحزَّه بشدة تنفيذًا لأمر ربه، وإذا بكبش الأضحية والفداء، ينزل من السماء ليفتدي به ابنه جزاء للصابرين والمحسنين، فكانت شريعة الأضيحة والفداء والهدي لمن ترك واجبًا من واجبات الحج، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ
يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 102- 107] ، ثم يتذكر الحاج الذبيح الثاني وهو عبد الله بن عبد المطلب أبو خاتم الأنبياء والمرسلين، حين افتداه زعماء مكة بذبح مائة من الإبل، لأن جده عبد المطلب حين تكاثر أبناءه أخذ على نفسه نذرًا أنه إذا رُزق بولد آخر وهو عبد الله فإنه سيقدمه قربانًا لنذره، فكان نبينا صلى الله عليه وسلم "وليد الذبيحين".
وحي الحلق والتقصير:
بعد رمي جمرة العقبة الكبرى في صبيحة النحر، وبعد تقديم الهدي والأضحية، وقبل أن يتجرَّد من لباس الإحرام، يردّ الحاج مرة أخرى كيد الشيطان بطريق محسوس في فرحة وطهر، فيتجرد عن شعره بالحلق، أو يتخلَّى عنه بالتقصير، وينتزع جسده الطاهر من شعر رأسه كما محا الله سبحانه وتعالى عنه ذنبه، وجرده من أوزاره، لأنه عاد من عرفة طاهرًا من ذنوبه "كيوم ولدته أمه"، واليوم يتجرد من الشعر وثياب الإحرام ليعود إلى ما جرى عليه العرف بين الناس من التزين بألوان الزينة ومختلف الثياب، قال تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] .