الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والروحية منهجًا وأخلاقًا، بمعنى أن كل ما اشتملت عليه من عبادات ومعاملات وغيرهما، إنما هو وسيلة لغاية كبرى، وهي البناء الأخلاقي المتكامل للبشرية، في منهج تشريعي من قبل الحق عز وجل، لا من البشر، الذين يعتمدون على الظن والفوضى والتخمين في علومهم ونظرياتهم القاصرة، قال تعالى:{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النساء: 157]، وقال تعالى:{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} [يونس: 36] .
العبادات وأثرها في بناء القيم الاجتماعية والاقتصادية:
العبادات: من طهارة وصلاة وزكاة وصوم، وحج وعمرة، ومن اتباع لما أمر الله به من أوامر، واجتناب لما نهى الله عنه من محرمات، ثم التطوع والنقل، وغير ذلك مما كان الهدف الإسلامي منه هو البناء الأخلاقي المتكامل للبشرية، فالعبادات من صلاة وصوم ويغرها ليست مقصورة لذاتها، بل هي وسيلة لغاية أسمى، وهي بناء الخلق الفاضل في المسلم، فليس المقصود من الصلاة هي عملية ترويض الجسم بالقيام والركوع، والاعتدال والجلوس والسجود، بل المقصود منها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليس المقصود من الصيام هو تعذيب النفس بالجوع والعطش؛ لكي يصح البدن فحسب، ولكن المقصود الأسمى هو بناء خلق المسلم على المحبة والعطف والرحمة، والصبر والأمانة والمواساة، وغير ذلك من مبادئ الأخلاق الإسلامية، كما أن الأخلاق التي تنميها العبادات في النفس ليس المقصود منها أن تكون أخلاقًا أنانية ذاتية للشخص نفسه فحسب، ولكن المقصود منها هو أن تكون أخلاقًا.
اجتماعية يتعامل بها مع الناس، فالدين المعاملة، لهذا كان المقصود من العبادات والغاية منها هي تربية الأخلاق في النفس وتنميتها لكي يحسن المعاملات والعقود التي تجري مع الناس تبعًا لسنة الحياة وناموس الطبيعة الإنسانية الاجتماعية، وهذا يقتضي أن تقف على الأخلاق التي تغرسها العبادات في النفس البشرية.
وأما الأخلاق الاجتماعية التي تنمِّيها الصلاة في النفس فهي المساواة، والشكر، والخوف والمراقبة المستمرة، والمواظبة على العمل؛ فالمساواة في الصلاة بين الناس مهما اختلفت أجناسهم وتباينت منازلهم، وتنوعت ألوانهم؛ فالجميع يقف أمام الله في صف واحد تنتفي فيه فوارق الثراء، وتمايز الدم، وتذوب الألوان، فيشعر الفرد بأنه من الجماعة وللجماعة، وتتوثق الروابط الأخوية، التي تعين على التعاون في مجالات الحياة المختلفة، وفي مجال المعاملات الاقتصادية، التي هي في أشدِّ الحاجة إليها، وهي الشعور بالمساواة والإخاء.
والصلاة في ذاتها إنما هي عمل خالص في الشكر والثناء على الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى أسبغ على الإنسان نعمًا ظاهرة وباطنة، كالعقل والبصر والسمع واللسان وسائر الجوارح، ويسَّر له كل أسباب النعم والحياة، وهذه النعم تقتضي من الإنسان أن يشكر ربه شكرًا عمليًّا لا باللسان فقط؛ لذلك كانت أعمال الصلاة قد اشتركت فيها جميع الجوارح من الخضوع والخشوع، لتؤدي بذلك الشكر العملي لله عز وجل، وبالمتابعة في الصلاة والمواظبة عليها، تنمو في النفس غريزة الشكر، التي سيكون لها دور كبير في العقود والمعاملات، فيتعامل الإنسان مع الناس بالشكر والتقدير، لتيسير الخدمات وتحضيرها، وتقوم المعاملات
على أساس من الاحترام والتقدير، مما يكون له أثر كبير في مجال الاقتصاد الإسلامي {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19-23] .
وتنمي الصلاة غريزة الخوف من الله عز وجل دائمًا، وما أحوج العقود والمعاملات بيننا إلى غريزة الخوف والمراقبة لله عز وجل، فتنأى النفس عن السرقة والغصب والغشِّ والاختلاس والغبن والغرر والظلم والتطفيف والبخس والتناجش، وغيرها من المحرمات، وتنمي الصلاة في النفس غريزة المواظبة عليها خمس مرات في اليوم والليلة، وما أحوج المعاملات والعمل إلى المواظبة والاستمرار، فبهما يتضاعف الدخل، ويتزايد الإنتاج، ويسمو الاقتصاد الإسلامي، وهذه الغرائز كلها تربِّي في النفس ضمير المؤمن الصادق، الذي يراقب الله في السر والعلن، فتستقيم النفس على الجادة، وتتجنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، لذلك يقول الله عز وجل:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وفي الحديث الشريف:"ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"، وقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2] ، فإذا لم تؤدّالصلاة رسالتها في تحقيق هذه الغرائز ولم تحقق الثمرات السابقة في النفس، كانت كالعدم سواء، وصارت عديمة الجدوى، وهذا هو ما أشار إليه الحديث القدسي الشريف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي، ولم يبت مصرًّا على معصيتي، وقطع النهار في
ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلأه بعزتي، وأستحفظه ملائكتي، أجعل له من الظلمة نورًا، ومن الجهالة حلمًا، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة" "رواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنه".
وأداء الصلاة على وجهها، معناه استقامة النفس على الجادة والإيمان؛ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وعدم أدائها على وجهها هو اتباع الشهوات والزيغ والضلال، قال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، وصلاح الأعمال في الدنيا والآخرة يرجع إلى إتقان الصلاة والإخلاص، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله""رواه الطبراني"، ولذلك كانت الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، قال صلى الله عليه وسلم:"رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله""رواه الطبراني".
وأما الأخلاق الاجتماعية التي تنميها الزكاة، فهي تطهر الغني من الشح والبخل والحرص المدمر، وإذا تجرَّدت النفس من هذه الفواحش الذميمة جبلت على الكرم والسماحة، وحسن المعاملة وغيرها مما يؤدِّي إلى سماحة البذل والمعاملة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى واقتضى""فتح الباري 5/ 211"، فالزكاة تطهير للغني من الشح والبخل، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
[التوبة:103] ، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى النفس السمحة التي تغلبت على شحها بالفلاح والفوز، قال تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، وتطهر الفقير من الحقد والحسد والبغضاء، لتطبع نفسه على المحبة والسماحة في المعاملة.
وأما الأخلاق الاقتصادية التي تنميها الزكاة، فهي تحثُّ على الاستثمار وعلى الاستهلاك، وكلاهما ضروري في مجال العقود والمعاملات، فتحصيل الزكاة من الأغنياء، يدفعهم إلى استثمار أموالهم، وإلا تآكلت من الزكاة كل عام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:"اتجروا بمال اليتيم حتى لا تأكله الزكاة"، فاكتناز المال يؤدّي إلى خطرين: القضاء عليه وإهلاكه بعدم الاستثمار والتنمية، والقضاء على صاحبه بالعذاب الأليم في الآخرة، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ، وكذلك تحث على الاستهلاك، فالذين يحصلون على الزكاة يستهلكونها في قضاء حاجتهم مما يؤدّي إلى زيادة الاستهلاك، وهذا بدوره يؤدّي إلى زيادة الاستثمار، وسداد ديون الغارمين في الزكاة يشجع الأغنياء والفقراء على القرض والاقتراض لضمان السداد من سهم الغارمين، إذا عجز الفقير عن أداء الدين، وهذا يؤدِّي بدوره إلى الاستثمار أيضًا، وكذلك فالزكاة تحثُّ على العمل وتشغيل رءوس الأموال والعاطلين، فحينما يقضي الفقير حاجاته يؤدِّي إلى كثرة الاستثمار والاستهلاك، مما يؤدي إلى الحث على العمل وتشغيل العاطلين.
وأما الأخلاق الاجتماعية التي تنميها فريضة الصوم فهي الصبر، وقوة العزيمة، وأسمى أنواع الأمانات، وكلها من مبادئ الأخلاق في
العقود والمعاملات، أما الصبر فيغرس في النفس من احتمالها على الجوع والعطش، وهما من ضروريات حياتها وبقائها، والصبر على الضروريات من أشدّ ما تكايده النفس وتعانيه، وبهذا يكون الصبر عليها أقوى من الصبر على غيرها من الكماليات أو اللغو في الحديث أو الفحش في القول وغير ذلك، وأن كان ذلك كله محرمًا أيضًا على الصائم، وينبغي أن يتجنبه ما دام صائمًا، ويصبر على مقاومته، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة" ويقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه""رواه البخاري"، قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] ، فالصبر على الطعام والشراب سلاح ضدِّ الشيطان وهوى النفس والشهوات، قالت عائشة رضي الله عنها:"أول بلاء حديث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم""رواه البخاري".
والصبر الذي يغرسه الصوم له دوره الفعال في مجال العقود والمعاملات، فهو سلاح قوي يقاوم الشطط في الأسواق ويحارب شهوات النفس من حبها للمال وجمعه بشتى الوسائل، ويوزن التصرفات المالية على أساس من الحكمة والاتزان، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، فإذا ما كان أحد المتعاقدين صابرًا بضبط نفسه، كان النجاح والتوفيق حليف المتعاقدين في العقود والتصرفات والمعاملات، وكذلك الصوم يربي في النفس أسمى أنواع الأمانات البشرية، وهي الأمانة الخالصة لوجه الله عز وجل، فالأمين على حاجات الناس قد يتمسَّك بالأمانة، ويزداد تمسكًا وحفاظًا كلما أثنى على أمانته الناس؛ فزيادة التمسك بالأمانة يرجع إلى ثناء الناس لا ابتغاء وجه الله عز وجل،
ولذلك لم تكن خالصة لله، بل قد تعتريها شبهة الاستجابة لثقة الناس فيه، بينما الأمانة التي يغرسها الصوم لا تعتريها هذه الشبهة، بل تكون خالصة لوجه الله عز وجل؛ لأن أداء الصوم بشروطه وأركانه لا يكون طمعًا في رضى الناس عنه وخوفًا منهم، فقد يتظاهر الإنسان بالصوم أمام الناس إرضاء لهم، أو خوفًا منهم، ثم يأكل ويشرب في الخفاء، وإنما يكون أداء الصيام ابتغاء مرضاة الله خالصًا لوجهه الكريم؛ لأنه يعلم السر وأخفى، ويرى الصائم دائمًا لا تخفى عليه خافية، لذلك يكون الصائم أمينًا، وتكون أمانته أسمى أنواع الأمانات؛ لأنها خالصة لله عز وجل، لا تظاهرًا ولا رياء ولا سمعة، ولا طمعًا في شهوات النفس، ومن ثم يقول الله عز وجل في حديث قدسي:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به""رواه البخاري"، وما أحوجنا في العقود والمعاملات إلى هذا النوع السامي من الأمانة التي يغرسها الصيام في النفس، حينئذ يتعامل الناس فيما بينهم على أساس مجرد من الهوى أو الرياء أو التظاهر، وتكون تصرفاتهم في عقودهم ومعاملاتهم ابتغاء مراضة الله عز وجل، فلا يتظالم الناس ولا يأخذون أموال غيرهم بالباطل.
وأما تنمية الأخلاق الاجتماعية عن طريق مشاعر الحج، فيعود إلى ما يغرسه الحج في النفس من مبادئ سامية، أهمها التكافل الاقتصادي بين شعوب الأمة الإسلامية، فتتحد كلمة المسلمين على الوقوف بجانب البلاد الفقيرة لتغطي حاجاتها، وتتعاون معها في سبيل النهوض بها، وإقالتها من عثرتها، لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة من شهود المنافع للمسلمين، قال تعالى: {وَأَذِّن