الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدب الرحمة بالطفل عبادة وسلوك تربوي:
إذا عاش الطفل في أسرة تفيض بالحب والرحمة، وفي مجتمع يلفه بالشفقة والعطف والحنان، ينشأ متأدبًا بآداب الرحمة، متذوقًا لأساليب الحب والجمال والخير والحق، فيشب الطفل عاشقًا للرحمة والمحبة، متخذًا صورها الجميلة في قوله ومنهجه وسلوكه؛ لأن أدب الإسلام في جميع صوره حث عليها منذ الصغر على أنها عبادة وطاعة، ومنهجًا وسلوكًا؛ فقد صور القرآن الكريم الرحمة بما يعجز عنه البشر؛ فلم تخل سورة من تصوير قرآني لها تهتز لها العاطفة، وتبعث فيها الحرارة والصدق والدفء، وتغمر الوجدان فتحييه بالإيمان والإخلاص، والحب والمودة، فأصبح مفتاح كل سورة {بسم الله الرحمن الرحيم} ، لأن الله عز وجل {الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة} [الأنعام: 133] ، ورحمته وسعت كل شيء {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147] ، وجعل آية الزواج وثمرتها العجيبة المودة والرحمة في السكن والولد {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] .
وفي الحديث الشريف يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة: "لما خلق الرحم قال تعالى: أنا الرحمن وأنا الرحيم شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته" 2، وعن أبي هريرة رضي الله عنه
1 الديوان، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.
2 بصائر ذوي التمييز 3/ 53.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم؛ أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} " أخرجه البخاري 10/ 532، وقد حثت الأحاديث الشريفة على الرحمة بالبنين والبنات، وتأديبهم بآدابها البليغة وصورها الأدبية الجميلة، التي تتفتح لها منافذ الإدراك في النفس، وفي رواية أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عال ثلاث بنات فأدبهنَّ ورحمهنَّ وأحسن إليهنَّ فله الجنة" رواه الإمام أحمد 3/ 98، وفي رواية جابر بن عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له ثلاث بنات يؤدبهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة، فقال رجل من القوم: وثنتين يا رسول الله؟ قال: وثنتين" رواه البخاري في الأدب المفرد، وفي رواية أخرى: "وواحدة"، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم" أخرجه ابن ماجه 291/ 2، وروى عبد الله بن عمر قال: "أدب ابنك فإنك مسئول عنه، ماذا أدبته؟ وماذا علمته؟ "1، وعنه أيضًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ، وهو مسئول عن رعيته" متفق عليه
…
البخاري 718/ 2.
وحث الإسلام الكبير على الرحمة بالطفل لضعفه وقلة حيلته،
1 تحفة المودود في أحكام المولود: ابن القيم ص153.
فإذا امتلأت قلوب الأطفال بصور الرحمة الجميلة وأدبها المهذب، شبوا قادرين على النهوض بأمة الإسلام؛ لتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] ، ومن الباقيات الصالحات رعايتهم وتأديبهم، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، روى أبو هريرة قال:"قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا؛ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من لا يرحم لا يرحم" أخرجه البخاري 426/ 10، وقال أبو قتادة رضي الله عنه: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها" أخرجه البخاري 426/ 10، وعن عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "وضع صبيًّا في حجره يحكنه فبال عليه فدعا بماء فأتبعه" أخرجه البخاري 433/ 10، وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إله أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّيْ أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدِّي فوجدت ليده بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار" أخرجه مسلم 1814/ 4 "وجؤنة العطار: وعاء يعد فيه الطيب".
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يضمهما ثم يقول:"اللهم ارحمهما فإني أرحمهما" أخرجه البخاري 434/ 10،
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم مسترضعًا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت، وأنه ليدخن، وكان ظئره قينًا، فيأخذه فيقبله ثم يرجع" أخرجه مسلم 1808/ 4 "والظئر: زوج المرضعة، وقينًا: حدادًا"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار، لا يكلمني ولا أكلمه، حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة فقال: أثمَّ لكع، أثمَّ لكع "الصغير" يعني حسنًا؛ فظننًا أنه إنما تحسبه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابًا "قلادة الأطفال"؛ فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني أحبه وأحبُّ من يحبه" أخرجه مسلم 1782/ 4، وعن يعلى بن مرة أنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعينا إلى طعام؛ فإذا حسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم، ثم بسط يديه؛ فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه، ثم اعتنقه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الحسين مني وأنا من الحسين، أحبّ الله حسينًا، الحسين سبط من الأسباط" أخرجه البخاري 459/ 1.
عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سنه، سنه"، قال عبد الله: وهي بالحبشية: حسنة، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزوَّجرني أبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبلي وأخلقي" "دعا لها باستهلاك ثياب كثيرة"، قال عبد الله: فبقيت حتى ذكر يعني: من بقائها" أخرجه البخاري "425/ 10، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال
له أبو عمير -قال كنت أحبه وكان فطيمًا- قال: فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا عمير، ما فعل النفير بك؟ قال: فكان يلعب به، أخرجه البخاري 426/ 10، وقال أبو هريرة:"سمعت أذناي، وبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين -صلوات الله عليهما- وقدميه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ارق، فرقى الغلام حتى وضع قديمه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افتح فاك"، ثم قال: "اللهم أحبه، فإني أحبه" أخرجه البخاري 348/ 1، وقال الطبراني: قال عليه الصلاة والسلام: "خير بيت في المسلمين يبيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه، فقال له: "أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلين قلبك، وتدرك حاجتك" كنز العمال 173/ 3.
ومن القيم الخلقية في الأدب الإسلامي أدب العدالة بين الأطفال، فلا يضارون بصور الظلم وأنواعه من الأسرة أو من المجتمع، مما يترك أثرًا بناء في تهذيب نفسه، وفي رقة مشاعره وعمارة وجدانه؛ فيشب على المحبة والمودة والتعاطف والتعاون، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} ، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ} ، {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْط} ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} ، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، ولقد أنقذ الخضر وموسى -عليهما
السلام- حقّ اليتيمين من مجتمعهما الظالم الشحيح {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82] ، هذا ما يجب على المجتمع من رفع الظلم عن المسلم وعن الطفل الضعيف، وإرساء العدالة الاجتماعية بينهم، وأما موقف الأسرة من ذلك فقد قال تعالى فيها:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} إلى قوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 9-11] ، في تصوير قرآني معجز، وكذلك في ضرب مثلين متقابلين، أحدهما يصور المنفق على أهله وغيرهم ابتغاء مرضاة الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا بالعدل، والآخر لا يؤدي ذلك في تصوير قرآني يهزّ أعماق الكبير ووجدان الصغير؛ فالأول كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، والآخر كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا، ثم يزيد الآخر توضيحًا وتفصيلًا وبلاغة وإعجازًا فيقول تعالى:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266] .
والأحاديث الشريفة البليغة التي وردت في ذلك كثيرة، وهي عامة للأطفال وغيرهم؛ لكنني سأقتصر على بعض ما يخصّ الصغار لعدم الإطالة، قال عامر: "سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو على المنبر