الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بـ "الفاء" التي تدل على التلهُّف لأنفه الأمور للحظة وجيزة، فمثل عمل المنافق غير باقٍ ولا خالد، مما جد في طلبه وتحصيله، فالله المنتقم الجبار، قد أخفق سعيه، وأذهب الضوء الخافت ليزداد الليل ظلامًا على ظلامه، فاختفى "النور" للدلالة على عين النار وأثرها وهو الضوء معًا، فلم يبق منهما شيء في جوف الليل، ثم ازداد الليل وحشة ورعبًا بمجيء قوله:"وتركهم"، فالترك من الله لا من غيره، يعد من أشد ألوان العذاب، ومجيء الجمع للظلام في قوله:"في ظلمات"، فهي ظلمات بعضها فوق بعض؛ لأن الظلام بعد النور يكون أشد وأنكى على النفس، وفي قوله:"لا يبصرون" يصفهم القرآن لا بالعمى، بل بنفي الإبصار وهو أشد؛ لأن نفي الشيء أبلغ من إثباته فقط، فالنفي إثباتًا وعدم في وقت واحد، ليقيم الدليل على الإثبات بالنفي، وما أروع التصوير القرآني بعد النفي المطلق بالمصدر؟ الذي يدل على الحدث والصفة مجردة من الزمان المتجدد، ليدل على الثبوت والدوام في قوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ، فقد انقطع منهم كل رجاء أي رجاء، فلم يكن العمى وحده صفتهم، بل أصيبوا بالصم والبكم وعدم الرجوع إلى الحق والخير والإيمان الصادق.
آمال المنافق صواعق:
ومن خلال مشاهد الطبيعة يصورها القرآن الكريم في مشهد حي يموج بالحياة والحركة من السماء والأرض، والضوء والظلام، والرعد، والبرق، والصواعق والموت، فيبث فيها القرآن روحه المعجزة، لتصير صورة قرآنية خالدة يتحدَّى بها البشر كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 19، 20] .
منابع التصوير القرآني:
ومثلهم السيء أيضًا كمثل "صيب" أي: مطر غزير، وليس مطر أي مطر، فهو دون الصيب بكثير، والصيب فيه قتامة وعتمة تثير الخوف، ويشتدُّ أكثر حين يجتمع مع "الظلمات" الكثيفة المرعبة، و"رعد" ضخم مزعج، و"برق" منتشر مطبق لا يبدِّد الظلام بل يخطف الأبصار، حين يجتمع كل ذلك تكون البلوى أشد وأعظم، والمصيبة أدهى وأمر؛ فيسرع المنافقون ليضعوا "أصابعهم" لا أناملهم في آذانهم؛ فالأذن لا تتسع إلا لأنملة واحدة لا لأنامل الأصابع، للدلالة على شدة الخوف وعظيم القلق في نفوسهم؛ فتأخذهم الدواهي غير العادية وهي "الصواعق" التي لا تبقي ولا تذر، وما أدق التصوير بالصواعق لا بالدواهي ولا بالصاعقة الواحدة، وفي ذلك ما فيه من شدة العقاب، ومما هو أشد وأنكى عليهم أن {اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِين} ، يحصي عليهم سيائتهم، ويحاسبهم عليها حسابًا عسيرًا، كما أن البرق لا الضوء يخطف أبصارهم حتى يزدادوا حيرة وضياعًا في قوله:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} ، وما أشد حيرتهم وقلقهم، فهم دائمًا قائمون لا يقعدون ولا يستريحون مطلقًا، ولا يهدأون ولا يستقرون، متحفزون دائمًا للبحث عن الضوء في أي مكان، وهذا هو نهاية القلق وغاية الحيرة كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} ، وتأمل معي التصوير بـ "كلما"، فهي تصور عدم الاستقرار ومتابعة القيام لا القعود، فهم دائمًا قيام لا قعود، ثم ذلك الوعيد الشديد من الله عز وجل بأنه وحده هو القادر على أن يذهب بأبصارهم وأسماعهم؛ فلا يبصرون ولا يسمعون ولكن الله أراد أن يعذبهم بها على النحو السابق؛ لأن الإنسان حينما تذهب عنه هذه النعم مرة واحدة، ينسى أمرها ويصير شيئًا عاديًّا؛ فإذا ما ترددت بين الذهاب والعودة، يكو العذاب أشد وأنكى:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
…
ولا الصبابة إلا من يعانيها
عناصر التصوير القرآني في الصور الثلاث:
كأن التصوير القرآني البديع يطل من بين الكلمات والألفاظ والصور الحية لهما، وما تمتلئ في حواشيها من محسنات واقعية، يعيشها الإنسان مع الطبيعة والكون والحياة، فإذا ما تسلَّطت عليها أضواء الكون، وظلال الطبيعة، ونبضات الروح ودقاته، ازداد التصوير القرآني إبداعًا، فكان وقعه على النفس أقوى وأشدّ؛ لانسجام عناصر التصوير مع منابعه القوية المؤثرة، فتتلاحم المعاني مع الأضواء والظلال؛ لتعطي صورة حية محسوسة من الكون والحياة والناس، فتأمل معي:
المرارة والقتامة في "الضلالة"، والحلاوة والنور في "الهدى"، والقلة وضآلة الحجم في "نار" وضخامته في "الظلمات"، والمعاناة الشديدة والتباطؤ الوئيد في الإيقاع الصوتي لقوله تعالى:{الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} ، فالشدات والمدات وحروف اللين تصور إيقاعات صوتية بطيئة، تنقل حالة المنافق وهو تائه فيحيرته وتردده
هنا وهناك ليبحث عن النار حتى أعطته ضوءًا خافتًا أضاء ما حوله فقط، بينما يختلف الإيقاع بعد ذلك، فيكون سريعًا، يتناسب مع انخطاف البرق والنور وذهابه بسرعة في قوله تعالى:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} ، و {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} إنه النسق الصوتي المعجز للقرآن الكريم.
وانظر إلى الألوان والأضواء للنور والنار، والبرق، والضوء، والظلمات، والعمى والإبصار، والصم والبكم.
وترى القتام الشديد في الصيب والظلمات والرعد، والموت، والصواعق وما بعد البرق.
وترى حجم المطر كبيرًا، فهو صيب من السماء، والظلمات متراكبة بعضها فوق بعض، والصواعق تسدّ الأفق وضآلة الضوء مع ضخامة الظلمات.
فعناصر التصوير القرآني حية انتزعت من الطبيعة والحياة بحركاتها وأصواتها وألوانها وأضوائها وظلالها وإيقاعاتها الصوتية المنسجمة مع المعاني والأهداف، في تصوير خلَّاق، وصور تنبض بالحياة والحرارة والصدق والقوة والإبداع، إنه القرآن الكريم، وإنه يعلو ولا يعلى عليه.
ولست مع الزمخشري:
يقول جار الله الزمخشري معقبًا على التصوير القرآني في التمثيلين السابقين: "فإن قلت أي التمثيلين أبلغ؟ قلت الثاني، لأنه أدلّ على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته؛ ولذلك اُخِّر وهم يتدرجون في نحور هذا من الأهون إلى الأغلظ".
فيرى الزمخشري أن التصور القرآني للتمثيل الثاني أقوى منه في التمثيل الأول، لأن الثاني أدل على كثرة الحيرة وشدة الأمر.
ولست معه فيما ذهب إليه؛ فكلًا التمثيلين يدل على القدر نفسه من الحيرة وشدة الأمر بدون زيادة أو نقصان في بلاغة الإعجاز القرآني؛ لأن كل صورة قرآنية بلغت حد الإعجاز، فلا تهبط صورة عن أخرى، ولا تعلو صورة عن غيرها، بل الجميع في حد الإعجاز سواء.
والحيرة وشدة الأمر سواء في الصورتين، فأما الصورة الأولى: فنجد فيها الحيرة الشديدة وشدَّة الأمر، والقلق العنيف، والخوف والرهبة، وشدة المعاناة التي يعانيها الإنسان في ظلمات الليل وهو يبحث عن وسائل الضياء، فهو بنفسه يبحث عن الوقود والشرارة، كما يستفاد من الألف والسين والتاء في "استوقد"، وبعد لأي أوقد نارًا ضئيلة لا تسمن ولا تغني، فإذا بالضوء الخافت يذهبه الله تعالى، لأنها ليست نارًا كسائر النيران، بل دون ذلك بكثير، وإذا كان الله هو المعاقب، فهو شديد العقاب، فقد تركهم في ظلمات بعضها فوق بعض بعد أن كانوا في ظلام واحد، وليس بعد ذلك من حيرة ولا أمر أشدّ وأعنف؛ لأن المنافق هنا جد وعمل بنفسه لتبديد وحشته من قسوة ما يعانيه، وعنفه.
وأما الصورة الثانية: فنجد الحيرة الشديدة وشدة المعاناة بالمقدار ذاته؛ فالمنافق لم يبذل جهدًا في تبديد الوحشة والظلمة؛ لأن الصيب والصواعق والرعد والبرق من قبل الله عز وجل، وموقف المنافق هنا موقف الذي يتقي الصواعق بوضع أصابعه في أذنه، وينتهز الفرصة من حين لآخر فيمشي وقت انخطاف البرق؛ ليقف بعد ذلك، وهكذا فهو قائم لا يقعد أبدًا؛ فتعدد وسائل الحيرة هنا من الصيب والرعد والبرق،