الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويربي في الشباب روح الأخوة الإسلامية، والإيثار والتضحية في سبيل الله، قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
في البناء الاجتماعي للفرد:
إذا كانت ضوابط التربية الإسلامية في مرحلة الشباب والمراهقة قد تمخَّضت عن سلوك وممارسة عملية على حدّ مصطلحات علماء التربية الحديثة، أو تمخَّضت عن استقامة وأخلاق على حد التشريع الإسلامي، فإن الشباب بعد ذلك سينتقل إلى مرحلة النضج والرجولة، كما اصطلح على ذلك علماء التربية، وأطلق عليه مرحلة البناء الاجتماعي للفرد، وقد تعقَّب المنهج الإسلامي في التربية المرحلتين بصورة شاملة وعميقة وجادة، كعهده دائمًا في بناء الفرد والجماعة.
أولًا: مرحلة النضج:
ومرحلة النضج تكون ما بين سنِّ العشرين إلى الثلاثين عامًا، وتخضع هذه المرحلة لضوابط التربية الإسلامية والتعليم، ومن أهمها:
1-
الضابط الأول: وهو أن العقد الثالث من العمر ضابط بذاته لهذه الحلقة الناضجة من الحياة، فهي الحلقة المثالية لبناء حياة
اجتماعية على أساس قوي متين، وقد كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد في هذا السن تعبيرًا دقيقًا وصادقًا عن تمام النضج الاجتماعي، وتقريرًا يعبر بدقة عن نضوج البدن، ليقاوم الحياة الجنسية الجديدة، بحيث لا تضطرب القوة، ويتحكم الناضج حينئذ في ضبط الشهوة نوعًا ما، وخاصة بعد اجتيازه مرحلة المراهقة، التي هي من أخطر المراحل، فلا يسرف فيها، ويحفظ على النفس اتزانها وقوتها.
2-
الضابط الثاني للسلوك التربوي القويم هو الزواج، فجمال الزوجة، وملكة التسلية، والإمتاع في حديثها، وغريزة الإيثار والتضحية في سبيل حب زوجها، وغيرها من غرائزها الفطرية تسيطر على عقل الزوج، وتستبد بقلبه، فلا يجد في غير هذا الحلال الطيب بديلًا في الخبيث المحرم، ومن هنا تنحصر الشهوة فيما أحله الله له فقط دون غيره من المحرمات، ثم يتوالى بعد ذلك ما ينظم الشهوة ويضبطها، وهو إنجاب الأولاد وما يحتاجونه من نفقات ورعاية وحفظ وتوجيه وتربية وتعليم وتنمية للغرائر الفطرية، عند ذلك تنحصر الشهوة في إطار ضيق جدًّا مع زوجته ربة البيت وأم الأولاد، والحديث الشريف يحذر من الإفراط "فإنه نور عينيك ومخ ساقيك".
يقول ابن القيم الجوزية: وأما الجماع والباه "النكاح" فكان هديه "أي النبي" فيه أكمل هدي يحفظ به الصحة، ويتمّ به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها، فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلي، أحدها: حفظ النسل ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم، الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن، والثالث: قضاء
الوتر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة1.
والإفراط في الغريزة وعدم انضباط الشهوة يؤثر على الجسم والعقل معًا، يقول الطبيب إليكس كاربل: ومن المعروف أن الإفراط الجنسي، يعرقل النشاط العقلي، ويبدو أن العقل يحتاج إلى غدد جنسية حسنة النمو، وكبت مؤقت للشهوة الجنسية حتى يستطيع أن يبلغ منتهى قوته2.
3-
الضابط الثالث: أن يجعل الأساس في اختيار الزوجة أن تكون ذات دين، ثم يأتي بعد ذلك الجمال والبكارة والولود الودود، من باب الأولى، أو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو الواجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة:"تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" 3، فالمرأة الصالحة خير ما يرزق بها الرجل في حياته، لأنها تعين زوجها على طاعة الله دائمًا، ليظل معها في الحياة مستقيمًا طاهرًا عفيفًا، يرضي الله فيها، ويحافظ على عشرتها بالمعروف، وحسن المعاشرة لأهله، لأنه راع، وهو مسئول عن رعيته.
ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من خضراء الدمن، فقال:"إياكم وخضراء الدمن"، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء" 4، ومصدر الخطورة أنها تجمع بين ضررين
1 زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 307.
2 الإسلام ومشكلات الحضارة: سيد قطب 132.
3 متفق عليه.
4 رواه الدارقطني في الفتح الرباني 16/ 153.
كبيرين بالنسبة للرجل، أحدهما: الجمال الفاتن والمجرد من الدين والخلق، وفي هذه الحالة لا تنضبط الشهوة معها، فتكون نهاية الزوج كنهاية المدمن في الخمر، فيغيب عقله ويفنى جسده معًا.
وثانيهما: سوء الخلق، فلا ترضى به وعنه إلا إذا كان على شاكلتها، ويناظرها في سوء الخلق، ويجاريها في وقاحتها، فيكون تابعًا لها، بل أشد منها، لكونه إمعة لا إرادة له ولا شخصية، ولذلك كان خير النساء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في مالها بما يكره""رواه أحمد والنسائي".
وإذا لم يكن الدين والخلق الكريم هو أساس الزواج، تنخر الفتنة في عصب الأمة، ويعبث الفساد في الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير""رواه الترمذي".
4-
الضابط الرابع: حقوق الحياة الزوجية، التي تعمرها بالسعادة والتعاون والحب والإيمان، فرعاية تلك الحقوق تربِّي في النفس الإحساس بالمسئولية والشعور بالواجب، فيتناصح الزوجان:{وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، ويتعاونان معًا:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ويتشاوران فيما يخالط الأسرة والحياة:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] .
وهذه الحقوق تغرس في النفس المودة والمحبة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] .
وتربي حقوق الحياة الزوجية في النفس أيضًا الرعاية لحدود الله وأوامره، فينفقه الزوجان في الدين، ويقفان على حدود الحلال والحرام، ويحفظان أسرار الزوجية:{قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]، ويتعامل معها الزوج بالرفق والمعروف:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] .
وهذه الحقوق الزوجية أيضًا تربي في النفس رعاية حقوق الأولاد لتأمين حق الرضاعة والحضانة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَاّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] .
ومن واجبات التربية للأولاد تنمية الغرائز في نفوسهم، مثل غريزة الخوف والمراقبة والمحبة والتدبر في ملكوت الله، ليؤمن بربه عن اعتقاد لا تقليد، وينمي فيهم الملكات الحسية والفكرية والفنية، جاء في الحديث:"علِّموا أولادكم السباحة والرماية ومروهم فليثبوا على الخيل وثبًا ورووهم ما يجمل من الشعر""رواه الترمذي وأحمد وأبو داود".
ويربيهم أيضًا على أخلاق القرآن الكريم من معرفة آداب الدخول وأخلاق الاستئذان العامة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27]، والاستئذان على أهله ووالديه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ