الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثمار، فتحوَّلت تلك الجبال إلى زروع وثمار، وأفاض الله عليها من بركات السماء، وفي كل يوم جديد ترى بقعة جديدة عامرة بالثمار والزروع، وستظل دعوة إبراهيم باقية مباركة فيها إلى يوم القيامة، قال تعالى:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] ، وهذه هي القيم الأخلاقية لمهنة الزراعة التي جاء بها القرآن الكريم، أما فقه المزارعة، وباب إحياء الموات من الأرض وغير ذلك مما يتصل بالزراعة، فقد تولَّى الحديث الشريف والفقه الإسلامي شرحه بالتفصيل في نظام فريد، شهد به وبدقة إحكامه أعداء الإسلام، والفضل ما شهدت به الأعداء.
التصوير القرآني لحرفة الرعي والصيد:
والرعي والصيد من أقدم الأعمال الحرفية، التي عرفها الإنسان البدائي القديم، حيث كانت الأرض معمورة بالأعشاب والمرعى، وما عليه إلا أن يتحرك وراء الحيوان الأليف لتبتلعه الوديان المعشوشية، والسهول الممرعة، ولا زال الإنسان المتحضر في العصر الحديث، يعتمد على الرعي والصيد، فالحيوان يستخرج منه أهم غذاء للإنسان، وهو المواد "البروتينية"، والمواد "الدهنية"، فمنه تأخذ اللحوم والشحوم، واللبن والجبن، والزبد، والقشدة والسمن، وتستخدم جلودها في شتَّى الصناعات الحديثة من الأحذية، والأحزمة والحقائق وغيرها، كما كانت تستخدم قديمًا في إقامة البيوت، ومن أصوافها تُصنع أفضل أنواع الملابس الثقيلة والخفيفة، وليست حرفة الرعي وتربية الحيوان بالحرفة البدائية البدوية في العصر الحديث كما يدَّعي البعض، ولكنها أصبحت
في منزلة الزراعة مدنية، وحضارة تدفع إلى المدنية والتقدم والرقي، وكذلك الصيد ما زال أهم الحرف المتحضرة في العصر الحديث، مثل صيد الأسماك والحيوانات البحرية العجيبة، ومثل استخراج اللآلئ، واليواقيت، والجواهر والمرجان من البحار، فأصبحت لها وزنها الحضاري وميزانها النقدي في مجال الاقتصاد المعاصر، فإذا ما توفرت هذه المصائد لدى أي أمة، قفزت بها هذه الحرفة إلى مستوى الدول الغنية الواسعة الثراء بين دول العالم في أنحاء الدنيا، ومنذ قرن اشتهرت بريطانيا بأساطيلها البحرية لصيد الأسماك والجواهر في البداية، وعن طريق الترويض في هذه الحرفة خلعت عليها الدول المجاورة لقب "سيدة البحار"، ثم انطلقت من هذه الحرفة لتسيطر على الدول الضعيفة باستعمار أراضيها قرابة قرن من الزمان.
أما حرفة الرعي فكانت مهنة أفضل خلق الله، وهم الرسل عليهم السلام، لتنمي في نفوسهم غريزة الصبر وقوة الاحتمال، وتحمل الشدائد، فكليم الله موسى عليه السلام حينما خرج خائفًا من المدينة، وتوجَّه تلقاء مدين، وجدّ أمة من الناس يسقون أغنامهم من بئر، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 23-28] ، وهكذا ظل موسى عليه السلام في مهنة الرعي عشر سنين عند نبي الله شعيب عليه السلام، ليوفِّي ما عليه من صداق الزواج.
وكذلك بقية الأنبياء حتى جاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ليعمل في مهنة الرعي منذ بداية حياته لعمه أبي طالب الذي تكفُّله بعد وفاة جده عبد المطلب، والسيرة النبوية تحدثنا عن ذلك بالتفصيل، ويصوّر القرآن الكريم المرعى والأعشاب التي أنبتها الله بعد الغيث بلا رعاية من الإنسان، حتى أصبحت المرعى كالماء والنار والملح من الأشياء المشاعة، التي لا يختص بها أحد دون آخر، بل هي حق مشاع لجميع المسلمين: الناس شركاء في ثلاثة وقيل في أربعة: الماء والنار والكلأ والملح، اللهم إن حمى ولي الأمر المرعى لفئة معينة من المسملين لفقرهم، كما حمى النبي صلى الله عليه وسلم "أرض النقيع"، وكما حمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض "الربذة"، قال تعالى في المرعى:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 31-32]، وقال تعالى:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 30-33]، وقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5-8] ، وقال تعالى:{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 142-144] ، وهكذا يصور القرآن الكريم في سورة سميت باسم الأنعام -وهي من كبار السور- الحيوان الذي يحل في حالاته المتنوعة، وما يحرم من الحالات الأخرى كأن يكون دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير أو ميتة، فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم، وقال تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66] .
وأما النحل وما يستخرجه من عسل مصفى فيه شفاء للناس، حين يتخذ من الجبال بيوتًا، ومن الشجر وما يقيمه الناس من الخلايا المعدة على غرار بيوتها في الجبال والشجر، يقول تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ
كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68-69] ، وأما صيد الحيوانات من البر فقد حرم الله صيده في زمن الإحرام، وأحله بعد التحلل من مشاعر الحج، قال تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] ، ويدخل في ذلك الطير، وهو حيوان أيضًا مما جاء الحديث بتوضيحه، فما نصَّ عليه بالتحريم فهو حرام، وما عدا ذلك مما تعارف عليه الناس فهو حلال.
وأما صيد الأسماك واللآلئ والجواهر واليواقيت، والمرجان وغيرها من أصداف البحر وحلاه، فقد صوره القرآن الكريم تصويرًا يحثُّ فيه عباد الله على أن يبتغوا من فضل الرزاق ونعمه الكثيرة، فيغتدى باللحم من الأسماك المتنوعة، ويتزينون بأصدافه وجواهره، ويزدادون ثراء من البحر كالبر، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14]، وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12]، وقال تعالى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 19-22] ، فالتصوير القرآني لهذه الحرفة أيضًا يحثُّ على تشريعها للبشرية، لكن من خلال القيم السامية التي جاء من أجلها
التصوير القرآني لبناء الخلق القيم في الإنسان، حتى نحسن معاملته مع الله ومع نفسه ومع الناس أجمعين، ولا تخلو كل آية من الآيات السابقة مما يأتي من الحث على العمل لا الكسل والخمول، فليس هذا من طبيعة المؤمن، بل يجب عليه أن يعمل، وأن يختار العمل الذي يجيده، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، وإلا وجب عليه أن يعمل في المهنة التي تحتاجها الأمة لتسدَّ النقص الواقع فيها.
التشريع والتقرير لهذه المهنة العملية من خلال ما شرعه الله سبحانه وتعالى حين ذكرها في القرآن أمرًا ونهيًا أو تقريرًا، سواء أكان ذلك إخبارًا عن قوم أو أنبياء سبقوا، أو كانوا توجيهًا صريحًا لأنه محمد صلى الله عليه وسلم فكلاهما تشريع لنا وشريعة إسلامية لهذه الأمة الآخرة، ودائمًا يكون التشريح والتقرير للحرفة من خلال النص على القيم السامية التي يتعامل بها الإنسان الصالح مع الله ونفسه ومع الناس أجمعين، مثل قوله:{لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} ، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} ، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} ، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
…
وهكذا في كل آية اشتملت على حرفة أو مهنة في القرآن الكريم.